إعداد- طارق عبد الرحمن

انتهى الحديث بنا في الحلقة السابقة عن واجب الشعب أمام تقصير الحكومة وعدوان الإنجليز، ويتمثل ذلك في عدم التعاون مع الإنجليز اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وهكذا يجب أن يشعر الإنجليز المحليون والإنجليز الاستغلاليون والإنجليز في بلادهم أن حرب السخط قد أعلنت، وأن وادي النيل غاضب ثائر لا يرضى بغير حقه بديلاً.

 

كما تحدَّث الإمام البنا عن واجب وسلاح آخر هو سلاح التوجه إلى الله العلي الكبير، مذلّ الجبَّارين وقاصم المتكبرين، والإلحاح في الدعاء أن يرد عن الوطن كيد الكائدين وطغيان المعتدين، وأن يحقِّق له الآمال في الحرية والاستقلال.

 

ثم بعث برسالة إلى رئيس الحكومة المصرية إسماعيل صدقي باشا، طالبه فيها بتحقيق مطالب الأمة التي تتمثَّل في: الجلاء التام، ووحدة وادي النيل.

 

وفي هذه الحلقة نستكمل الحديث:

خطاب مفتوح من المرشد العام إلى زعماء الوادي وساسته(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى حضرات:

صاحب المقام الرفيع شريف صبري باشا.

صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا- رئيس الوفد المصري.

صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس جبهة مصر.

صاحب الدولة عبد الفتاح يحيى باشا.

صاحب الدولة حسين سري باشا.

صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا- رئيس الهيئة السعدية.

صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا- رئيس الأحرار الدستوريين.

صاحب المعالي إبراهيم عبد الهادي باشا.

صاحب المعالي مكرم عبيد باشا- رئيس الكتلة الوفدية.

صاحب السعادة أحمد لطفي السيد باشا.

صاحب السعادة علي الشمسي باشا.

صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا.

صاحب السعادة محمد حافظ رمضان باشا- رئيس الحزب الوطني.

الأستاذ الجليل السيد إسماعيل الأزهري- رئيس الوفد السوداني.

 

إليكم "أيها السادة" وفيكم رؤساء الأحزاب الموقَّرون، وأعضاء الهيئة السياسية السابقة المحترمون، والسادة الأجلاء المفاوضون.. فأنتم عنوان المجموعة السياسية لهذا الوطن تضمُّون أقطابه، وتمثلون بصفاتكم وأشخاصكم أحزابه، أوجِّه القول:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد.. فقد جمعتكم الأمة مرةً حين أعلنت أهدافها، وحددت مطالبها وحقوقها، ونادت بالجلاء التام الناجز(2) السريع، ووحدة وادي النيل، فردَّدتم نداءها وأجبتم دعاءها، واجتمعت كلمتكم على هذه الغاية وعلى العمل لها.

 

وجمعكم الإنجليز مرةً ثانية حين أبوا على الأمة هذه المطالب العادلة الحقة فأوقفوا المفاوضات، وظهروا بأسوأ المقاصد والنيات، فوقفتم جميعًا تندِّدون بمواقفهم، وتتبرَّمون بظلمهم وإجحافهم.

 

وجمعكم جلالة الملك المعظم مرةً ثالثةً حين أبدى رغبته السامية في أن تتوحد كلمتكم، وتتجلى وحدتكم في هذا الظرف العصيب، فعهد إلى رجل منكم تقدِّرونه جميعًا، وتحترمونه جميعًا أن يكون رسول سلام ووسيط وفاق ووئام.

 

وجمعكم صدقي باشا أخيرًا حين سافر منفردًا بصفته الرسمية وحدها، ليرمي بآخر سهمٍ في كنانته، وترككم وراءه تنظرون ماذا يفعل؟ وبم يعود؟ فالظروف كلها قد اجتمعت ملحة عليكم بأن توحّدوا الصف، وتلمّوا الشعث، وتواجهوا الموقف في حزمٍ وقوةٍ لا مصدر لها إلا الوحدة وفي عزم وإصرار لن يكونا مع خلاف وفرقة، وليس بعد هذه الظروف إلا قارعة من السماء أو معجزة ليس لها كفاء (2)، والأمة لا تعذركم والفرص لا تنتظركم.

