أثارت لقاءات السيدة علية حسن الهضيبي الابنة الصغرى للإمام حسن الهضيبي والبالغة من العمر 68 عامًا في لقاءاتها صيف عام 2007م مع أخوات الإسكندرية الرغبةَ الشديدةَ في التعرف على أُسرةِ الإمام من الداخل، ولنبدأ بزوجته الكريمة السيدة (نعيمة) أم أسامة.

 

* كيف اختارها الأستاذ؟ وهل هي من أقاربه؟

 

 د. إبراهيم الزعفراني

**

أجابت السيدة علية: لم تكن أمي تمتُّ بأي صلةِ قرابةٍ لأبي؛ فأبي من عرب الصوالحة وأمي قاهرية وُلدت وترعرعت في القاهرة، ولقد جمعت بينهما الأقدار حين توجَّه أبي إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية وكان يبحث هو وأصدقاؤه عن مكانٍ لاستئجاره فدخلوا إحدى الدور، وفي الحديقة كانت تجلس فتاةً صغيرةً سألوها: هل أنتم تؤجرون مكانًا للسكنى؟ فأجابت في طلاقةٍ وشجاعةٍ نعم! فسألوها ممن نُؤجِّر قالت: أنا أؤجر لكم! ودخلت ونادت والدها الذي أعلمهم أنه لم يسبق لهم تأجير لأحد، وأنه نزولاً على كلمةِ ابنته نعيمة سوف يستضيفهم، وأُعجب أبي بشخصية هذه الفتاة وبطريقة تعامل أبيها معها وتعلَّق بها حتى تمَّ لهما الارتباط بالزواج، وكان الفارق بينهما في العمر عشرة سنوات.

 

* ما هي ثقافتها؟

** أمي كمعظم بناتِ عصرها يحصلن على الابتدائية لإجادةِ القراءة والكتابة ثم لا يُسمَح لهنَّ بإكمالِ الدراسة، ولكنَّ أمي تعلمت اللغة الفرنسية وأجادتها وهي أم لأربعة أولاد لمجرد أنها رأت صديقتها زوجة وكيل النيابة الذي كان يعمل مع زوجها في إحدى المحاكم القريبة من المنصورة تتقن الفرنسية وتتحدث بها مع عاملاتِ المتاجر الكبيرة في عاصمة الدقهلية، فأكبرت أن تكون لزوجةِ وكيل النيابة قدرة على التحدث بلغةٍ لا تعرفها, وهي زوجة القاضي الذي يعلو في المرتبة على وكيل النيابة، وسرعان ما استأجرت مُدرِّسةً كانت تجلس معها لحظاتِ فراغها النادرة لتتلقى عنها الفرنسية؛ حيث أجادتها في عدة أشهر، وصارت بعدها تتحدث مع زوجها بالفرنسية إذا دعت الحال ومع زوجاتِ زملاءِ زوجها.

 

* كيف كانت تتعامل مع زوجها في المنزل؟

** استحيت السيدة علية من الإجابة على هذا السؤال بالتفصيل واكتفت بالقول: "إن أمي رغم قوة شخصيتها وصلابتها إلا أنها كانت مثالاً في دماثةِ الأخلاق، كانت سيدة دائمة البشر تملأُ البيتَ بهجةً، وكذلك مع المحيطين بها".

 

وأنا أنقلُ- مُختصِرًا- مثالاً لتعاملها مع زوجها عن السيدة آمنة أخت الأستاذ عبد الحكيم عابدين والمذكور في كتاب (الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية) للأستاذَيْنِ الفاضلَيْنِ محمود الجوهري ومحمد الخيَّال؛ حيث ذهبت آمنة للعلاج بالإسكندرية ومكثت في بيتِ الإمام أسبوعًا، فتقول: "كان الأستاذ حاضرًا في الأيام الثلاثة الأولى، فكانت السيدة نعيمة زوجته تبالغ في التحببِ إليه وإدخال السرور على قلبه، فلا تُلاقيه في الظهر بثيابِ الصبح، ولا في العصر بثيابِ الظهر، وإذا ودَّعته حين يخرج ساعةَ الأصيل تجهَّزت بثيابٍ أجمل حين تستقبله بالمساء، ولا تخلو في كل ذلك من التزين له بما يناسب أهل الكمال والوقار، وكانت تنشط لتوديعه وتتأهب لاستقباله حين يرجع بأعزب ما يصنع عروسان متوافقان، في الأيام الأولى من الزواج!".

