https://ikhwanonline.com/article/266140
السبت ١٩ ذو القعدة ١٤٤٦ هـ - 17 مايو 2025 م - الساعة 09:06 م
إخوان أونلاين - الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمون
زاد الداعية

الابتلاء سنة الله في الدعوات

الابتلاء سنة الله في الدعوات
السبت 26 أبريل 2025 02:37 م
بقلم: الشيخ حجازي إبراهيم الثريا

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

يقول الله تعالى: ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ (العنكبوت: 1 – 3).

 

وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» البخاري.

 

أيها الأحباب:

أتوجه بتلك الكلمات للإخوان المسلمين بصفة خاصة وللناس جميعًا بصفة عامة.. أما كونها للإخوان المسلمين فهي تذكير لهم بما علموه حين سلكوا هذا الطريق، والذكرى تنفع المؤمنين.

 

وأما التوجه بها للناس أجمعين ليعلموا أن السجن والتعذيب، بل والقتل لن يزيدنا إلا ثباتًا ويقينًا وتسليمًا، ونقول مقولة الرجال الذين حكى القرآن عنهم: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب: 22)، وإن ذلك ليمنحنا شارة وعلامة أن أقدامنا على الطريق الصحيح، وأننا نسير في طريق أصحاب الدعوات.

 

ولعلهم يفقهون أنهم بصنيعهم هذا يُشْقون أنفسهم، ويَشُقُّون عليها، وكان يكفيهم أن يعتبروا بثمانين عامًا من التعذيب والقتل والتشريد والفصل؛ نالهم من ورائها الشقاء والفناء، وكان للجماعة الارتقاء والبقاء.

 

أيها الإخوان المسلمون... أيها الناس أجمعون:

إن الابتلاء عطاء من الله لمن أحبهم من عباده، ومنحة عظيمة لمن اصطفاهم من رسله وأنبيائه وأوليائه، ولا يدرك هذه الحقيقة إلا من مسَّ الإيمان شغاف قلبه، وصار الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فذاق طعم الإيمان، ولمس حلاوته، فغدا العذاب في سبيله عذبًا سائغًا شرابه، والنعيم في هجره ملحًا أُجاجًا.. وما أجمل قول القائل:

عذابه فيك عذب   ***   وبعده فيك قرب

وأنت عندي كروحي   ***   بل أنت منها أحب

حسبي من الحب أني   ***    لما تحب أحب

 

الابتلاء طريق المرسلين والمؤمنين الأقوياء

 

 الصورة غير متاحة

 الشيخ حجازي إبراهيم

   عن مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً فَقَالَ: "الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ". رواه أحمد.

 

 

 

فنوح عليه السلام يُهدَد: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ (الشعراء: 116)، ولوط عليه السلام يقولون له: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ (الشعراء: 167)، وإبراهيم عليه السلام يقول له أبوه: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ (مريم: 46)، ويلقَى في النار، ويؤمر بذبح ابنه، ويوسف عليه السلام تتآمر عليه امرأة العزيز، ويلقَى في غياهب السجن بضع سنين، وذا النون يلتقمه الحوت، وموسى عليه السلام يقول له فرعون: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (الشعراء: 29)، ورسل القرية الواردة في سورة يس يقولون لهم: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (يس: 18)،.

 

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فما كان ينتقل من محنة إلا إلى محنة طوال الوقت، ويشتد الأذى به فيُضرب حتى تُدمى عقبه في الطائف، وتُلقَى عليه القاذورات وهو ساجد عند الكعبة، ويتآمرون على قتله أو سجنه أو نفيه: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30)، ويُضرب في أُحد حتى تُشج رأسه وتُكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم؛ حتى يخرج من الحفرة التي وقع فيها، فيقول: "لن يُفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم"، فيقول الله له: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران: 128).

 

وبالعموم تطول المواجهة بين الرسل ومن معهم- حملة الدعوة الحق- وبين أعدائهم؛ حتى أنهم ليهتفون متى نصر الله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214)، وقال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام: 34).

 

هذا التأكيد القرآني يجعل المسلم يمضي في طريقه، ثابت القدم، هادئ النفس، مطمئن الفؤاد، لا يبالي بالمحن، مهما أناخت بداره، ولا يحفل بالشدائد، وإن ألمَّت به من كل جانب، وإنما يمضي إلى غايته، وهو على يقين وثقة من أن نصر الله قريب، يمضي المسلم في طريقه ولسان حاله يهتف بصدق وإخلاص مناجيًا مولاه: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي".

 

يقول ابن القيم: إن المسلم إذا نجا من كل العقبات التي يضعها الشيطان على الطريق المستقيم الموصلة إلى الله، بقيت له عقبة يطلبه العدو عليها لا بد منها، ولو نجا منها أحد، لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وأكرم الخلق عليه، وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته، أجلب عليه العدو بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جد في الاستقامة، والدعوة إلى الله، والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب، وأخذ في محاربة العدو لله وبالله.

