عرفت الشهيد عبد الله عزام، وعايشته لبضع سنين؛ ففي 18 من أكتوبر سنة 1981م- وكنت آنذاك مدرِّسًا بكلية الألسن بجامعة عين شمس- غادرت القاهرة إلى الولايات المتحدة مبعوثًا من وزارة التعليم العالي المصرية أستاذًا زائرًا لمدة عام، بجامعة (Yale) بمدينة نيوهافن بولاية كنكتكت.

 

وفي أواخر ديسمبر من العام نفسه، وعلى مدى أربعة أيام، حضرت مؤتمرًا بمدينة سبرنج فيلد (Spring Field) بولاية ألينوي للشباب المسلم العربي، حضره قرابة عشرة آلاف من الشباب، وكان شعار المؤتمر: "الأسوة الحسنة"، وحول هذا الشعار دارت أغلب المحاضرات والندوات، وقام الشباب المسلم- في دقة رائعة وانضباط منقطع النظير- بكل الأنشطة والأعمال والخدمات التي يتطلبها المؤتمر، يصدق ذلك على تقديم الطعام بوجباته الثلاث، وأعمال النظافة والحراسة، والتسجيلات الصوتية, والنشرة اليومية المطبوعة, والسوق الخيرية.. إلخ، حتى أشادت الصحف الأمريكية ببراعة هذا التنظيم ودقته، ويومها كتبتُ في نشرة المؤتمر، التي كانت تصدر يوميًّا: ".. لقد آمنت بإمكانية قيام الدولة الإسلامية المنشودة؛ لأن ما رأيته من دقة وتعاون ونظام ونشاط وإخلاص في التدبير والتنفيذ.. يجعل من المؤتمر صورةً مصغَّرةً للدولة الإسلامية، التي نتطلَّع إليها، وتهفو قلوبنا إلى وجودها ...".

 

وفي هذا المؤتمر العظيم كان أول لقاءٍ لي بالدكتور عبد الله عزام، الذي كان واحدًا من أعلام المحاضرين والخطباء في المؤتمر، وفي إحدى الأمسيات شرح عبد الله عزام أمام هذه الألوف المؤلَّفة من الشباب أبعاد القضية الأفغانية، وسمعت منه كلامًا جديدًا جعلني أزداد إيمانًا بصدقية الجهاد الأفغاني.

 

كان عبد الله عزام يتكلم بنبض إيماني دفَّاق باسم الإسلام والجهاد والدَّم الزكيِّ الذي بذله أكثر من مليون شهيد، ولكنَّ هذه العاطفة القوية الجيَّاشة كانت مصحوبةً بمنطق عقلي علمي متزن وقور، وفي تضاعيف كلامه حثَّ عبد الله عزام شبابَ المؤتمر على التبرُّع للمجاهدين واليتامى والأرامل والجرحى ببعض مالهم، وانضمَّ لصوته صوتٌ قويٌّ آخر، يتدفَّق بلاغةً وإيمانًا، هو صوت الدكتور يوسف القرضاوي.

 

وفي ربع ساعة كان أمام الرجلَين على منصَّة الخطابة ما يزيد على ربع مليون دولار، عدا مفاتيح عشرات من السيارات الفاخرة، مصحوبةً بتنازلات عن ملكيتها لصالح القضية الأفغانية، وهذا كله عدا "أثقال" من الحليِّ الذهب، تبرعت بها السيدات المسلمات اللائي كنَّ يحضرن المؤتمر في قاعة مستقلة، وقد علمت أن الواحدة منهن كانت تجرِّد عنقَها وأذنيها ويديها من حليِّها الفاخر, وتضعه في منديل, وتقدِّمه تبرعًا وهي تلهج بقولها: "ما عند الله خير وأبقى".

 

كان عزام مندوبًا عن المجاهدين الأفغان في المؤتمر، ولم أكن أعرف عنه إلا أنه فلسطينيُّ الجنسية، وأنه أحد الأعضاء البارزين المخلصين في جماعة الإخوان المسلمين، وأنه يعمل أستاذًا للشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام أباد بباكستان، وأن له صلةً قويةً وثيقةً بقادة المجاهدين الأفغان، وخصوصًا سياف عبد رب الرسول، وقيل إنه كان همزة الوصل بين المجاهدين الأفغان، وبعض الشعوب العربية، وأصحاب الاتجاهات الإسلامية الحريصين على مناصرة المجاهدين الأفغان، ونَمَا المجهودُ المبارك بعد ذلك بفتح مكتب في مدينة بشاور لإعداد المجاهدين من المتطوِّعين العرب الذين وفدوا إليه بالمئات، ولتلقي التبرعات، وتنسيق الجهود على كل المستويات، وكان عبد الله عزام هو القائم على أمر هذا المكتب ورعاية شئونه.