 

* كيف كان أسلوب التربية في بيتكم؟

 الصورة غير متاحة

 المستشار حسن الهضيبي

** تستطرد السيدة علية قائلةً: "لم يكن أبي يأمرنا بشيء، وكان سعيدًا بتعلمنا وتفوقنا؛ حتى إن أختي الكبيرة "سعاد" كانت من أوائل مَن تخرجن من كلية الطب، وهي زميلة لكلٍّ من د. زاهية ود. زهيرة عابدين وأختي "خالدة" من أوائل خريجات كلية العلوم وأنا خريجة كلية البنات بالزمالك، هذا هو شأنه مع بناته الثلاث، فما بالكم بتفوق أبنائه الذكور، ولم تكن كل الأسر تهتم بتعليم بناتها، خاصةً أنَّ أبي من قبائل عرب الصوالحة.

 

وكان أبي أثناء اصطيافنا في الإسكندرية في منطقة العصافرة الذي كان يستمر أربعة أشهر وأثناء وجودنا على الشاطئ إذا حضر موعد الصلاة قال لأخي الأصغر إسماعيل أذِّن للصلاة يا إسماعيل ثم يقوم للصلاة دون أن ينظر وراءه مَن صلَّى ومَن لم يصل مع أننا جميعًا كنا نحرص على الصلاةِ خلفه، حيث كان أبي يترك كل منا لذاتيته في عباداته وفي دراسته وعمله.

 

كان أبي إذا أراد تعليمي شيئًا يحكي لي موقفًا يتضمن هذا الشيء، وكثيرًا ما كان يتبع قصته بكلمة: "بقولك هذا من أجل أن تعرفي"، ولا يزيد على ذلك.

 

وفي ذات يومٍ اشترى لي ساعة، فقال له الأهل ما مناسبة هذه الهدية؟ هل نجحت علية؟ فقال ما علاقة الهدية بالنجاح؟! الهدية تقديرٌ واحترامٌ، ولا علاقةَ لها بشيء آخر.

 

كما تحكي عن والدتها فتقول: "ذات مرة رأت أمي ونحن في المصيف بالإسكندرية أن أحدَ رجال البلدية حضر للجيران وأغلق محبس الماء؛ لأنهم لم يدفعوا فاتورةَ المياه، وبعد أن انصرف موظف البلدية، قال الرجل لابنه: "اذهب يا ولد وافتح المحبس"، فتألَّمتْ والدتي وقالت: "لقد علَّم ابنه وأولاده أن يأخذوا ما لا حقَّ لهم فيه، وهذه هي بداية تعليمهم الظلم وأكل حقوق الآخرين، بل والسرقة أيضًا إن استطاعوا".

 

* كيف كانت علاقة السيدة نعيمة بدعوة الإخوان قبل أن يصبح زوجها مرشدًا لهم؟

 الصورة غير متاحة

 الإمام الشهيد حسن البنا

** تقول السيدة علية: كانت هناك صداقة بين الإمام الشهيد حسن البنا ووالدي، وكنتُ صغيرةً في السنِّ لم أبلغ العاشرة، وكنت ألحظ أن أبي وأمي يسعدان بالزيارات المتكررة التي كان يتابعنا بها الإمام حسن البنا في منزلنا بالروضة، وكانت علاقات سهلة وبسيطة وعادية، وكانت أمي تهتم بهذه الزيارات وتعد لها ما لذَّ وطاب من كرمِ الضيافة، وكذلك دعوة الأقارب للحضور عندنا وقت زيارة الإمام ليتعلموا من حديثه وكلماته، كما كانت تدعو أقاربنا من النساءِ لسماع خطباءِ الجمعة من الإخوان في مسجد (شريف) القريب من المنزل، والذي كان يتناوب فيها الخطبة الأستاذ حسن دوح والأستاذ سعيد رمضان.