 

وسيعود صدقي باشا بعد أسبوعين على الأكثر ومعه أحد أمرين: إما معاهدة على أساس المشروع المصري بالنص أو بالتعديل، وإما يأس من المفاوضات وإعلان لفشلها بعد طول رجاء وتأميل، وفي كلتا الحالتين يجب عليكم أن تطلعوا على الأمة بالبيان الشافي والشرح الكافي؛ لتقول كلمتها بالرفض أو القبول عن بينة؛ ولترسم خططها في العمل والجهاد عن دراسة ومعرفة، وكل ذلك يحتاج منكم إلى اجتماع وإعداد منذ هذه اللحظة.

 

أيها السادة الفضلاء الأجلاء:

أرجو أن يخلو كل رجل منكم بنفسه ساعةً من ليلٍ أو نهار، وأن يذكر- وليس عليه من رقيب إلا ربه وضميره ووطنيته- أنكم أنتم المسئولون الأُوَل عن مجد هذا الوطن وعظمته وحقوقه وحريته وعن ثلاثين مليونًا من العرب، وأربعمائة مليون من المسلمين.. كل هذا أنتم مسئولون عنه بين يدي الله والتاريخ؛ لأنكم- بحكم وضعكم ومنزلة وطنكم- تقفون في أول هذا الصف الطويل القوي المؤمن المرصوص المتأهب للسير إلى غايته لا يأبه بتضحية ولا يخشى لومة لائم، تحولون باختلافكم وفرقتكم بينه وبين أن يتحرك في ثبات أو ينطلق إلى هدف أو اتجاه، فما أعظمها من تبعاتٍ وما أضخمها من مسئوليات!!

 

أيها السادة الفضلاء الأجلاء:

تناسوا في هذه اللحظات الدقيقة كل خصومة شخصية، وكل عاطفة حزبية، واذكروا وادي النيل ومجد العروبة وعزة الإسلام.

 

وليتقدم أحدكم مأجورًا من الله مشكورًا من الوطن بدعوة الباقين إلى اجتماعٍ سياسي جامع وميثاق وطني شامل تجتمع كلمتكم عليه، فتهوي أفئدة الأمة إليه، وحينئذ تقفون والله معكم ويد الله مع الجماعة والأمة من ورائكم صفًّا واحدًا على السمع والطاعة إلى إصلاح في الداخل تصحَّح به الأوضاع الفاسدة، أو إلى جهادٍ دائبٍ دائمٍ لإجلاء الدولة الغاصبة المعاندة.

 

أيها السادة الفضلاء الأجلاء:

إنَّ لوطنكم هذا رسالتين عظيمتين جليلتين: رسالة الحرية والاستقلال ورسالة الإسلام والسلام، وكل واحدة منهما جليلة الخطر عظيمة الأثر، فلا تلهينَّكم الدنيا العاجلة والمطامع الزائلة عن منزلة الإمامة التي أنزلكم الله إياها وسجَّلها لكم في محكم كتابه، فقال ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143) فاعملوا والله معكم ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.

 

أما نحن- معشر الإخوان المسلمين- فلن نقحم أنفسنا في مجموعكم، ولن نزاحمكم مكانتكم، ولن ننازعكم رياستكم، وقد أبيتم علينا، سواءٌ أكنتم في الحكم أم خارجه أن نظهر بأية صورة على المسرح السياسي أو ننفُذ من أي طريق مهما كان صحيحًا سليمًا قانونيًّا إلى ميدانه الرسمي، فرضينا صابرين وعملنا كوطنيين مجاهدين، وسنقف في صفِّ هذا الشعب- ونحن أعرف بمكاننا منه- نوجهه ونسدِّده ونقوده ونرشده ونرقب معه ما أنتم فاعلون، فإن اجتمعتم وأحسنتم وجاهدتم أيَّدناكم وناصرناكم وكنا لكم الفداء، وإن أبيتم إلا الفرقة والخلاف، واتباع الأهواء، وآثرتم القعود وممالأة الغاصبين والأعداء، فسنمضي وهذا الشعب معنا بإيمانه وبقينه ووطنيته ودينه وتنظيمه وتكوينه إلى الغاية مجاهدين، وفي سبيل الله والوطن مستشهدين، وندعكم مع القاعدين من المخلفين، فإما إلى النصر وإما إلى القبر وكلاهما بركة وخير ﴿قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ (التوبة: من الآية 52) والله أكبر والله الحمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

بين الحب والبغض(4)

في مصر، وفي الجزيرة العربية وفي غرب هذا الجزء من الأرض، وفي شرقه كذلك، نبتت الفلسفات والحضارات، ونزلت الكتب والرسالات، وعاش سكان هذه الأوطان حينًا من الدهر مثلاً للمُثل العليا من الحب الخالص والوفاء البالغ والكرم الشامل والشجاعة النادرة والإيثار العجيب.

