الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 33)
بينما تتعرض الأمة لمحنة من أشد المحن ضراوة في تاريخها، ومن أكثرها قسوة في وقعها وأثرها، ما زالت لم تفقد يوما بوصلتها على طريق الحق، ولم يتطرق لها اليأس رغم الطعنات الغادرة والأزمات المتعاقبة، يعتصم أبناؤها بحبل الله المتين ونوره المبين، يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، يحدوهم الأمل ويترقبون النصر يقينا في قوله تعالى : {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47).
إن الثقة في نصر الله تعالى لعباده المؤمنين حقيقة لا مراء فيها، وإن قل العدد والعدة وغاب النصير، وهو مرهون بتأييد الله يهبه لمن يشاء، ليظل سنة ماضية لا تتغير ويقينا راسخا لا يتردد وحقيقة لا تتبدد ولا تنسخ، ما إن اطمأنت بها القلوب وسكنت لها الأفئدة وخلصت معها النوايا واستنفد المؤمنون فيها الأسباب.
لقد مر عام على الطوفان تزايدت خلاله التضحيات وتكاثرت معه الآلام، إلا أن ملامح النصر ظلت بادية في الأفق تترقبها عيون المخلصين وتتلمسها قلوب المؤمنين وتتجلى فيها كرامات الأولياء، وتظهر فيها بطولات الرجال الصامدين والنساء المرابطات على ثغور الأمة، تمامًا كما ترقب المسلمون في مثل هذه الأيام انتصارات حطين بقيادة البطل صلاح الدين الأيوبي.
ولعل من حكمة الله تعالى أن يأتي النصر على ضعف في العدة وقلة في المؤونة، واستنفاد لكل الأسباب، وافتقار إلى جنب الله، يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- في مقال له بعنوان (قانون النصر الذي لا يتخلف): "تلك سنة الله في الدعوات، لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون، ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمرًا ماحقًا لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير".
الطوفان حرب تحرير وبداية استقلال
إننا اليوم ونحن نقف على أعتاب عام مر منذ بداية طوفان الأقصى لا نجد أنفسنا أمام معركة عابرة ولا حلقة في سلسلة المواجهات مع الاحتلال الصهيوني الغادر، ولكننا أمام علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية ومنطلق إلى تحرير كامل الأرض، ونقطة البداية لزوال الاحتلال من أرض فلسطين المقدسة التي بارك الله حولها.
لقد أمعن الاحتلال في قتل الأطفال والنساء وانتهاك الحرمات أملا في إضعاف شوكة المقاومة، وإنهاك قوتها، وانفضاض الحاضنة الشعبية من حولها، ولكنها تزداد- بفضل الله- كل يوم قوة وتجتمع عليها كل يوم قلوب أهل فلسطين معلنين بثباتهم وصمودهم الأسطوري أن المقاومة وجهاد العدو هو الخيار الأوحد لتحرير الأرض، وأن أي محاولات لجر القضية إلى دوامة المفاوضات المزعومة والسلام الهش والتطبيع مع المجرمين، إنما هو سراب لم يقبله الفلسطينيون ولن يسمحوا بتمريره أو استهلاك مزيد من الوقت فيه.
لبنان وفلسطين قضية واحدة
في ثنائية القتل والعدوان الصهيوني ها هي لبنان -الدولة العربية العضو في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والأمم المتحدة- يتغول عليها عدوها الغاشم الفاجر وينتهك سيادتها منذ احتلاله فلسطين عام 1948 وظل يتغول عليها جوًا وبرًا وبحرًا وينتهك سيادتها ويستولي على جزء من أراضيها وتحوم طائراته في أجوائها على مدار الساعة قبل طوفان الأقصى وبعده، واليوم يوسع عدوانه ويحشد قواته لغزوها واحتلالها وإحداث فتنة بين مكونات شعبها.