 

وهذا ما بينه الإمام الشهيد حين يتحدث عن العقبات في طريقنا فيقول:

أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها، ستلقَى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين تمهدون للدعوة، وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد.

 

ثم يقول: "وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فستُسجَنون وتُعتقَلون، وتُنقَلون وتُشرَدون، وتُصَادر مصالحكم، وتُعطَل أعمالكم، وتُفتَش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان... ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2).

 

من حكمة الابتلاء

أيها الأحباب: إن الابتلاء بالشدائد والامتحان بالآلام، ضرورة لا بد منها لمن يصطفيهم الله لحمل رسالته، وتبليغ دعوته للآخرين، ولله في ذلك حكم عديدة منها:

- استكمال لجوانب الرجولة الحقة، وتحقيق لمعاني الإيمان الصادق، واستخلاص للنفس من حظوظها وشهواتها، وجعلها خالصة متجردة لمولاها، لا تطمع إلا في ثوابه، ولا تخشى إلا عذابه، ولا تركن إلا إلى جانبه، وتتبرأ من حولها وقوتها إلى حول الله وقوته.

 

- الشدائد تزيد أفراد الجماعة تماسكًا والتصاقًا، وما أشبه الشدائد للجماعة بقطعة الإسفنج التي كلما زاد الضغط عليها، تقاربت أجزاؤها وطردت الهواء من فجواتها، والهواء لا وزن له يذكر.

 

- في السجن والتعذيب والشهادة في سبيل الله دعوة صادقة تكسب الجماعة من ورائها أنصارًا وأعوانًا؛ لأن آهات المعذبين تسمعها الآذان من وراء الحجب، وتتلقفها القلوب من وراء الجدر، وتكون في بيانها لحقيقة الدعوة أبلغ من قول كل خطيب يتربع على عرش البيان، كما أن قطرات الدماء هي ماء حياة الدعوات وسر بقائها وخلودها، ولقد كسبت الدعوة أنصارًا عظماء من وراء التعذيب، ألا تعلم أن مفتاح قلب خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب قطرات الدماء التي سالت من وجه أخته، وأن أسد الله حمزة بن عبد المطلب قد سرى نور الإيمان إلى قلبه حين علم بأن أبا جهل آذى رسول الله، وأصحاب الأخدود آمنوا بعد قتل الغلام وفضلوا القتل حرقًا على النكوص في إيمانهم، وفي عصرنا هل آمن سيد قطب إلا حين رأى الفرحة العارمة تغمر شوارع أمريكا لقتل حسن البنا، وحينها أدرك نبل رسالته، وأنها هي التي تغيظ الأعداء، فآمن بدعوته، وقدم دمه فداء لما آمن به.

 

- والابتلاء به يُعلم الصادق من الكاذب: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 2).

 

- وبالابتلاء يتميز المؤمن من المنافق: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ (العنكبوت: 10- 11).

 

- وبالابتلاء يتميز الخبيث من الطيب: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).

 

- والابتلاء هو السبيل للعلم بالمجاهدين والصابرين من غيرهم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد: 31).

 

- الابتلاء هو السبيل لاختيار الشهداء من بين المجاهدين وما أعظمها من منزلة، الله هو الذي يجتبي لها من يشاء من عباده: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)﴾ (آل عمران: 140- 141).

 

- وبالابتلاء يرتقي المؤمن في الدرجات العلى في جنات عرضها السماوات والأرض: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 142).

 

أيها الإخوان المسلمون:

وهذه نصيحة من خلاصة تجارب الجماعة يُلقي إلينا بها المرشد الخامس للجماعة الأستاذ مصطفى مشهور- رحمه الله - أسوقها للإخوان المسلمين؛ لأنها دواء وشفاء لكثير من الأراجيف السارية، وأسوقها للناس أجمعين؛ ليعلموا أن ذلك من ثوابتنا، يقول: إن من الخطأ أن يظن البعض أن المحن ليست أمرًا طبيعيًا على طريق الدعوة، أو أنها نتيجة أخطاء وقعت فيها قيادة الجماعة، ثم يثار مثل هذا الفهم الخاطئ في الصفوف، فيحدث بلبلة مما يضر بالسير على الطريق.