 

وغمر الإسلام أخيرًا هذه البقاع بما فيه من فيض الربانية الغامر، وأفق الإنسانية الواسع، فركَّز معاني هذه الأخلاق في النفوس، وثبتها بين حنايا الضلوع، وأخرج أمة نموذجية في خلائقها ومثلها فكانت خير أمة أخرجت للناس، وأقام دولة نموذجية كذلك في عدلها وإنصافها للقريب والبعيد ومناصرتها للحق وأهله في كل مكان، شعارها "ألا إن أقوى الأقوياء الضعيف المحق حتى ينال حقه، وأضعف الضعفاء القوى المبطل حتى يؤخذ الحق منه".

 

وإن خصائص الأمة التي تطبع بمثل هذه الطابع الخلقي الإنساني الرباني أن تعيش بقلبها وعاطفتها وشعورها إلى جانب عقلها ومصلحتها، وأن تكون عنيفة البغض بقدر ما هي صافية الحب صلبة في اقتضاء حقها لا تساوم فيه ولا تلين ولا تنثني أمام تهديد أو وعيد، ومن هنا حصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الإيمان في الحب والبغض فقال: "وهل الإيمان إلا الحب والبغض"(5).

 

فنحن المصريين والعرب والمسلمين نُخلص إذا أحببنا، ونفي إذا عاهدنا ونعنف كذلك ونشتد إذا خاصمنا، وبقدر إفراطنا في التسامح والصفح يكون تشددنا في الخصومة والغضب.

 

ولقد احتل الإنجليز أوطاننا بالخديعة والمكر والخيانة والغدر ولم يدخلوها أبدًا فاتحين ولا منتصرين، فهم أنفسهم أعلنوا ستين مرةً أنهم دخلوا مصر بدعوةٍ من أميرها إلى أجلٍ معدود ووقتٍ محدود، وهم قد وطئوا أرض الجزيرة العربية باتفاقٍ مع أهلها الذين أحسنوا بهم الظن، وتوسموا فيهم الخير، وأملوا على أيديهم الحرية والخلاص، ثم قد استعمروا الهند بدكان بقال انقلب إلى شركة ثم إلى معسكر يتلوه احتلال، وهكذا كانت سبيلهم إلى كل بلد نكبه سوء الطالع بمعرفتهم والاتصال بهم.

 

ولقد تصنَّعوا الإحسان، وأسرفوا في الوعود، وأبدعوا في زخرف القول فصدقنا لأننا صرحاء صادقون، ونعلم أن كذبة الأمير بلقاء(6) مشهورة، وما كنا نظن أن عظيمًا يكذب أو شريفًا ينصب شباك الخديعة للناس.

 

وانتظرنا مصداق هذه الوعود، فإذا هي كلها سراب خادع، وإذا بنا بعد قليلٍ من الوقت نفيق على حريتنا وقد سلبت، وعلى استقلالنا وقد ضاع، وعلى ثروتنا وقد انتقلت إلى أيدي الأجانب والشركات وإلى أسواق لندن ولانكشير ومانشستر وليفربول، وقد ضربت عليها القيود من كل مكان، فلا إصدار إلا بضريبة، ولا توريد إلا باستئذان، ومع هذه الأضرار البالغة سياسيًّا واقتصاديًّا، فقد فقدنا كذلك خلقنا وتقاليدنا وأوضاعنا السليمة القويمة، فبدلت أحكامًا وفشا فينا المنكر حتى أصبح معروفًا، واختفى من بيننا المعروف حتى أصبح منكرًا، وتخلفنا عن ركب الحياة السائر إلى الإمام ألف عام.

 

وجاهدنا بالأنفس والأموال وأرقنا الدماء الزكية وقمنا بالثورات تباعًا في سبيل الحق والحرية، وخُدعنا مرةً ثانية- والكريم تخدعه الكلمة الطيبة- وسلكنا سبيل التناغم والإقناع ووقفنا إلى جانبهم في ساعة العسرة، ولكن ذلك كله لم يغير من تلك الطبيعة المادية التجارية ولم يؤثر في هذه النفوس الوصولية النفعية، وكان جزاؤنا بعد هذا كله ثني الأعطاف، وهز الأكتاف، وبطر الحق، وغمط الخلق، والمراوغة لكسب الوقت، واللف والدوران.

