بقلم: محمد عبد الحليم بيشي
رزئت الأمة الإسلامية بفقد عالم رباني ورجل إيماني وفارس دعوي لا يجارى ولا يبارى، وهو الشيخ أبو عمار محمد أحمد الراشد في بلاد الملايو الثلاثاء (23 صفر الخير 1446-27 أغسطس 2024).
تميز الرجل بميزات قلّ أن تجتمع إلا للعظماء والمجددين والمنظرين، فهو فارس البناء تأسيسا وتخطيطا وتصميما وتجميلا، وهو منظر التخطيط الدعوي، وهو الناقد البصير للمسار الإسلامي، والمجتهد المفلق في إبداع النظريات الدعوية، وهو البصير الخريت الذي أشرف من علّ على التراث الإسلامي مقتبسا من قطوفه الدانية وثماره اليانعة ما أحيا به سير الصالحين وسمت المتقدمين لتكون رفدا للمرابطين في حقل الدعوة. فقد كانت كتبه ومؤلفاته وسيرته قد نقشت في صدور الرجال العاملين والمجاهدين، وظلت تمدهم بمدد الحياة والانطلاق، وكانت منائر وصوى يهتدى بها في الليل الحالك الذي نآء بكلكله على المسلمين في زمن التيه والانحراف والردة عن الدين، حيث كان الرجل من القالين لكل التيارات التي أمسكت أحذيتها الخشنة بخناق الأمة، مانعة لها من التصالح مع دينها، ومعيقة لها من ركوب أسباب العزة وسبل النهضة.
ولد الشيخ في (8 يوليو 1938) في حي الأعظمية جوار الإمام أبي حنيفة بعاصمة الرشيد في العراق المجيد، وعرف من صغره بالموهبة والعصامية، فأكبّ منذ نعومة أظفاره على القراءة الجادة الواعية والمستوعبة لكتب التراث والأدب العربي، وكان مقتنصا لما يصدر من المجلات الأدبية العلمية السيارة في زمنها، وافتتن بقلم إمام الأدب العربي المعاصر مصطفى صادق الرافعي.
ولطهارة المعدن ونبل المحتد وكرم الأرومة، ركب سفينة الدعوة مع الإخوان المسلمين، وتتلمذ للأكابر أمثال محمد محمود الصواف، وكذا شاعر الدعوة وليد الأعظمي، وعلامة العراق أمجد الزهاوي، كما حضر الدروس المشيخية في جنبات بغداد عند الشيخ المحدث عبد الكريم الشيخلي، والشيخ محمد القزلجي الكردي الذي أخذ عنه الفقه الحنفي والأصول، ومحمد العسافي، وتقي الدين الهلالي المغربي أيام إقامته بالعراق، مما جعله من الجهابذة العارفين بتراتيب التراث الإسلامي والأدب العربي.
وأما دراسته النظامية فقد امتدت من المرحلة الابتدائية في مدرسة تطبيقات دار المعلمين، إلى أن تخرج بشهادة الحقوق والمحاماة من كلية الحقوق في جامعة بغداد، وذلك سنة (1962).
العمل الدعوي: منذ ريعان الشباب وخطوات الراشد تسعى قُدما في الانتصار للحركة الإسلامية، وقد كلفه التزامه بالإخوان المسلمين العنت من نظام البعث في العراق، حيث أشرف على التنظيم بتكليف من المراقب العام عبد الكريم زيدان، وتلونت حياته واغبرت بموجات الاعتقال والاضطهاد، مما اضطره إلى الاختفاء، ثم الهروب إلى الكويت، أين كتب مقالاه اليانعة في مجلة المجتمع – الجزيرة آنذاك- ولم يستطع العودة للعراق لأنه كان من المحكومين بالإعدام سنة (1987). وظل رحمه الله مهاجرا متنقلا بين الكويت والإمارات، ودول أوروبا محاضرا ومناصحا ومرشدا للدعاة إلى أن استقر في آخرته بالملايو، حيث توفي مهاجرا وقد وقع أجره على الله.
