مصطلح "مصر المحروسة" المعروف تاريخيًّا لوصف مصر توقَّف تقريبًا منذ 25 عامًا لصالح مصطلحات جديدة نحتها السياسيون والمهتمون بالشأن العام تعقيبًا على الأوضاع المأساوية التي تعيشها مصر منذ ربع قرن.

 

فقد أطلق المعتقلون على ذمة المحاكمات العسكرية عام 1995م على مصر تسمية "مصر المحبوسة"، وشيدوا في معتقلهم نصبًا يُعبِّرون به عن فكرتهم تلك.

 

وأطلق إخواننا الرافضون لبيع مصر عليها مصطلح "مصر المنهوبة"، وتارةً أخرى "مصر المباعة"؛ ردًّا على عمليات البيع الواسعة لمصر، فضلاً عن الفساد المنظم في ظل النظام الحالي واقتران الفساد المالي بالسلطة، وهكذا تعددت المصطلحات التي تصف أوضاع مصر التي لم تشهد لها مثيلاً بهذا السوء منذ عدة عقود.

 

آخر هذه التسميات هو "مصر المنحازة" تعقيبًا على موقفها غير المفهوم من أحداث غزة الأخيرة والتي انتهت بسيطرة حماس المنتخبة على الأوضاع في غزة بعد أن عاث فيها التيار الانقلابي فسادًا.

 

سبب هذه التسمية أن هناك حساباتٍ أمنية وسياسية وإستراتيجية وتاريخية تحكم موقف مصر من القضية الفلسطينية أيًّا كان المتصدر لها، ولكن بعد ظهور التحيز المصري التام لطرفٍ على حساب آخر في كل المراحل التي مرَّت بها القضية منذ بروز حركة المقاومة الإسلامية حماس وانتقال العقلية الأمنية في التعامل مع حماس بعقلية الأمن الداخلي في تعاملها مع التيارات الإسلامية عكس العقلية السورية تمامًا التي تعاملت بنهجٍ استئصالي مع التيارات الإسلامية في سوريا، ولكنها تتعامل مع التيارات الإسلامية والمقاومة في فلسطين ولبنان- حتى الآن- انطلاقًا من أمنها القومي بعيدًا عن طبيعة علاقتها الداخلية بهذه التيارات أو مَن يماثلها.

 

انتكاسات خارجية

هذا الانحياز المصري التام لصالح طرفٍ على حساب آخر جعل السعودية- قبل تطورات الأحداث- تخطف الملف كله من مصر بنجاحها في إبرام اتفاق مكة بين حماس وفتح، وقارن العالم كله- وبالطبع المصريون- هذا النجاح السعودي والحياد التام مقابل فشلٍ مصري صدَّع رؤوسنا كثيرًا أن ملف غزة لن يفلت من مصر على غرار ملفاتٍ أخرى أفلتت منها وتهدد أمنها القومي مباشرةً مثل السودان والعراق وغيرها، ولكن مع التحيز المصري الشديد نجحت السعودية في كسب ثقة الطرفين، ويكفي أن الملك السعودي استقبل قيادات الطرفين أكثر من مرة، ولم يكتفِ بمقابلة طرفٍ واحد كما تفعل مصر التي لم تلتقِ قيادتها السياسية بأي قيادي من حماس حتى لو كان منتخبًا وكأننا لا زلنا نتعامل بعقليةِ الانعزالية التي يتعامل بها النظام مع كل التيارات الإسلامية التي وصلت للحكم في العالم ديمقراطيًّا فأصبحنا نحن في عزلةٍ عن ذلك العالم، والأمثلة كثيرة وآخرها تركيا التي يصرُّ الرئيس على أن يقابل رئيسها- الشرفي- طبقًا للنظام البرلماني التركي ويرفض مقابلة رئيس الوزراء المنتخب لخلفيته الإسلامية.

 

وخلال أحداث غزة الأخيرة والاعتداءات التي قام بها رموز التيار الانقلابي ومنتسبوه ضد سكان القطاع، بل وضد الوفد الأمني المصري والأجانب بالقطاع، ظهر هذا الانحياز أيضًا؛ حيث لجأ الإعلام والمسئولون المصريون إلى تضخيم بعض الأحداث في غزة وكلها ردت عليها الحركة ولكن لم يلقَ لها أحدٌ بالاً.