 

لقد غضبت هذه الأمة، وسيشتد غضبها، وسيتحول هذا الغضب إلى بغضٍ وكراهية وخصومة وعداء، وحينئذٍ سيرى الإنجليز نتائج غضب العزل الضعفاء من المادة والسلاح الأقوياء بالعقيدة والحق والإيمان، ولقد أعلن المركز العام للإخوان المسلمين ألا تعاون بعد اليوم مع الإنجليز فسرعان ما استجابت الأمة لهذا النداء، لقد توالى على المركز العام رجال مؤمنون ممن يعملون في الشركات الإنجليزية والمؤسسات الإنجليزية مستعدين لترك هذه الأعمال منتظرين التوجيه لما يعملون، ولقد ترك بعض العاملين فعلاً أعمالهم؛ استجابةً لهذا النداء، ولقد وجههم المركز العام إلى الانتظار حتى تفرغ اللجنة المؤلفة لتنظيم هذه الناحية من عملها وتطالعهم بما يفعلون فأطاعوا كارهين وعادوا متألمين.

 

وتلك هي حقيقة شعور أفراد الأمة جميعًا أنهم وقد انكشفت لهم هذه النيات السيئة لن يصبروا بعد ذلك على هذا الهوان، وحين يفعل هذا الشعور فعله في نفوس ثلاثين مليونًا من سكان وادي النيل، فسيسري بسرعة البرق إلى قلوب سبعين مليونًا من العرب وثلاثمائة مليون من المسلمين، فهل ترى إنجلترا أن هؤلاء جميعًا لا يستطيعون أن يفعلوا معها شيئًا؟ فلندع الجواب للأيام، وهي خير مجيب.

 

نستطيع أن نفعل كثيرًا لو أردنا(7)

يقول العاجزون الذين يريدون أن يصلوا إلى الغايات العظيمة والآمال الجسام بالأماني والأحلام، والمنى بضائع الموتى: ماذا عسى أن نصنع أمام الإنجليز؟ وهل لنا من سبيلٍ غير هذه المفاوضات؟ وهبوها قد قطعت من جانبنا أو من جانبهم فما الذي ربحناه؟ ونقول: إن هذا المنطق لا يمليه إلا العجز وحب الراحة والدعة والهروب من تبعات النضال والكفاح في سبيل الحرية والاستقلال وتحقق المطالب والآمال.

 

ولكن الحقيقة أننا نستطيع أن نفعل كثيرًا لو أردنا ذلك، وكنا جادين في هذه الإرادة، ونزع الله من قلوبنا هذا التهيب الكاذب من قوة الخصم، أو الوهم الخادع من حسن الظن.

 

نستطيع أن نتقدم فورًا إلى محكمة العدل الدولية(8) بطلب إلغاء معاهدة سنة 1936 لمناقضتها لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة الذي وقَّعناه نحن والإنجليز، ولزوال الدوافع والأسباب التي دعت إليها وتغير الظروف والملابسات التي صاحبتها، ولأن الإنجليز أنفسهم نقضوها بتدخلهم وتصرفاتهم عدة مرات، وبأسباب كثيرة تؤيد هذا الإلغاء ونكسب من ذلك تعطيل مفعولها على الأقل حتى يفصل في هذا النزاع، وليس ذلك رأينا وحدنا ولكنه رأي كثير من الخبراء القانونيين البريطانيين أنفسهم كما جاء في برقيات الأمس.

 

ونستطيع أن نرفع قضيتنا إلى هيئة الأمم المتحدة فورًا وأقل ما ننتظره فيها من نجاح أن نحصل على الجلاء عن أرض مصر بدون قيد ولا شرط، ولا محالفة عسكرية هي شر من الاحتلال مع الضمانة الدولية العامة التي ستكون في أيدينا نتيجة لقرار مجلس الأمن، فلا يكون الأمر مجرد وعد أو معاهدة بيننا وبين الإنجليز ونحن قد بلونا المر من هذا الثمر ستين عامًا أو تزيد.