والشعب اللبناني بكافة طوائفه ومكوناته وقواه- منذ احتلال فلسطين- ما انفك يدافع عن وطنه ويُساند الشعب الفلسطيني لأسباب موضوعية فرضها وحدة المصير ووحدة القضية وتشابه الاستهدافات والاغتيالات على مدار سبعين عاما، فالعدو هو نفسه والاحتلال هو ذاته والإجرام في التدمير الشامل واستهداف المدنيين والإبادة الجماعية، وشباب الشعب اللبناني هم المعول عليهم في حماية لبنان الدولة والشعب والأرض والوحدة.
والشعب اللبناني إزاء العدوان والاحتلال هو شعب واحد وأمة واحدة، في إسناد بعضه بعضًا ونبذ أية خلافات، والالتحام فيما بين أبنائه جميعا للتضامن وقت المحنة، والالتحام بالعدو لدحره وهزيمته بعد أن داس العدو كل القوانين وصار يشعر بفائض القوة الغاشمة، ولن يرده عن لبنان إلا ثبات أبنائه في تحرير أرضهم وصيانة عرضهم وكتابة تاريخهم مجتمعين ضد عدوهم.
إن محاولات الاحتلال توسيع دائرة المواجهة إلى لبنان ليضرب بنية الدولة ويهلك مزيدًا من الحرث والنسل ويقتل مزيدًا من المدنيين، إنما هي محاولات من أحاطه الفشل من كل ناحية واستبد به اليأس من كل جانب وأحاطت به خطيئته من كل مكان، ولن يخرج من تلك المحاولات إلا مهزومًا خائبًا خاسرًا بحول الله.
كما أن الحقيقة الساطعة البينة هي أن فلسطين ستتحرر والعدو الغاشم إلى زوال بمشيئة الله ووعده في القرآن، ولكن الذي سيبقى على مدار الأجيال هو الخذلان العربي الرسمي؛ ليكون عارًا على من خذل، ولعنة على من فرط، وخزيًا على من ساند العدو.
لكن وفي نفس السياق؛ فإن خذلان الأنظمة العربية لقضية فلسطين لن يعفي الشعوب العربية والإسلامية من مسؤوليتها في الدفع بهؤلاء الحكام ليقوموا بدورهم ويطلعوا بأدوارهم المطلوبة ويتحركوا بمقدرات شعوبهم نصرة لقضية الأمة الأولى والمركزية: فلسطين.
لقد ساهمت الشعوب الإسلامية وبذلت جهودًا واسعة في نصرة الحق وقامت بأدوار الدعم والإسناد والتي كان آخرها ما قامت به الجماعة الإسلامية في لبنان من الالتحام بميدان المعركة ثم مشاركتها الفاعلة في استقبال النازحين من جنوب لبنان، تضمد الجراح وتوفر كافة المستلزمات لهم، إلا أن هذه الأدوار المنوطة بالأمة ما زالت تحتاج إلى المزيد، حتى لا تكون فورة تنتهي مع الوقت، بل دائمة لا تتوقف مستمرة لا تنقطع؛ ما استمر الاحتلال في جرائمه، وما بقي محتلا لبلادنا.
عندما ينتزع السودان النصر من أضراس الباطل
ومع الصمود الأسطوري لشعب فلسطين في مواجهة الاحتلال الذي مر عليه عام، ها هي السودان تفرح بعد عام من الحزن وتنتزع النصر من بين أضراس الباطل، لتظل- بإذن الله- موحدة بعد أن تكالب عليها الأعداء والانتهازيون يمزقون جسدها الموحد ويضعفون مقدراتها، مدعومون من نفر من أبناء جلدتنا ممن يتسمون بأسمائنا ويتكلمون بألسنتنا ولكنهم عار على الأمة أن يكون فيها أمثالهم.
لقد حاولوا تفكيك السودان الموحد وسعوا لتمزيق الكيان الواحد وتحركوا بكل قوة للقتل والتدمير في السودان يقتلون الأطفال والنساء ويروعون الآمنين ويحاصرون القرى والبلدات ويدمرون الديار والمزارع لا يلوون على شيء سوى إنهاك السودان وتهجير شعبه وتشريده في الآفاق.