 

فتحطيم النصب التذكارى للجندي المصري لم تقم به حماس ومع ذلك أكدت أنها ستُعيد بناءه، وإلقاء أحد الشباب من فوق أحد الأبراج أكدت عائلة الشاب أن التيار الانقلابي هو الذي نفَّذها ولا زلنا نزعم أن حماس هي التي نفَّذتها مقابل جرائم مؤكدة نُسبت إلى قيادات التيار الانقلابي اعترفوا بها في إطار تفاخرهم بما قاموا به أو كشفته حماس في مؤتمرها الصحفي يوم الجمعة 22/6/2007م، ومنها أعمال تجسس لا تهدد أمن غزة فقط، ولكن تهدد الأمن القومي العربي كله؛ حيث استغل قيادات التيار الانقلابي دعم بعض الدول العربية لهم- ممن يُطلق عليهم الدول المعتدلة- بتدريب كوادرهم فقاموا بنقل معلوماتٍ كاملة عن الأماكن التي تلقوا فيها تدريبهم أو معلومات عن الشخصيات التي تواصلوا معها للكيان الصهيوني وأجهزة المخابرات الأمريكية وغيرها بمقابل ودون مقابل.

 

لقد اتهمت مصر حماس بالانقلاب على الشرعية رغم أن حكومة حماس منتخبة ديمقراطيًّا مثلما أن الرئيس أبو مازن منتخب ديمقراطيًّا؛ بل إن أبو مازن هو الذي انقلب على الشرعية بتشكيله حكومة من المشتاقين للعب دور على الساحة الفلسطينية بعد انصراف الشعب عمَّا أسماها حكومة طوارئ رغم أن مثل هذه الحكومة لا يوجد لها وضع قانوني في الدستور الفلسطيني، إنما الموجود حالة طوارئ تبقي على الحكومة الموجودة لحين تشكيل حكومة يتم عرضها على البرلمان لنيل ثقتها.

 

قمة مشبوهة

لقد انحازت مصر إلى خيارات أبو مازن، وهي نفسها التي انحازت لها الإدارة الأمريكية والحكومة الصهيونية والاتحاد الأوروبي رغم عدم قانونيتها أو خدمتها للأمن القومي العربي؛ وذلك رغم أن الموقف العربي والإسلامي الرسمي حتى الآن أعلن عدم الانحياز لطرفٍ على حساب آخر.

 

بل إن مصر دعت إلى قمةٍ يحضرها رئيس الوزراء الصهيوني- المجرم أولمرت- في شرم الشيخ يوم الإثنين 25/6/2007م للبحث في سبل دعم خيارات أبو مازن وكأنَّ حماس أخطر على أمن مصر من الكيان الصهيوني، وهي القمة التي سيُسجلها التاريخ جنبًا إلى جنبٍ إلى قمم شرم الشيخ السابقة لدعم الكيان الصهيوني على حساب الحق الفلسطيني مثل قمة شرم الشيخ عام 1996م وضد الإرهاب- المقاومة- الفلسطيني؛ ردًّا على العمليات الاستشهادية والتي ردت قوات الاحتلال الصهيوني على القمة بمجزرة قانا الأولى إبريل 1996م ولم نشهد قمة واحدة في شرم الشيخ لدعم الإنسان العربي الذي يتعرَّض للاحتلال في فلسطين والعراق والصومال.

 

لقد بدا للعالم كله أن أبو مازن الذي رفض لجنة تقصي الحقائق العربية- في حين أن حماس قبلتها- مدعومٌ أمريكيًّا وصهيونيًّا إلا أن مصر أبت في ظل نظامها الحالي أن تؤكد انحيازها لما انحاز له الصهاينة والأمريكان على حساب أمنها القومي وثوابت سياساتها الخارجية في ظل نظامٍ رفع شعار "الحفاظ على مكاسبي على حساب أمن بلدي القومي".

 

في زمن أبدت فيه مصر تفهمها لاحتلال إثيوبيا للصومال ودعمها الاحتلال الأمريكي للعراق ومناشداتها الدائمة لقوات الاحتلال الأمريكية بعدم الانسحاب واستعمال نفس مصطلحات الاحتلال الصهيوني للمقاومة الفلسطينية لا نستغرب هذا التراجع الخطير في وضع مصر في المنطقة وانعدام ثقة الشعوب العربية التي تشدقنا بقيادتها ردحًا من الزمن.