بعد أسبوع على بدء الغارات الصهيونية الواسعة على لبنان، في 23 سبتمبر الماضي، انتقل الاحتلال منذ يوم الثلاثاء الماضي إلى مستوى جديد من عدوانه على البلاد، ببدئه إصدار إنذارات الإخلاء في قرى وبلدات ومدن في الجنوب اللبناني، سواء تلك الواقعة على الحدود المباشرة مع فلسطين المحتلة من مسافة صفر، أو المتناثرة جنوب نهر الليطاني وشماله. ووجه، أمس السبت، ما قال إنه "نداء إلى جميع سكان القرى اللبنانية الذين أخلوا منازلهم"، مشيراً إلى أن غاراته "متواصلة، ومن أجل سلامتكم وسلامة أبناء عائلاتكم، لا تعودوا إلى المنازل حتى إشعار آخر".
وكان الاحتلال قد دعا في العديد من إنذارات الإخلاء سكان المناطق الجنوبية إلى النزوح شمالاً، إلى شمال نهر الأولي، شمال مدينة صيدا، الفاصل بين قضاءي صيدا والشوف، أي بين محافظتي الجنوب وجبل لبنان، والبعيد نحو 60 كيلومتراً عن الحدود الجنوبية. وقارب عدد المناطق المعنية بالإخلاءات، منذ الثلاثاء الماضي وحتى أمس السبت، 94 تجمعاً سكانياً، من قرى وبلدات ومدن.
وذيّل جيش الاحتلال إنذارات الإخلاء بعبارات من قبيل "نشاطات حزب الله تجبر جيش الدفاع على العمل ضده بقوة. جيش الدفاع لا ينوي المساس بكم ولذلك، من أجل سلامتكم، عليكم إخلاء بيوتكم فوراً والتوجه إلى شمال نهر الأولي"، مضيفاً: "أنقذوا حياتكم، كل من يوجد بالقرب من عناصر حزب الله ومنشآته ووسائله القتالية، يعرض حياته للخطر. أي بيت يستخدمه حزب الله لحاجاته العسكرية من المتوقع استهدافه. انتبهوا، يحظر عليكم التوجه جنوباً... سنعلمكم بالوقت الآمن للعودة إلى بيوتكم".
ووفق خريطة القرى المٌشار إليها في إنذارات الإخلاء، يبدو الانتشار الجغرافي متمدداً من أقصى القطاع الشرقي لجهة إبل السقي وضواحيها، وصولاً إلى أقصى القطاع الغربي، لجهة البيسارية في الطريق نحو صيدا، فضلاً عن المناطق الواقعة على امتداد القطاع الأوسط من مارون الراس على الحدود إلى العمق باتجاه النبطية مثلاً. ويظهر من خلال هذه الجغرافيا أن العديد من القرى واقعة على مشارف طرق رئيسية، مثل الطريق الساحلي من الناقورة باتجاه صيدا، أو مثل الطريق الأوسط من بنت جبيل إلى النبطية، أو من القليعة باتجاه النبطية غرباً، وباتجاه البقاع الغربي لجهة الشمال الشرقي.
في كل تلك الطرق، يوحي الإسرائيلي بنيّته عسكرة المنطقة، تمهيداً للقيام بعمليات حربية واسعة، سواء بالاجتياح البري، أو بشنّ غارات مكثفة عليها. واللافت أن العديد من المناطق المشمولة ببيانات الاخلاء ليست واقعة جنوب نهر الليطاني بل في شماله، والطلب من الناس الانتقال إلى شمال نهر الأولي، يدفع للتساؤل حول النيات الفعلية للاحتلال بشأن طبيعة عدوانه في لبنان، وما إذا كان فعلاً أبعد من مجرد "عملية برية محدودة".
وفي تلك السياقات، تركت الغالبية الساحقة من السكان والنازحين من القرى الحدودية قراهم وبلداتهم، منتقلين إلى شمال نهر الأولي، ولم يبق، حتى أمس الجمعة، سوى قلّة في القرى التي طلب الاحتلال من سكانها إخلاءها.
ويتكرر في لبنان نفس السيناريو الذي اعتمده الاحتلال في غزة، خصوصاً بعد بدئه الغزو البري للقطاع في 27 أكتوبر 2023، حين كان يطلب من سكان القطاع المهجّرين الانتقال من أحياء إلى أخرى، بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، بحجة قيامه بعمليات عسكرية. والغرض من التهجير الجماعي في غزة هو فرض سيطرته وإذلال الناس.
أما في لبنان، فإن جزءاً من أهداف هذه الممارسات يهدف إلى محاولة إشعال حروب داخلية في لبنان، سواء مناطقية أو طائفية، وسط تحذيرات من أن وجود أعداداً كبيرة من البشر وبشكل غير متوقع أو محسوب في مكان واحد قد يؤدي إلى نشوب خلافات على الموارد المتاحة من طعام وشراب ومكان للنوم واستخدام المراحيض.
غزة ولبنان
وإذا كانت الإخلاءات تسهل على الاحتلال الاجتياح البري للبنان، غير أنه رغم كل ذلك، لا تزال مسألة التقدم في عمق الأراضي اللبنانية صعبة بالمقاييس العسكرية.
وتبلغ مساحة لبنان 10452 كيلومتراً مربعاً. ومسألة حصر العمليات في جنوب الليطاني، أي على مساحة 800 كيلومتر مربع، أو في الجنوب بأكمله ذي المساحة البالغة 1987.6 كيلومتراً مربعاً، ليست واردة.
وإذا كان الاحتلال ينوي التدحرج في اعتداءاته على لبنان، بصورة مشابهة تقريباً لعدوان "عملية سلامة الجليل" في يونيو 1982، فإنه سبق أن تعرّض للعديد من النكسات في عدوان صيف 2006. في 24 يوليو 2006، قُتل جنديان صهيونيان وجرح 17 في معارك برية مع حزب الله في مثلث عيترون ـ مارون الراس ـ بنت جبيل.
وفي 1 أغسطس 2006، فشل الاحتلال في التوغل داخل عيتا الشعب. وليل 11 ـ 12 أغسطس 2006، حاول جيش الاحتلال التوغل حتى عمق 12 كيلومتراً عبر محور وادي هونين والطيبة القنطرة، وصولاً إلى وادي الحجير، بالتزامن مع قيامه بعملية إنزال في أطراف الغندورية، لكنه فشل في ذلك. كما أنه في الأيام الماضية تعرّض لضربات قاسية، وسقط عشرات الجنود قتلى وجرحى خلال محاولات التوغل من جهة إصبع الجليل.