لقد كانت السودان بموقعها الجغرافي وتركيبتها السكانية ومواردها الطبيعية عمقًا استراتيجيًا للأمة الإسلامية عامة، وامتدادًا للأمن القومي المصري خاصة، فشريان الحياة (نهر النيل) يجمع بينهما ويصنع قاسمًا مشتركًا بين كيانهما الواحد ومصيرهما المشترك، وإن محاولات سلطة الانقلاب الفاسدة في مصر التغاضي عن حقائق التاريخ ووقائع الجغرافيا ومقومات الأمن القومي وإعراضها عن دعم السودان في محنته وتقاعسها عن الانحياز لوحدة السودان وسلامة أراضيه، كل ذلك لن يغير من الحقيقة شيئًا ولن يفرض واقعًا جديدًا، فما هي إلا إن تنكشف غمامة الانقلاب العارضة، وستبقى مصر والسودان لحمة واحدة وكيانًا واحدًا في دولتين.
إن الواجب الكبير اليوم على الشعب المصري أن يعي الحقيقة ويدرك ما يحاك له ولإخوانه في السودان وفي فلسطين وفي سورية وسائر دول المنطقة التي يسعون لتفريقها وإضعاف شوكتها وإشغالها بصراعات داخلية وإدخالها في حمامات من الدم ودوامات من العنف، على أن يتبع هذا الوعي عمل متواصل وسعي متزامن لمواجهة هذه الحملات الشرسة والتصدي لكل محاولات تمزيق الأمة وتفريق كيانها الواحد.
للشعوب الحرة الكلمة العليا
إن نقطة البداية تكون دائمًا من خلال شعوبنا الإسلامية عندما تحرر معالم الطريق وتفتح المغاليق وتتصدى للطغيان وتنتزع حقها ممن استولوا على الأوطان ببطشهم واستبدادهم، لتعيد الأمور إلى نصابها وتمتلك إرادتها وتسترد حقها الأصيل في اختيار من يحكمها.
لقد شهدت الأيام الماضية حراكًا للشعب التونسي خطى فيه خطوات ثابتة نحو انتفاضة جديدة، واجه من خلالها آلة البطش التي طالت الجميع وانقلبت على إرادة الشعب فغيبت المؤسسات المنتخبة وأعادت القبضة الأمنية من جديد بعد أن تنفس الشعب نسيم الحرية في ظل ثورته الخضراء التي انطلق بها أواخر العام 2010م وابتدر بها حراك "الربيع العربي".
وعلى مرمى البصر خرج الشعب الأردني الأبي ليسطر ملحمة جديدة بانتخاب من يعبر عن صوته الحر من الإسلاميين وغيرهم في الانتخابات التشريعية في ضربة موجعة لكل من ظن أن الشعوب يئست أو أصابها الإحباط، أو اختلت أمامها البوصلة أو تخلت عمن يدعم قضاياها الحقيقية ويصطف بجانبها في معارك الحرية والكرامة ونصرة القضايا الإسلامية.
إن الوعي الذي يتجلى في حراك الشعوب إنما هو في الحقيقة يشكل نقطة البداية في طريق طويل محفوف بالمكاره ومملوء بالمصاعب، لا ينبغي للشعوب أن تتراخى بعده أو تتوانى عن الحفاظ عليه أو التصدي لمن يسعى لاجتثاثه أو السطو عليه، لترابط على ثغرة الحرية وحقها في الوحدة وحقها في بناء حضارة تستند إلى دينها الذي هو مصدر عزتها وعقيدتها التي هي أساس وحدتها وقيمها التي داسها الطغاة: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
واللهُ أكبرُ وللهِ الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "
اﻷربعاء: 29 ربيع اﻷول 1446 هجرية - الموافق 02 أكتوبر 2024م