التجربة التنظيرية: وهي تجربة ترثه مفعمة بمعاني الاجتهاد والإبداع والتخطيط والتنظير، بما يرفعه إلى مصاف المفكرين المفردين، ويصعب الإلمام بها، ولكنه يمكن تلمس أهم معالمها في الآتي:
1-الأصالة: فجلّ كتابات الراشد تمتح من المصدرين العاليين القرآن والسنة، وجل تنظيراته تتركز على الكلي فيهما، وتستدعي الدال منهما على ما يريده من إحياء لفقه الدعوة، وهو الفقه اليتيم في تراثنا. كما يبرز حس التأصيل عنده في الالتفات إلى بعض الكتب المهمة في بناء ثقافة الداعية، حيث أبدع في تحيين بعض المعارف التراثية، فكتب تهذيبا لمدراج السالكين لابن القيم، ثم إحياء الغزالي في بعث مهم لفقه التزكية، وكتب تهذيبا لكتاب الغياثي للجويني لتأصيل وتقريب السياسة الشرعية، وانخرط في معارك الدفاع عن السنّة ضد منتقصيها وهاتكي حرم أساطينها، فحرك قلمه للدفاع عن الراوي الأول للحديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- الجمالية: التي صبغت جل مؤلفاته، فكان فيها الإبداع البياني واقتناص جماليات اللغة العربية، وحسن السبك والترتيب والتسلسل، ما جعل رسائله عيونا باسقة في الأدب العربي المعاصر، كيف لا وهو الذي هضم مكتوبات الأكابر كالرافعي وعبد الوهاب عزام وأحمد حسن الزيات، وتشرب مقطوعات الشعر العالية من وليد الأعظمي ومحمد إقبال وعمر بهاء الدين الأميري، وبرز ذوق الراشد الجمالي في اللوحات التي صدّر بها كتبه، والتي كان يخطها بأنامله الدافئة المبينة عن حس جمالي مرهف غاب عن حياضه الكثيرون. وبرز ذلك الانشداد للجمالية في رسالته البديعة" آفاق الجمال"، وهي الرسالة الثانية من سلسلة مواعظ داعية.
3-الاستيعاب: الذي تمكن به من الطواف في جنبات التراث الإسلامي والتجارب الإنسانية المعاصرة، حيث تنم كتاباته عن استيعاب خرافي للتيارات الفكرية والمذهبية، فقد استطاع أن يجمع بين تقعيدات الأصولي، وبراعة الفقيه، وتخريجات المحدث، ولطائف المفسر، وبلاغة الأديب، ومكنة المؤرخ، وعمق الفيلسوف، ودقة الحيسوبي. والغرابة الكبرى هي في مزج كتبه ببنائها الرصين الجامع لأشواق الروح ومعالي العقل، وفنون الذوق، وجمال السبك، وحضور المعارف واللطائف التي تشدك إلى معانيها الباهرة ودلائلها الواضحة.
4-الاقتفاء: فهو رجل سلفي من الطراز الرفيع، يحضر عند الدليل، ويستدعى سير النبلاء من العلماء والصالحين لرفد الدعاة بالقصص المنعشة للآمال لقطع الأرض سيرا في الغدوة والدلجة والروحة، إذ أن قصص الصالحين من جند الله تعالى، ويظهر ذلك الإغناء في كتبه الأولى، أي المنطلق، ثم العوائق، وأخيرا الرقائق، فالبوراق، والتي جعل بها علم الدعوة أصيلا له سوابقه وجذوره القوية في سير الدعاة والعلماء من السلف الصالح.
5-التحرير والتنظير: فقد أبدع الراشد في جل كتبه التي نافت على الستين، وخاصة المسار، وأصول الإفتاء في إخراج نظريات فذة في التخطيط والترشيد للأعمال الدعوية التي زهت بها مؤسسات الصحوة الإسلامية، مثل نظريات: التنظيم الدعوي، حق الدعوة، الشورى، المداراة التربوية، تمييز الفتن، الشروط العامة للتوثيق، المالية الدعوية، الإغاثة، الجهاد والقتال والهدنة والصلح، النظرية العامة في الفكر السياسي الإسلامية.
كما تميز في هذا التحرير والتنظير بالكليات، ولم يتنزل إلى التفريع المبدّد إلا لماما، كما يظهر من رسالته الفذة: "تنظير التغيير، النظرية التكاملية للتغيير السياسي الإسلامي" الذي تغيا به إرشاد ثورات الحرية المهدورة في عالمنا البئيس بأثقال الظلم وكوابيس الطغاة المستخفين بالشعوب، والمرفودين بالجهلة المنطقين بسياط كأذناب البقر يذلون بها الخلق، ويهينون الكرامة، ويعيقون النهضة.
6-النقد والاستدراك: راكم رجال الحركة الإسلامية من أيام المؤسس حسن البنا كتابات كثيرة وخلّفوا أعمالا جليلة في الانعطاف إلى الفهم الإسلامي الصحيح، ولكن كل جهد بشري هو عرضة للنقد والمراجعة والاستدراك، وهو ما عمد إليه الراشد في كتابه الأهم "المسار"، والذي افتتحه بومضة نقد، واستدعى فيه النظريات الدعوية السابقة مضيفا ومتمما وبانيا، داعيا إلى تصحيح السلوكات الدعوية، ومرشدا إلى التلبس بمعاني الورع والفعالية وعدم الارتكاس والانتكاس، كما نجد ذلك التخطيط القائم على النقد والاستدراك لائحا في كتابه السابق العجيب الفريد، حيث قعّد للتجميع، والبرمجة الفردية والجماعية، والاستقطاب والاستطراق التربوي، وقابلية الاجتهاد والتكيف المرن، وبناء العلائق، ومقومات الشخصية الدعوية الرجالية والنسائية، مما يعد فتحا مبينا في مجال فقه الدعوة وأصولها.