 

وكان أبي يحدثها أن الإخوان ليسوا كغيرهم من الجمعياتِ التي كانت تجمع التبرعات للقيام ببعض الأنشطة الاجتماعية المحدودة ولكنهم جماعة تعمل للإسلام الشامل المتكامل.

 

* ما دور والدتك وموقفها من اختيار الوالد مرشدًا للخوان؟

** لقد لعبت والدتي دورًا مُهمٍّا بما لها من شخصيةٍ ومكانةٍ عند والدي في إقناعه بقبول هذه المهمة الصعبة، ولقد لجأ إليها الإخوان، وكانوا يأتون إلينا في منزلنا ويطلبون من والدتي مساعدتهم في إقناع أبي بقبول هذه المهمة، وأتذكر آخر حديثٍ دار بينهما قبل قبوله هذا المنصب، وكان أبي قليل الكلمات؛ حيث ردَّ على أمي التي جلست تسوق له القناعات بضرورةِ قبوله هذه المهمة قال لها: "هل أنتم على استعدادٍ أن يُقطَع عنكم الراتب؟ وتتعرضون للجوع أو السجن؟ ويُحال بيني وبينكم أو أن نُسجَن جميعًا؟ أو نُساق إلى المشانق؟ أو أن ألقى مصير حبيبي الإمام حسن البنا؟ فأجابته أمي بلا ترددٍ: "إن كان ذلك في سبيل الله فنحن لها إن شاء الله، وهنا قال أبي: "خلاص وأنا قبلت".

 

* ماذا كان موقف الوالدة (نعيمة) من القبض على الإخوان وإغلاق الدور والشُّعب الإخوانية عام 1954م؟

** كانت أمي تقول للإخوان: "لن يقف نشاط الإخوان إذا أغلقت الحكومة الدورَ، فإن بيوت الإخوان كلها دور وشُعب للإخوان"، وكانت أمي تجمع الأخوات في بيتها وتُشجعهن على الاستمرارِ في الدعوة إلى الله وسط الأهل والجيران.

 

وعندما قبضوا على الإخوان الرجال ومنعوا عنهم الرواتب قام شبابٌ من الإخوان بجمع أموالٍ سرًّا وكانوا يوزعونها على بيوتِ الإخوان المسجونين في أظرفٍ من تحتِ الأبواب، ولكن النظامَ الناصري قام بالقبض على هؤلاءِ الشباب بتهمةِ تنظيم الجهاز المالي.

 

فاجتمعت أمي بنساءِ الإخوان وطلبت من كلِّ واحدةٍ أن تُتقن عملاً منزليًّا تتكسب منه لها ولأولادها كالخياطة والتطريز والمخبوزات والطهي وغيرها، ومَن لا تستطيع إجادة شيء من ذلك فلتعد قدرةً من الفول ولتبيعها للجيران في أطباقٍ شهية، وكانت تجعل من منزلها معرضًا لبعض منتجاتِ نساء الإخوان يأتي الجيران والأقارب لشراءِ احتياجاتهم منه، وكانت تطلب من نساءِ الإخوان إجادة الصناعة بأعلى درجةٍ من الجودة، وتقول: "لا يجب أن يشتري الناسُ منا إنتاجنا تعاطفًا معنا، بل يجب أن يشتروه لجودته ورخص ثمنه عن ما يماثله من منتجات".
وكانت تكرر كلمتها الشهيرة لنساء الإخوان اللائي سُجن أزواجهن: "مفيش حاجة اسمها فقير يا أخواتي، ولكن فيه قلة حيلة وسوء تصرف"، فالمرأة صاحبة الحيلة والقدرة على التصرف لا تشتكي الفقر أبدًا.

 

وكانت تقول لهن: يجب أن يطمئن أزواجنا إلى أننا نعيش بغير معاناةٍ ماليةٍ حتى لا يُمثِّل ذلك ضغطًا على أزواجنا في سجونهم، نُريد أن نساعدهم على الثبات والقوة في وجه الظلمة والمستبدين.

