بعد أشهرٍ قليلةٍ من قمَّة مكة المكرمة التي جمعت زعماء فلسطين المتصارعين, كتبتُ محذرًا تحت عنوان "إلى متى يصمد اتفاق مكة"، وهو سؤال يفترض أن اتفاق مكة سوف ينهار إن آجلاً أو عاجلاً.. وكان رأيي هو أن اتفاق مكة قد تضمَّن أربعة أمور, أولها وقف القتال بين الأشقاء, ولكن الأمور الثلاثة الأخرى كانت هي الضمانات لاستمرار وقف القتال, وتجنب تجدده على أساس أن هذا القتال يُمثِّل قمة انفجار الأزمة وليس الأزمة ذاتها, وأن الأسباب المؤدية إلى هذا الانفجار يمكن القضاء عليها من خلال تنفيذ الأمور الثلاثة الأخرى في اتفاق مكة؛ ولذلك فإن عدم متابعة تنفيذ بقية التزامات وترتيبات اتفاق مكة كانت أحد الأسباب المباشرة في غلبة عوامل الانشقاق الأساسية بين فتح وحماس والتي حاول اتفاق مكة أن يفترض بأسبابٍ عمليةٍ أنها ليست حاسمة، وأن البناء عليها كفيلٌ بعدم إتاحة الفرصة لظهورها.

 

إذا كان اتفاق مكة قد حاول أن يُوقف إراقة الدماء الفلسطينية بين الأشقاء لكي يصبح الدم المهراق فقط في حالة المواجهة مع العدو الصهيوني, فإن قمة شرم الشيخ, وبكل المقاييس, تعمل على تفريد الدم الفلسطيني في معسكر حماس على أساس أنه لا يمكن احتواء حماس في أي تسويةٍ داخليةٍ فلسطينية أو بين الفلسطينيين والكيان.

 

ومن الواضح أن العلاقة بين قمة مكة وقمة شرم الشيخ يمكن أن تتخذ إحدى صورتين, الصورة الأولى هي المقارنة بين القمتين، والصورة الثانية هي التكامل بين القمتين, أو أن تكون قمة شرم الشيخ هي استكمال لقمة مكة بوسائل أخرى.

 

أما المقارنة بين شرم الشيخ ومكة فهي تنطوى على مقارنةٍ ضمنيةٍ بين الدبلوماسية المصرية والدبلوماسية السعودية في القضية الفلسطينية, وأعتقد أن هذا الظرف القاتل لا يحتمل مجاملةً أو تجميلاً للمعاني والألفاظ.

 

وقد عُرفت شرم الشيخ بتاريخٍ طويلٍ على الأقل غير متفق عليه بين مَن يرون أنها موقع متقدم لمحاربة المقاومة والصمود في العالم العربي, وبين مَن يرون أنها موقع متقدم وجسور لمحاربة الإرهاب بالمفهوم الغربي, كما أن المدينة- وهي العاصمة الدبلوماسية لمصر- قد دخلت التاريخ من الزاويتين معًا، أما مكة, فلا خلافَ على أن القمم التي تُعقد في رحابها تتحصن بقدسية المكان في الالتزام والوفاء, سواء تعلق الأمر بالفلسطينيين أو بغيرهم, فمَن ذهب منهم إلى مكة طمعًا في مغنمٍ إعلامي أو مالي أو للتغطيةِ على مؤامرةٍ من أي نوع, فلا أظن أن قدسية المكان يمكن أن تنال من سواد القلوب, وأما من قصد مكة ملتمسًا التوفيق والسداد فإن عمله يستقيم مع قصده.

 

فالمقارنة بين شرم الشيخ ومكة وفق هذا المنهج تفترض أن شرم الشيخ تتجه إلى استبعاد حماس تمامًا من الحياة ومن التسوية بصرف النظر عمَّا تُعلنه القمة من قرارات؛ لأن الدول المشاركة فيها لها مواقف معلنة من الصراع, وهي تريد أن تُنشئ تحالفًا يؤدي إلى القضاء على حماس وأتباعها, وينفذ برنامج أبو مازن الذي تضمنه خطابه في الاجتماع الطارئ للجنة المركزية لحركة فتح يوم 19 يونيو 2007, وهو يتحدث باسم منظمة التحرير الفلسطينية.

 

وبصرف النظر عن دوافع حماس في السيطرة على غزة أو مدى سلامتها أو توفيقها, فإن القضية في نهاية المطاف لا يجب أن تفارق الهدف المركزي, وهو أن لحمة الشعب الفلسطيني لن تتحقق إلا بكلٍّ من فتح وحماس معًا، وأن الانتصار لأحدهما هو ضربة مميتة للقضية الفلسطينية ومساهمة مباشرة في تحقيق أهداف العدو.