 

وكان لقاؤنا الثاني في الجامعة الإسلامية بإسلام أباد التي أُعِرْتُ للعمل بها لمدة خمس سنوات (1984م- 1989م)، وهي الجامعة التي يعمل بها الدكتور عزام، وتعددت لقاءاتي به في الجامعة حتى كادت تكون لقاءات يومية سريعة.

 

ثم كانت لقاءاتنا في منتديات ومحاضرات عامة، وكان- رحمه الله- حريصًا على حضور الأمسيات الشعرية التي كنا نُقيمها في الجامعة أو مقر اتحاد الطلاب العرب، فقد كان يحب الشعر ويتذوقه ويحفظ كثيرًا منه، ويستشهد ببعض الأبيات الشعرية المتوهجة في مقالاته.

 

وأذكر في هذا المقام أنه- رضوان الله عليه- ما كان يلقاني في الجامعة ونحن في طريقنا لأداء محاضراتنا في الفصول إلا أوقفني وقال وعلى وجهه ابتسامة عريضة:

- "لن أتركك إلا إذا أمليت عليَّ بيتًا من شوارد الشعر"، ويُخرج من جيبه "نوتة" صغيرة، ويسجِّل فيها ما تسعفني به الذاكرة، ولآخر بيتٍ أمليته له قصة: لقد استوقفني وقال: أريد بيتًا في موضوع الغربة، فضحكت وقلت له: اكتب المثل المصري المشهور "الغربة كربة"، قال مبتسمًا: "أعني غربة الروح"، وأحسست أنه شعر بالارتياح العميق حينما أمليتُ عليه بيت ابن الرومي:

أعاذَكَ أنسُ المجدِ من كل وحشةٍ      فإنَّكَ في هذا الأنامِ غَريبُ

وبصوت خفيض أخذ يردد الشطر الثاني, ورأيت في عينيه عبرتَين, وافترقنا.

أما آخر اللقاءات فكان بعد صلاة العشاء مساء يوم من أيام فبراير سنة 1989م، كنت ألقي محاضرةً عامةً في قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة، وموضوعها: "رائد الجهاد الفلسطيني عز الدين القسام: في التاريخ والأدب".

 

 الصورة غير متاحة
 
وأثناء المحاضرة دخل عبد الله عزام ومعه أبوه الذي جاوز الثمانين: شيخ قصير القامة، علاه الشيب، ولكنَّ الحيوية تظهر في عينيه وقسمات وجهه، وكان معهما العالم العراقي المجاهد الشيخ محمد الصواف، وعلَّق الشيخان عزام والصوَّاف على المحاضرة بكلام طيب، وكان تعليق عبد الله عزام- كله أو أغلبه- تغزُّلاً في الشهادة ومقام الشهداء حديثَ مَن يمتدُّ بنظره وروحه إلى نيل هذا الشرف العظيم.

 

هذا والمعروف أن عبد الله عزام ترك العمل بالجامعة سنة 1987م ليتفرغ تمامًا لمقتضيات الجهاد الأفغاني، وليصبح علَمًا من أعلام هذا الجهاد، أما الأدوار النبيلة التي قام بأدائها فهي أكثر من أن تحصى وتعد.

 

وعدت إلى مصر- بصفة نهائية- في يونيو 1989م، وعلمت بعد عودتي بأسابيع نبأ استشهاده ومعه ولداه محمد وإبراهيم، حين فجَّر أعداء الإسلام سيارته وهو متجهٌ إلى أحد مساجد بشاور لإلقاء خطبة الجمعة يوم 25/4/1410هـ= 24/11/1989م، قلت: يرحمه الله، لقد حقَّق الله له أغلى أمنية حرص على تحقيقها طيلة حياته، وانعكست سيرته وعظمته حروفًا مشرقةً مضيئةً في قصيدة ملحمية طويلة نظَّمتُها بعنوان: "الفارس الذي صعد"، ومنها الأبيات التالية:

ثم اختفَى فسألتُ عنه

- فقيل:

لا تبحثُ هنا، وأبحثُ هناكْ

- وما هناكْ؟

- حيث المدافعُ والخنادقُ والصخورْ

حيث الكفاحُ المرُّ يحكي ملحمَةْ

كُتبتْ بماء القلبِ والأعصابِ

والأشلاءِ والعزم السعيرْ

فهناك خَالدُها

وسعدٌ

والمثنى

والكتيبةُ

والنذيرْ

يتقدمون بفتية الأفغانِ

في زحفٍ خطيرْ

و"عُقابُ" سيدنا رسولِ الله

فَوقهُم ترفرفُ كالهديرْ

ليحققوا النصر الكبيرْ

أو موتةً تزهو على الأكوانِ

"أنْعِمْ بالمصير"!

"عزامُ" في هِذي الكتيبِة في بَشاورْ

أو عند "غزنةَ" أو "هرات" و"قندهار"

ليلاً هُنا، وهناكَ في ألَقِ النهارْ

-----------

* [email protected]