 

* ما مكانة السيدة نعيمة (أم أسامة) في الدعوة؟

** أنقل مرةً أخرى من كتاب (الأخوات المسلمات) للأستاذين محمود الجوهري ومحمد الخيَّال نقلاً عن مقال الأستاذ عبد الحكيم عابدين لمجلة الشهاب البيروتية عدد (15) 1974م: "بعد تولي الأستاذ المستشار حسن الهضيبي مسئوليةَ المرشد العام للإخوان المسلمين سارعت الأخوات إلى حرم المرشد الجديد يطلبن منها تقلُّد زمام قيادة الأخوات المسلمات لما كان معروفًا عنها من رجاحةِ عقلٍ وسعةِ ثقافةٍ وأصالةِ إيمان، واستجابت (أم أسامة) بمثل تواضع زوجها لحملِ نصيبها من الجهاد، وكانت السيدة أم أسامة دعوةً ناطقةً بعملها وخُلقها وإيمانها، كما كانت كذلك بأحاديثها وجولاتها وإرشاداتها متعاونةً مع الأخوات الفضليات فاطمة البدري وسنية الوشاحي وسنية عبد الواحد وآمال العشماوي وغيرهنَّ كثير".

 

* ماذا عن ورعها عن الاستفادة بمكانتها في الدعوة؟

** يجيب الأستاذ عبد الحكيم عابدين- سكرتير الجماعة في ذلك الوقت- في نفس المقال السابق فيقول: "عندما سافر الأستاذ الهضيبي في صيف 1954م إلى السعودية وبعض بلاد الشام.. وجهتُ سائق سيارة الأستاذ المرشد بسيارته ليكون تحت تصرف السيدة أم أسامة حرم المرشد، ولكنها لم تقبل استقبال السيارة".

 

وهنا تُكمل السيدة علية الهضيبي: إن أمي قالت للأستاذ عبد الحكيم: "إن هذه السيارة يستعملها الأستاذ حسن الهضيبي بوصفه مرشد الإخوان وليس شخص حسن الهضيبي، فهي للدعوة فقط"، وحين تحدَّث إليها الأستاذ عبد الحكيم عابدين تلفونيًّا أن تقبل السيارة فإن لم تقبلها بوصفها حرم المرشد فرجاء أن تقبلها بوصفها مسئولة عن الأخوات وتنتقل بين الشُّعب والبلاد لتفقد العمل النسائي في مصر، ولكنَّ الداعيةَ الحصيفةَ الواعيةَ لم يستدرجها هذا المبرر الجديد لقبول السيارة كليةً فقالت: "إنني أتفقد الشُّعب والأخوات وفقًا لجدولٍ أضعه، وعلى سيادتكم أن تعتمده، وأن تحتفظَ بالسيارةِ حتى إذا أرسلت لك جدولَ زياراتي واعتمدته، فأرسل لي السيارة في أوقاتِ الجولاتِ فقط حسب الجدول المعتمد".

 

* ماذا كان رد فعل الوالدة يوم أن حُكِم على والدكِ بالإعدام من محكمة الثورة؟

** تحكي السيدة علية فتقول: إن أخي المستشار محمد المأمون اتصل بنا من غزة؛ حيث كان عمله هناك، وكان مشفقًا على والده ومشفقًا علينا فأمسكتْ أمي بالتليفون وسمعتُها تقول له: "إيه يا مأمون عاوزني أقول لك: "خير الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطانٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله"، بابا من حزب سيدنا حمزة، إحنا حننسى مبادئنا ولا إيه، وكمان قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائر".

 

وكانت هذه الكلمات بردًا وسلامًا على قلبه وقلوبنا، ثم جاء أهلنا وطلبوا من أمي أن يكتب أصغر أولاده- وهو أنا- التماسًا لتخفيفِ الحكم عن أبيها، وقالوا: "خلاص خلي علية وهي حبيبة صغيرة هي التي تتقدَّم بالالتماس لرئيس الجمهورية لتخفيفِ الحكم عن حسن الهضيبي"، وهنا نهرتهم أمي قائلةً: "يبقى عاوزين تعدموه مرتين، مرة بيد عبد الناصر والمرة الثانية بإيدينا إحنا.. حسن الهضيبي هو الرجل الأول في الإخوان، وهو قدوتهم ولو قدَّمنا التماسًا إلى عدوه وعدو الله يبقى إحنا بنقتله مرتين؛ مرة قتل معنوي ومرة قتل جسدي".

 

ويذكر الأستاذ عبد الحكيم عابدين في نفس المقال السابق موقف السيدة نعيمة (أم أسامة) تجاه هذا الحدث فيقول: ذهبت السيدة روحية زوجة أحد الإخوان لزيارة بيت الأستاذ المرشد في هذا التوقيت إبرءًا للذمةِ ورفعًا للملامة؛ إذ كانت شديدة التشيع لآل الإمام حسن البنا، وكانت لا تُطيق أن ترى بيتًا يخلف هذا البيت حتى ولو كان بيت حسن الهضيبي.. ولكنها فوجئت بامرأةِ حسن الهضيبي تملأها البشاشة وحولها بناتها الثلاثة (إذ كان الذكور في السجن) وعلى وجوههن الاطمئنان والسكينة، فنهضن جميعًا يستقبلنها ويرحبن بها وشملتها زوجةُ المرشد الجديد بكل لطفٍ وإيناس.

 

حتى إن السيدة روحية انقلبت مشاعرها وأفكارها رأسًا على عقب وانطلقت تقول: "هكذا يجب أن يكون المرشد، وكذلك ينبغي أن تكون زوجته وبناته".

 

وتحكي السيدة (روحية) أنه أثناء وجودها مع أسرة الإمام حسن الهضيبي حضرت السيدة (سعدية) زوجة الوزير (أحمد حسن) لتواسي زوجة الإمام وبناته قائلةً لأم أسامة: "هوني عليك (أحمد حسن بك) بعثني لأطمئنكِ بأنه مستمرٌّ في أقصى الجهود حتى لا يُعدَم زوجك وإن كانت كلمة المرشد لا مجالَ لها بعد الآن".

 

قالت زوجة الإمام: "يا سيدة سعدية هانم، اسمعي مشكورةً وبلغي السيد الوزير أن حسن الهضيبي ما تولَّى قيادة الإخوان المسلمين إلا وهو يعلم أن سلفه العظيم حسن البنا قد اغتيل وأُهدر دمه علنًا في شارع رئيسي بالعاصمة، وما رضي الهضيبي أن يكون خليفةً إلا وهو ينتظر هذا المصير، وقد باع نفسه لله، وبعنا أنفسنا معه فلن يرانا أحدٌ إذا كان هذا قدر الله إلا نماذجَ سكينةٍ واطمئنان، سعداءَ بأن نحتسبه عند الله، وتكتمل سعادتنا بأن نلحق به شهداء.
ثم تلفتت زوجة الإمام إلى بناتها الثلاث وقالت لهن: "هذا ما عندي، فماذا عندكن يا بنات؟ فتنبعث الصيحة من علية وخالدة وسعاد: "ليس عندنا إلا ما عندك يا أماه!!".

 

* ماذا عن تدخل الملك سعود لدى عبد الناصر لتخفيف حكم الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة عن الإمام الهضيبي؟

** يتحدث الأستاذ عبد الحكيم عابدين في نفس المقال السابق الذكر بأن أحد أفراد الإخوان بالسعودية قد اطَّلع على الخطابِ الذي بعثت به أم أسامة زوجة الإمام إلى الملك سعود بعد تدخله وتخفيف حكم الإعدام عن زوجها إلى المؤبد.

 

كان الملك سعود مأخوذًا بدهشةِ الإعجاب والإجلال من هذا الخطاب الذي نقلته إليه سفارته بمصر بتوقيع زوجة الهضيبي وبناته الثلاث.. تقول بعض كلمات الخطاب: "يا جلالة الملك؛ إننا إذْ نشكر كريم عاطفتكم نؤكد لكَ أننا على عهدِ الدعوة وميثاق الجهاد، سواء استُشهد الهضيبي أو طالت حياته، فلن تقف عجلة الصراع؛ لأنه ليس صراعًا بين الهضيبي وعبد الناصر، ولا بين الإخوان والثورة، ولكنه الصراع الأزلي الأبدي بين الحقِّ والباطل، بين الهدى والضلالة.. بين جنودِ الله وحزب الشيطان وسيظل لواء الدعوة مرفوعًا وعملها موصولاً ولو ذهب في سبيله آلاف الشهداء، من رجالٍ ونساءٍ حتى تعلو كلمة الله ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون".