 

وقد رأينا عكس هذا الفهم هو الصحيح، وأن تعرضنا للمحن دليل على أننا نسلك سبيل أصحاب الدعوات، ولو أننا لم نتعرض للمحن للزم التساؤل عن حدوث خطأ أو انحراف، وهل من المقبول أن يُقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه والرسل الذين تعرضوا للأذى كان ذلك نتيجة أخطاء صدرت منهم؟، ولكن حقيقة الأمر أن أعداء الله يحاربون دعاة الحق؛ خشية أن يزهق هذا الحق باطلهم. وفيما سقناه من آيات وأحاديث خير دليل على أن المحن والابتلاءات أمر طبيعي على طريق الدعوة.

 

ومن الخطأ أيضًا أن يظن البعض أنه كان من الممكن تفادي المحن بشيء من الحكمة والسياسة، أو ما يسمونه (الدبلوماسية) مع الأعداء، فها نحن قد مددنا أيدينا وفتحنا قلوبنا فما وجدنا غير ما رأيتم، وترون من ظلم واضطهاد وتلفيق وتهم.

 

بل يردد البعض ويقترح: التخلي عن اسم (الإخوان المسلمين) ونختار اسمًا آخر في سبيل أن تسمح الأنظمة الحاكمة بالعمل والحركة في ظله، أو سبيل إمكانية السير والحركة دون التعرض للأذى بسبب هذا الاسم الذي صار رمزًا للمحن والابتلاءات والمحاربة من أعداء الله.

 

ومنهم من يقترح التخلي عن معترك السياسة، وجعلها جمعية دعوة وبر وإحسان.. ولا داعي للمزاحمة في الانتخابات والصراع على السلطة، وما علموا أننا لا يهمنا من يحكم ولكن كل همنا بماذا نُحكم.

 

القضية ليست قضية الاسم، ولكن المسمّي، فالإخوان يحاربون، ولا يعترف بهم رسميًّا عند الكثير من الأنظمة الحاكمة، ليس لمجرد أن اسمهم (الإخوان المسلمون)، ولكن لما يحملون من فهم وأهداف وروح وحركة بالدعوة بصورة من شأنها أن تزهق باطل أعداء الله بإذن الله. ولن تتوقف الحرب ولا الكيد إلا إذا تخلينا عن هذا الجوهر والمضمون الذي يزعجهم، حتى لو أبقينا على الاسم، وهذا ما نرفضه تمامًا ويعتبر نكوصًا ومعصية وتنكرًا لأصالة الطريق.

 

أما إذا غيرنا وأبقينا على الجوهر وأصالة الطريق فسيجري لهذا الاسم الجديد وأصحابه نفس ما جرى لاسم (الإخوان المسلمون) والمنتمين إليه.

 

هذا بالإضافة إلى أن اسم (الإخوان المسلمون) صار رمزًا لطريق الدعوة بأصالته، طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، واكتسب على مر الأيام رصيدًا ضخمًا من الثقة والتجربة، فالتخلي عنه وتغييره يعتبر تنكرًا للماضي، وإهدارًا لهذا الرصيد وبدون مبرر أو فائدة.

 

أيها الإخوان المسلمون:

استعينوا على مشقات الطريق وآلام الابتلاء بالصبر والصلاة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)﴾ (البقرة: 153- 154).

 

ومن كان الله معه كان معه كل شيء، ومن فقد معية الله تنكر له كل شيء، واعلموا أن من طال بلاؤه ثبت بناؤه، والمبتلون والممتحنون هم رواحل هذه الدعوة المباركة.

 

فالثبات الثبات، والعمل العمل، فلا مكان بيننا للمناظرات، ولا تعرف دعوتنا الجدل، ولا يسري إلينا الشك والريب، وطريقنا واضحة المعالم، ومنهجنا محدد وبيِّن: إيمان عميق، وتكوين دقيق، وعمل متواصل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة 105).

 

وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في ذكرى ميلاده نتنسم عبير سيرته؛ فنجده قد مرت عليه كل صور الابتلاء التي ما نظن أنها قد اجتمعت على بشر، وهو منْ هو من قربه إلى ربه وحبه له؛ ولكنه القدوة والرحمة، فيا كل مبتلى من المسلمين بل ويا كل مظلوم من البشر.. هذا خير البرية قد ابتُلى فصبر فكانت العاقبة له، وهو الذي رفع لواء تحرير البشرية من كل سلطان غير الله، ورفع لواء الوقوف مع كل مظلوم في وجه كل ظالم حتى قبل نزول الرسالة عليه؛ فهو بحق بالمؤمنين رءوف، وهو بحق رحمة للعالمين، جعلنا الله من المترسمين خطاه بنشر دعوة الخير في ربوع العالمين، ورفع الظلم عن كل المظلومين.

 

ووفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وسلك بنا وبكم مسالك الأخيار المهتدين، وأحيانا حياة الأعزاء السعداء، وأماتنا موت المجاهدين والشهداء.. إنه نعم المولى ونعم النصير. والله أكبر ولله الحمد.

--------------

* من علماء الأزهر الشريف