 

فالقضية في هذه المرحلة يجب أن تكون واضحةً في أذهان الأطراف العربية الثلاثة في قمة شرم الشيخ, وهي أن هناك تناقضًا تامًّا بين المصلحة الصهيونية في تمزيق فلسطين والفلسطينيين, والمصلحة العربية في المحافظة على كل الفلسطينيين، أما القول بأن قمة شرم الشيخ تبحث في عملية السلام، بينما الشعب الفلسطيني منقسم والآفاق مظلمة بسبب الانفصام بين الضفة والقطاع, فهذا العنوان ينصرف مباشرةً في ضوء المواقف المعلنة لأطراف القمة في شرم الشيخ إلى استخدام القوة باسم رئيس السلطة الفلسطينية لقمع "التمرد الإسلامي" في غزة والقبض على "المتمردين الانقلابيين" على حدِّ تعبير عباس, وتوجيه الحماس الدولي مع عباس وضد حماس لإخراج حماس من معادلة القوة, ومعادلة التسوية في فلسطين، وقد تستعين رباعية شرم الشيخ بقوات دولية لتحقيق هذه المهمة.

 

إذا اتجهت قمة شرم الشيخ إلى هذا المنحى، وأكدت على مفردات الخطاب السياسي الفلسطيني الفتحاوي, فإن قمة شرم الشيخ تعد قمةً فاصلةً في تاريخ القضية وبداية حقيقية لمشاكل لا أظن أن رباعية شرم الشيخ تُدرك أبعادها, وأن التبسيط الذي يسيطر على تحليلها للمشهد سوف يثبت خطأً عظيمًا ًفي الحساب.

 

وبذلك تصبح قمة مكة هي قمة الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية, بينما تصبح قمة شرم الشيخ عملية جراحية خطيرة للقضاء على القضية الفلسطينية وتمزيق الشعب الفلسطيني, وهو نفس المعنى الذي اقترب منه أحد عقلاء هذا العصر، وهو الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر, وكذلك تقرير الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشئون الشرق الأوسط السفير الفارو دي ساتو الذي قدَّمه إلى الأمين العام بعد ساعات من أحداث غزة مشفوعة باستقالته من المهمة؛ احتجاجًا على السياسات "الإسرائيلية" والأمريكية وبعض السياسات العربية التي تسببت في هذه الكارثة.

 

وقد أوضح التقرير بصراحةٍ وشجاعةٍ أن أحداث غزة ليست سوى تتويجًا لسلسلةٍ من التصرفات التي تتوازى مع مصطلحات لا تنطبق إلا في الظروف العادية مثل حكومة واحدة ورئيس واحد وسلاح واحد لشعب واحد, وهو أمرٌ لا يستقيم في أحوال فلسطين.

 

أما الصورة الثانية من علاقة قمة مكة بقمة شرم الشيخ فكان يمكن أن تكون صورة إيجابية لولا مشاركة أولمرت فيها, إذْ كان يمكن الافتراض بأن قمة شرم الشيخ تحاول أن تصلح ما فسد من أحكام اتفاق مكة, وأن تكون مكة ثانية, حتى لو لم تشترك فيها المملكة العربية السعودية, وحتى لو أغفلنا المواقف المسبقة للمشاركين في قمة شرم الشيخ؛ ولذلك فإن افتراض أن تكون قمة شرم الشيخ تداركًا للانهيار الذي وقع بعد قمة مكة, وتفويت الفرصة على العدو حتى لا يستغل أحداث غزة ضد المصالح الفلسطينية وألا يطغى الحقد على حماس على مشاعر الرحمة بالشعب الفلسطيني، لو لم تشترك "إسرائيل" في هذه القمة، ولو فرضنا جدلاً أن لملمت الأوضاع له الأولوية المطلقة على ما عداه, فإن هذا الافتراض لا يزال نظريًّا رغم كل حسن النوايا التي تحلينا بها في هذا التحليل.

 

الحق أن كافة العوامل والظروف تدفع إلى الاعتقاد بأن قمة شرم الشيخ سوف تُكرِّس الصورة السلبية لها، ورغم ذلك, فإنه إذا غلب الاتجاه إلى استئصال حماس وإجراء انتخابات فلسطينية بين مرشحي فتح ومَن يقبل من بقايا حماس, فإن ذلك سوف يزيد المشكلة تعقيدًا وسوف يكون أكثر استجابةً لتكريس الموقف الصهيوني الذي يعتبر حماس منظمة إرهابية, كما يعتبر أن التعاون مع فتح له هدف واحد وهو القضاء على حماس.

 

وماذا يقول الشعب الفلسطيني في هذه المحنة، وهو صاحب الحق في تقرير مصيره, بدلاًً من أن تفرض عليه سياسات وحلول تجعل الرجوع فيها ضربًا من المستحيل؟!.