7-الشمولية: فقد أسهمت كتاباته في إعادة الاعتبار لشمول الإسلام وهيمنته على الحياة في عز اصطراع الإيديولوجيات، وتداعي الثقافات لتشويه هذا المفهوم وربطه بالعنف والإرهاب، وذلك في كتابع الفذ" صناعة الحياة"، والذي ارتأى به تغيير المفاهيم الداحضة التي أذاعها المبطلون والمرجفون والغالون والمحرفون.
8-العملية والاستراتيجية: وتظهر العملية أو ما يسميه مالك بن نبي بالمنطق العملي في كتابات الراشد التخطيطية، فقد كان يراعه بارعا في التخطيط الدعوي، وبناء الشبكات الإيمانية المنبثة في الأمة، والتي حملت أعباء الدعوة، والقيومية بالأمر والنهي، وأفعال الخير والبر، وميادين الإغاثة والنصرة، واكتساح الفضاءات الإعلامية للصدح بكلمة الحق، ولي الأعناق للخضوع للشرع الحكيم، إلا أن قلمه بزّ غيره في التخطيط الاستراتيجي، فكانت كتاباته تترى بهذه المعاني لافتا كتيبة الدعاة إلى وجوب دراسة علوم التخطيط والإحصاء والإدارة والنفس والاجتماع والسياسة للإمساك بزمام الحياة، وعدم الاقتصار على الدعوة داخل أمة الاستجابة، فكم وجّه أنظار الدعاة إلى الحقول المهجورة في الدعوة كالتربية الفنية، والرياضية، والعمارة، وخاصة في كتابه الفذ الذي أحاط بجيد الدعوة، وهو "العمارة الدعوية" الذي قال في مستهله:" هذا الكتاب ميثاق لعصبة رجال العمارة الدعوية، منه يستخرجون خططهم، وإلى فقهه يعودون، ومع حماساته وطموحاته يطوفون، وهو الوصية والتذكرة والمنهج والمرجع والملاذ، إذا حجب الضباب مسحة الجمال وحار المبدع فإن عليه مدار الفتوى الفنية، ومذهبه الفيصل في التأويل، وسيقوم بحول الله تعالى ولمدة حَكَمًا عدلًا بين الاجتهادات ويكون مدخلًا كريمًا لاستيعاب المعرفيات".
9-الالتزام المبدئي: فبعد الاحتلال الأمريكي للعراق سال مداد الراشد بعديد المكتوبات، وصدح صوته مبرقا ومرعدا بالتوجيهات الرشيدة للمقاومة العراقية التي برعت في تقصير الليل الأمريكي، وكتب لها رسائل لائحة البيان واضحة البرهان في المفاصلة مع المحتل ومنازلته بإحياء فقه الجهاد، ومن ذلك رسائله: صحوة العراق، رمزيات حمساوية، بوراق العراق، المحارب المحرابي. وقد أسهم مع رجال هيئة علماء العراق في ترشيد الجهاد، قبل أن ينزلق العراق بالمؤامرات والمماحكات إلى حرب طائفية ذهبت بأفراح الانتصار على الأمريكان واندحارهم.
10-التحريك والتيلبغ: وهو الميدان الأرحب الذي شحن به كتاباته ذات البعد الاستنهاضي، فكانت سلاسله بناء لاستراتيجيات الحركة الحيوية، مشددا على أن قيادة الحياة وأستاذية العالم من المقاصد العقدية الكبرى للإسلام، منبها كتائب الدعاة إلى وجوب التخلي عن البائد من الأساليب العقيمة، والتحلي بالتحريك والتفعيل والتبليغ الدائم، ومنبها على أن تحريك الحياة لا يقبل الارتجال، فلا بد من سمت الجد العملي الذي يجب على كتلة الدعاة العصريين إتقانه ومجاراة المجالات النظرية والعملية وخاصة تكنولوجيات الاتصال المعاصرة، بل أنه يحض على الامساك بتلابيب المحركات الحيوية المعاصرة كما فصل ذلك في كتابه "عوامل التحريك".
ونختم هذا التطواف السريع بإيراد أحلام الرجل عندما طال به العمر غريبا عن دياره، حيث يقول:" أنا أول الواقعيين. وأفهم نفسي ومستواي. وخلاصة حياتي: أني ضمن أفراد هذا الصنف الثاني من المؤمنين، ممن خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئاً، فعسى الله أن يتوب.. وأرضى بكُوَيخٍ في أطراف الجنة، مع ستر ونجاة من النار. وأُريد لبقية الدعاة أن تدور آمالهم وأطماعهم في هذا المدار في آخر الزمان الذي أصبحت فيه منزلة الإمامة في الدين أكثر ندرة وصعوبة. وتلك رحمة من الله عظيمة لو أنه نجّانا من النار وهولها وجعلنا في أرض هي كأرضنا في هذه الحياة الدنيا".
رحم الله الأستاذ المفكر المنظر محمد أحمد الراشد، وألحقه بكوكبة الصالحين، وحسن أولئك رفيقا.