مقالات
نظراتٌ في تصدُّعِ صفوفِ الأمَّة
الأربعاء 21 مايو 2025 01:34 م
موفق شيخ إبراهيم*
لا يخفى أن عقيدة الأمة أقوى من كل سياسةٍ رعناءَ، والأمَّة العريقة أصلب عوداً وأمضى سيفاً وأطول عمراً من دولة الظلم. كما لا يخفى أن المنهج أكبر من الأشخاص، وأثبت وجوداً من الهيئات. وأمتنا قد أُتيِت من التخلخل الذي ألمَّ بكيانها فأضعف مناعته! وفتح السبيل لتفتتيه إلى فرَق وكياناتٍ! حتى تحقِّق فيها إنذار الله: ((إن الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)). وعندما خرجت الأمَّة من دائرة النور ومربَّع المنهج الرباني، سقطت سقوطاً مريعاً في حمأة الجاهلية الحديثة! لتدفع غالياً ضريبة الذلِّ؛ ضريبة العبودية لغير الله!
ولعل أهم أسباب الخلل الواقع في صفوف الأمة، تكمن في التالي:
* ضياع حصن الأمة الرصين المنيع، وخطِّ دفاعها الأول، أعني الخلافة الإسلامية، التي كانت تشكل الجامعة الإسلامية، مما آل إلى غياب المرجعية الواحدة، الذي ترتَّب عليه مفاسد وتنازع بين الاجتهادات المختلفة، ممَّا جعل الفرصة سانحةً لأعداء الإسلام في استقطاب المرجعيات الرسمية من أهل النفاق، والسيطرة عليها والتنسيق معها من تحت الطاولة، متجاهلين ردود أفعال الشعوب المستضعفة المغلوب على أمرها.
* القصور عند عامَّة المسلمين، في فهم مستلزمات الانتماء للهوية الإسلامية التي ارتضاها المولى سبحانه لنا، والتي منها وحدة الكلمة حيال أهداف الأمة والوسائل الموصلة لها.
* سوء فهم السنن الربانية الحاكمة لحركة الحياة، ومنها المعادلة المذكورة في قول الباري سبحانه: ((وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)).
* الأنا والتقوقع حول الذات، والرغبة في تجميع الأتباع حول بعض الرموز، المنتمين للمشروع الإسلامي!
* انتشار الغلو في صفوف الأمة، الذي استدعى خطاباً يعمل على تفريقها، والمَداخِلَة الآن مثالاً.
* دأْبُ البعضِ على إسقاط رموز الأمة، وثوابتنا ستظلُّ تتساقط بقاياها كل يوم، مع كل رمزٍ نسقِطُه! في الوقت الذي لا يمكن لأيِّ تجمُّعٍ بشريٍّ، أن ينطلق بدون قياداتٍ في سلَّم مجدها وتستمر في رقيِّها وصعودها.
* التعصب المقيت عند البعض للحزب أو للجماعة، واحتكار الصواب لديها، وحجبه عن كيانات أخرى.
* اختزالنا الإسلام في دوائر محدَّدة، في ذبيحة تُذبح أو شعيرة تُقام أو مناسبة دينية يُحتَفَى بها! وجهلنا أو تجاهلنا أنه منهج حياةٍ، جاء ليجعل أوتار الحياة وإيقاعاتها في انتظامٍ تامٍّ!
* ارتباط الكثير من عامَّة المسلمين بالأشخاص، وليس بالفكرة! والأصل معرفة الحق، لمعرفة أهله بعد ذلك.
* ارتهان بعض المحسوبين على المسلمين، أو على شريحة أهل الفكر منهم، لتيار التغريب تحت مسمَّى الحداثة والتنوير، أو غير ذلك من المفردات ذات البريق الخادع، مما يجعلهم عامل هدم وليس عامل بناء.
* عدم التحام الخطاب الإسلاميِّ مع كافَّة شرائح المجتمع، وفي ذلك تفويت الفرصة على تحقيق مصلحة الجمهور.
* سوء التعامل مع فقه الأولويات، والذي من خصائصه تقديم خطاب الحوار والعظة البالغة، على خطاب المواجهة.
* تهميش مبدأ وحدة الشخصية الإنسانية، وعدم مراعاةً الأدبيات التي تنصُّ على أن الناس صنفان، أخ لك في الدين، و نظير لك في الخلق.
* الثغرات التي صدَّعت جدار العملية التربوية لأجيانا المسلمة. والاهتمام بالتوسع الأفقي الذي يهتم بالكمِّ، على حساب قيمة الكيف المتمثلة في التوسع الشاقولي! ومن مستلزماته تأصيل وتعميق فكرة وحدة الصف، على أنها فريضة شرعية، وضرورة حتمية.
* الفصام النكد بين الفكرة والمنهج. رغم وجود ترابط وثيق واضحُ المعالم بينهما! لنتأمل قليلاً في المثال الذي ضربه الفيلسوف إقبال، عن جواد السلطان المؤمن الذي مرض فسقاه الطبيب خمراً، وكيف أبى السلطان بعد هذا أن يركبه مجاهداً في سبيل الله! ويحضرني بين يدي هذا التمثيل الرائع، قول الباري تقدَّست صفاته: ((والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبُث لا يخرج إلا نكدا)).
* تضافر جهود أعداء الأمة على بثِّ الفرقة من خلال معاول هدم شتى، من مثل الدعاية لحركات التطرُّف، وتلميع الفرق الضالَّة في تاريخ الأمَّة، وإعادة إحيائها من جديد مع ملاحظة وجود الدعم الماديِّ والأكاديميِّ لها ضمن دوائر الاستشراق، وعلى يد المستغربين في عالمنا العربي.
* غياب النقد الذاتي في صفوف الحركات الإصلاحية، مع معرفتنا بأنه استنارة لتقويم المسار ووضعه على الطريق الصحيح، ومن لا يعترف بخطئه لا يُرجى له سعيٌ إلى كمال! كما على المنظِّرين في هذه الحركات عدم الوقوع في أسر الذات والنظر إلى الآخر بتوجسٍ وريبةٍ، فنظرية المؤامرة لا يصحُّ اعتمادها على وجه الديمومة.
وهناك أسباب أخرى لا يتسع المقام لبسطها هنا، وختاماً آن لنا أن نحمل من جديدٍ المشاعر الراقية والرسالة الخالدة والأفكار السديدة والحضارة المستنيرة، بكل إخلاص وجديَّة مقروناً بالقوة والصلابة في مواجهة التحديات.
لنكن كأصحاب موسى وحواريِّ عيسى وصحابة محمَّد، عليهم جميعاً أزكى الصلوات، حملةً للمبادئ، مخلصين لها، وسوف نقطف الثمرة، ونجني حصاد ما قدَّمناه خدمةً للإنسانية، ليس كسواها من الخدمات التي عهدناها في كلِّ ركنٍ وزاويةٍ. ((وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)).
*عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين