الحمد لله على كل شيء.. لا أعرف كيف أُعبِّر عمَّا يجول في خاطري، فشعوري يجمع بين الفرح والحزن، السعادة والضيق؛ لما أراه عرسًا لوالدي الذي ارتاح من مرض الدنيا إلى نعيم الآخرة- بإذن الله- وما أراه مأتمًا لفراق الأب والوالد والمربي والعالم والمجاهد والمفكر عن أهله وإخوانه، وأصدقائه وأحبائه.

 

كانت أيامه الأخيرة تنحصر في قراءة القرآن (6 أجزاء يوميًّا، و10 أجزاء أيام المرض)، والتأمين على كلِّ مَن يدعو له خلال زيارته حتى صارت كلمة "آمين" لا تفارقه طوال الليل، ليس هذا فحسب، بل كان يتحدث إلينا ويُقدِّم لنا الوصايا الدالة على إنه مودع الآن.. فكان نعم الحديث، ونعم الوصايا التي لا تفارق ذهني ولا مخيلتي لحظة واحدة.

 

والدي- رضي الله عنه- كان متسلحًا بالحكمة التي كان يرددها مرارًا وتكرارًا: "مَن أراد أن يعمل لدينه، واجه المصاعب، ولكن سيحيا كبيرًا ويموت كبيرًا"، وبالفعل مات كبيرًا مرفوع الرأس بعد تاريخٍ مشرقٍ في الدعوة، وكان من فرسانها المخلصين- نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا-.

 

في البيت تراه عطوفًا رحيمًا، قائدًا، حازمًا، معالجًا، يعلمنا كل شيء، ثم يترك لنا حرية الاختيار.. كان بعض الناس يتساءلون: لماذا بعض أبناء الشيخ ليسوا مثله؟! فيجيب بتساؤل: لماذا ابن سيدنا نوح- عليه السلام- ليس مثله؟!! لقد نجح أبي في تربيتنا، وتصحيح فكرنا، وأخرجنا من الزلات، ووقانا من الكبائر، وحفظنا من الفتن بالحكمة والموعظة الحسنة.. فالله يشهد أنه كان خير الأب، وخير الصديق، وخير الزوج، وخير الابن، وخير العم، وخير الخال، وخير الجد.

 

لم يمنعه المرض من إدارة مسئولياته بالكويت وخارجها، فكان يسأل عن هذا، ويطالب بهذا، ويحل مشكلة هذا، ويقترح على هذا، ويُوصي هذا، حتى إني كنت أشعر بأن هذا الرجل مَلِكٌ يمشي على الأرض، كما أنه أخلص لدعوته، بالرغم من ترديده في أيامه الأخيرة بأنه مقصرٌ في واجباته، خاصةً الدعوية.. فكان يقص علينا قصصًا توضح مدى إخلاص إخوانه السابقين في حقل الدعوة، وذلك بنبرةٍ بكائيةٍ عاطفية تُبيِّن رقة قلب هذا العالم العامل، وسيره على النهج الوسطي المعتدل؛ وذلك لكي نأخذ العبرة والعظة.

 

لم أشعر بقيمة هذه الجوهرة الإسلامية التي كانت تقبع بين جدران منزلنا إلا بعد التزامي التام.. فشعرتُ وقتها أني ضيَّعتُ عمرًا كبيرًا في الغفلةِ عن هذا الرجل الرباني العابد العالم.. ولكن الحمد لله أنه أنار لنا الطريق، وأضاء لنا دروب الهداية. لا نسأله عن شيء إلا وجدنا ذهنه حاضرًا، والإجابة جاهزةً، في السياسة متابع، وفي الفكر صاحب رأي، وفي الحديث محدِّث، وفي الدعوة فارس، وفي الثقافة مثقف، وفي الفقه فقيه، وفي القرآن حافظ، حتى عرضنا عليه ذات مرة أن يُقدِّم نفسه لمَن سيربح المليون؟!.. فكان حقًّا موسوعةً متكاملةً تسير على الأرض.

 

عندما كنا نقول له: نريد أن نُوفِّر بعض الأموال، كان يردد دائمًا: "اصرف باعتدال دون إسرافٍ ولا تقتير، فالإنسان لا يضمن عمره أبدًا".. فجعلنا نعيش في سعةٍ وراحةٍ دون تجاوز.

 

والدي العزيز.. سكرات موتك كانت تدل على بعض المعاناة التي تكبَّدتها، ولكن غسلك يدل على أنك- إن شاء الله- مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.. فماء زمزم تقاطر على جسدك الطاهر، ورأسك الكريمة أبت أن تغير وجهتها عن اليمين.. فنسأل الله أن تكون من أهل اليمين، وأن يجمعنا بك في الفردوس الأعلى.

 

أخيرًا.. نُقسم بالله العلي العظيم إننا لن نحيد- يا صاحب عمامة الإسلام- عن دربك الطاهر الشريف، وإننا سنسير على نهجك القويم المعتدل، ولن نخذلك أبدًا، وسنرفع اسمك عاليًا في الآفاق.. فنم راضي النفس قرير العين.