 

* هل تعرَّض بيت الإمام الهضيبي للسجن؟

** تقول السيد علية الهضيبي: لقد تعمَّد عبد الناصر وزبانيته محاولة إذلالِ الإخوان وتمزيق معنوياتهم، فبعد القبض على إخوتي الذكور مع أبي ما عدا أخي المأمون تأخَّر القبض عليه، وجاءوا للقبض عليَّ وأنا أصغر بنات أبي أغلقتْ أمي في وجههم الباب، وكانوا يهددون بكسره وهي ترفض فتحه وتكيل لهم التبكيت والإهانة لانعدام رجولتهم وانحطاطِ أخلاقهم؛ حيث جاءوا للقبضِ على امرأةٍ حاملٍ في شهرها الخامس، وجاء أخي المأمون وجعل يرجو أمي أن تفتح الباب؛ حيث إن هؤلاء عندهم أوامر لا يملكون إلا تنفيذها حتى ولو استخدموا أقذر الوسائل، وبعد إلحاحٍ فتحت أمي البابَ واقتادوني إلى السجن الحربي في سيارةٍ عادية، وكانت معي في السجن السيدة هالة والسيدة المجاهدة زينب الغزالي التي كان يُحقق معها كل ليلةٍ مع تعذيبها، وكنا نسمع أصوات تعذيب الإخوان طوال الليل، ومكثتُ شهرَيْن ولم أخرج إلا بعد تقديمِ طلبٍ لكي أتمكَّن من الولادةِ في أحد المستشفيات.

 

وبعد أيامٍ حضر البوليس إلى منزلنا للقبضِ على أمي وكان المأمون موجودًا وكان الأمر قاسيًّا عليه؛ إذ كيف يُقبَض على أُمِّه أمام عينيه وتماسك أخي المأمون وطلب منهم أن يقوم هو بتوصيلها إلى السجن بسيارته الخاصة مراعاةً لكبرِ سنها بدلاً من سيارةِ السجن، وقام أخي بتوصيل أمه إلى سجن القناطر.

 

 

 المستشار محمد المأمون الهضيبي

أخي القارئ.. لو كنتَ عرفتَ هذا الموقف للأستاذ المأمون قبل وفاتِه- رحمه الله- لقبَّلت رأسه وقدميه.. كم كان عنده من جلدٍ وقوةِ تحمل؟ كم كانت نفسيته كبيرة أن يقود السيارة بنفسه لإيصال أمه إلى السجن؟ (آه يا أستاذ مأمون) كيف تحمَّلت ذلك الموقف؟ إنَّ الجبالَ الرواسي لا تتحمل مثل ذلك الموقف، وكيف بقيت بعدها على قيد الحياة وتحمَّلت السجن بعدها ست سنوات ثم أكملت مشوار الدعوة عضوًا في مكتب الإرشاد ثم مرشدًا للجماعة حتى توفاك الله!! ما أعظمك وما أعظم شأنكم آل بيت الهضيبي!!

 

لقد سُجنت أمه ستة أشهر في سجن القناطر وسُجن هو وإخوته الذكور ست سنوات.. هنيئًا لهذا البيت الكريم بثباته وجلادة رجاله ونسائه، وجزاهم الله عنَّا وعن المسلمين خيرًا.

 

وفي ختام حديثنا عن الجانب النسائي من هذا البيت أذكر بيتًا للمتنبي الذي قال فيه:

لَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ عَرَفْنَا     لفُضِّلتِ النَّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ

فَمَا التَّأَنِيثُ لاسِمِ الشِّمْسِ عَيْبٌ    وَلاَ التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلالِ