لا يملك المتابع لتحرك السياسة الأردنية السريع حيال ما يجري في غزة لطرف الرئيس عباس إلا رفْع حاجبي الدهشة تعجبًا من حالة الاصطفاف التي اختارتها الدبلوماسية الأردنية مبكرًا، وهي العضو الرئيس في لجنة تقصِّي الحقائق العربية، وما يعنيه ذلك على درجة حضورها الحيادي والأخلاقي المطلوب تجاه أطراف المشكلة!!

 

فالعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني تحرَّك- ومِن خلفه الآلة الإعلامية الأردنية بكل مكوناتها- صوب تدعيم "أحادي" لمفهوم الشرعية الفلسطينية، تم بموجبها منح حركة فتح وزعيمها الرئيس عباس "صكوك البراءة" على حساب حركة حماس التي اتُّهِمَت بكونها الطرف الخارج عن النص.

 

والذي تابع ردود فعل الحكومة الأردنية وأذرعها الإعلامية يدرك حجْمَ الزلة السياسية التي وقعت بها حين استبقت البحث والتحري المنوط بلجنة تقصِّي الحقائق، مطلقةً العنان للحكم الغيبي على وقائع لم تخضع بعد للتحقيق، ضاربةً عرض الحائط بسمعة الأردن الخارجية وبالتداعيات الخطيرة على النسيج الاجتماعي الأردني المؤلَّف في غالبيته من ديمغرافية فلسطينية تُعتبر- بحسب محللين- الشريانَ التاجي الداعم والمناصر لحماس ومشروعها الجهادي في فلسطين.

 

فالموقف الأردني الذي غاب طويلاً عن كل "مؤامرات وحركات" الأجهزة الأمنية الفلسطينية بحكومة الوحدة الفلسطينية ومن قبلها حكومة حماس يأتي اليوم "مشدوهًا" لتحسس تداعيات الوضع الجديد، معلنًا اصطفافه دون وعي إستراتيجي لطرف دون آخر خلافًا لمواقف دول عربية عديدة انتهجت سياسة التروِّي والكياسة والنأْي عن دسِّ أنفها فيما يعتبره البعض "عشًّا للدبابير".

 

ويرى البعض أن أبهى صور التدخل الأردني تمثَّلت في الإعلان المفاجئ من جانب العاهل الأردني عن تقديم عرض للرئيس عباس يقوم على إرسال قوات بدر الفلسطينية المدرَّبة أردنيًّا لدخول الضفة في توقيت حرِج وصفه مراقبون بأنه "سيئ للغاية"؛ لكونه جاء بعد يوم فقط من الهزيمة العسكرية التي مُنِيَت بها الأجهزة الأمنية التابعة لعباس؛ ما فُهم أنه تغذيةٌ أردنيةٌ عسكريةٌ لفلول الناقمين على حماس وأنصارها، إلى جانب الاستضافة الرسمية لدحلان في العاصمة عمان، والاستماع منه لتفاصيل ما جرى وفق الرؤية الفتحاوية، والمشاركة في قمة شرم الشيخ التي جاءت لترتيب الأوضاع مع الحليف الصهيوني والمصري لتدارك تبعات ما وُصِفَ بانتصار حماس العسكري وقلبها لطاولة المخططات التي كانت تستهدف كيانها وحراكها السياسي الأخير بتواطؤ عربي.

 

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن التحرك الأردني حيالَ ما جرى ليس بالمستغرَب بالنظر لطبيعة العلاقة المتوترة أصلاً بين الأردن الرسمي وحركة حماس، والتي زادت سخونتها بعد الفوز الكبير الذي حقَّقته الحركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وما يمثله ذلك من تأثير كبير على الواقع الأردني، لتبلغ العلاقة ذروةَ توترها عند إعلان الأردن ضبط خلية مسلَّحة قالت إنها تابعةٌ لحماس كانت تخطِّط لضرب مصالح واغتيال شخصيات أردنية، وهو ما نفته الحركة واعتبرته "مسرحيةً سيئةَ الإخراج"، الغاية منها إيجاد مبرر لعدم التعاون والانفتاح على حكومة حماس؛ استجابةً للضغوط الأمريكية التي طالبت بمحاصرة حماس فور نجاحها.

 

ولا نفشي سرًّا حين نقول إن السياسة الأردنية الخارجية باتت مرهونةً أكثر من أي وقت مضى بالسياسة الأمريكية فيما يخص العلاقة والتكييف التعاملي مع حركة حماس وسائر حركات الإسلام السياسي في المنطقة، وهو ما يتضح بكون الأردن أحد بلدان ما بات يُعرف اليوم بحلف الاعتدال العربي، والذي يضمُّ الأردن ومصر والدول الخليجية، والذي أنشئ برعاية أمريكية للقيام بمحاصرة ما سمِّي بـ"قوى التطرف" مثل إيران وسوريا، إضافةً إلى حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق.

 

إن المأمول من السياسة الأردنية ليس مساندة حماس ومشروعها المقاوم ضد الكيان الصهيوني الذي تربطه علاقاتٌ سياسيةٌ وسلميةٌ وثيقةُ العرى مع الأردن، بقدر ما يكون المطلوب فهمًا واسعًا من قبل الدولة الأردنية لما يعنيه حضور حماس الفعلي على الساحة الفلسطينية كرقم صعب يصعب تجاوزه أو الالتفاف عليه، ومحاولة كسبه كطرف فلسطيني يحظى بتاريخ نضالي مشرّف وعقيدة سياسية تلتقي في سياقها الإستراتيجي مع مصالح الدولة الأردنية وأمنها القومي.

 

أضف لذلك أن التاريخ (الأردني- الحمساوي) لم تُرَق فيه دماء، فلم يحدث بين "حماس" والدولة الأردنية ما حدث بين الأخيرة و"فتح" إبَّان أحداث أيلول الأسود الدامي أوائل السبعينيات، كذلك من المهم عند الحديث عن العلاقة بين حماس والأردن التشديد على ذكر أن إستراتيجية "حماس" تقوم على تفعيل الأدوار العربية في القضية الفلسطينية- وليس استبعادها أو الصدام معها- كما أرادت حركة فتح، بل أعلنت حماس مرارًا أن أهمَّ الأدوار هو الدور الأردني؛ لما للأردن من خصوصية تتجسَّد في كونه الأكثر تأثرًا بعد فلسطين مباشرةً بتفاعلات القضية والخطر الصهيوني.

 

ولعل حديث مشعل الأخير لأحد الصحفيين الأردنيين والذي قال فيه بالنص: "إن أمن الأردن بالنسبة إلى حماس هو خط أحمر، ليس انطلاقًا فقط من محبتنا لهذا البلد واحترامنا للشقيق الذي تحمَّل معنا الآلام، وحمَل معنا نتائجَ الكارثة، واستضاف قسمًا كبيرًا من شعبنا، كريمًا عزيزًا، ولكن أيضًا انطلاقًا من تحليلنا بأنَّ أيَّ ضعف يلحق بالدولة الأردنية يضرُّ القضية الفلسطينية ويصبُّ في مصلحة الصهاينة".. يكفي لأن تدرك الدولة الأردنية أن سياسة الاصطفاف ضد حركة بحجم وحضور حماس في الشارعَين العربي والإسلامي يُعدُّ رهانًا خاسرًا بكل المقاييس.

-------

* كاتب ومحلل فلسطيني.