 

ونستطيع أن نطالب برصيدنا وديننا البالغ قدره خمسمائة مليون من الجنيهات، وأن نتحرر من امتيازات الشركات الإنجليزية ومن المهاجرين البريطانيين ومن سلطان رءوس الأموال الأجنبية في هذه البلاد، وأن نتحرر من يد الكتلة الإسترلينية.

 

فلنستفد بذلك فائدة لا حد لها، ونتخلص من هذا الاستعباد الاقتصادي وهو أقسى وأشد من الاحتلال العسكري.

 

ونستطيع أن نحول دون كل تدخل يريد القوم أن ينالوا به من حريتنا واستقلالنا وشئوننا الداخلية أو الخارجية، ونستعدي عليهم هيئة الأمم المتحدة والرأي العام العالمي كلما امتدت أصابعهم بهذا العدوان المستحقة عليهم.

 

ونستطيع بعد ذلك أن نفكر تفكيرًا جديًّا في صلاتنا بدول العالم، وأن نتحرر بالمقاطعة من هذا النطاق الظالم الذي ضربته علينا إنجلترا فلا نتعاون معها في شأن من شئون الحياة.

 

نستطيع الكثير لو أردنا، وبعض هذا مما يضايق الإنجليز ويدعوهم إلى التفكير الجدي في الاحتفاظ بصداقة المصريين، وعدم التجني عليهم، والعبث بحقوقهم ومطالبهم، وإضاعة الوقت في المحاولات الفاشلة والمناورات الباطلة.

 

والأمة كلها- هيئاتها وأفرادها- مجمعة على أن المفاوضة وانتظار تعطف الإنجليز لم تعد بحال الوسيلة إلى تحقيق مطالب شعب وادي النيل والاعتراف بحقه الواضح الصريح.

 

وعجيب ألا تتجاوب خطة الحكومة المصرية مع مشاعر شعبه وعواطفه، وأن تظل في وادٍ وهو في وادٍ آخر، ولا تجد معه سبيلاً إلا كبت الشعور ومصادرة الحريات والاعتماد على سلطة الحكم وأدوات الجبروت والقهر، وتدعي مع هذا أنها تحكم باسمه وتتكلم بلسانه وتعبر عن إرادته وتعمل لخيره ومصلحته متجاهلة صيحته الداوية بالاحتجاج والاستنكار.

 

نضع هذه الكلمة بين يدي الحكومة المنتظرة، لعل فيها عظة وعبرة، ولعلها تراجع نفسها وترى من تعنت الإنجليز معها وغضبة الشعب من حولها لحقِّه المسلوب، واستقلاله المغصوب، ما يحملها على اختصار الطريق واحترام إرادة الأمة وإنهاء مهزلة المفاوضات وسلوك سبيل الجهاد.

 

بعد ذلك كان خطاب النقراشي باشا للملك، فماذا قال في خطابه؟ وما هو تعقيب الإمام البنا على هذا الخطاب؟ هذا ما سنعرفه في المرة القادمة. 

 --------------

(1) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (142)، السنة الأولى، 24 ذو القعدة سنة 1365/19 أكتوبر 1946، ص (1)

(2) أي: العاجل.

(3) ما لي بهِ قِبَلٌ ولا كِفاءٌ، أَي: ما لي به طاقةٌ على أَن أَكافِئَه. [اللسان، مادة (كفا)].

(4) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (144)، السنة الأولى، 26 ذو القعدة 1365/ 21 أكتوبر 1946، ص (1).

(5) أخرج الحاكم في المستدرك، (7/277)، وابن أبى حاتم في تفسيره، (12/267) من طريق عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله"، وقد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"، ح(3432)، ومن الأحاديث الصحيحة في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله".انظر: "السلسلة الصحيحة"، (2/734).

(6) البَلَقُ: سوادٌ وبياضٌ، وكذلك البُلْقَةُ بالضم. وفرسٌ أَبْلَقُ وفرسٌ بلقاءُ.[الصحاح، مادة، (بلق)].

(7) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (184)، السنة الأولى، 16 محرم1366/ 10ديسمبر1946، ص(1)

(8) محكمة العدل الدولية أو "المحكمة العالمية" هي الجهاز القضائي للأمم المتحدة, ووظيفتها هي فصل في المنازعات بين البلدان, وأنشأت محكمة العدل الدولية سنة 1946، يقع مقرها في مدينة لاهاي في هولندا وتتكون من 15 قاضًّا تشترك الجمعية العامة ومجلس الأمن في انتخابهم..