ليس خافيًا على أحد ما يصيب الإخوان نهارًا وما يدبَّر لهم بليل؛ من بأساء وضراء.. ومع هذا الإيذاء والاستضعاف والمهانة والاستكانة ما لانت لهم قناة وما ضعفت لهم عزيمة، بل يخرجون من المحن أصلب عودًا وأقوم قيلاً وأهدى سبيلاً وأشد تثبيتًا.. ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران).

 

ومن هنا كان حرص الإمام حسن البنا على ركن الثبات، وحضَّ عليه، ودعا أبناء الدعوة إليه؛ لأن طريق الدعوة مليء بالآفات المهلكة، والعقبات المثبطة، ولا يمكن الفكاك من هذه، والوقاية من تلك إلا بالتحلي بالثبات.

 

فأوصى رحمه الله إخوانه السالكين درب الأنبياء والسائرين على فجاج العزة والكرامة منذ ما يربو على ستين عامًا، أن يثبتوا ويصبروا ويصابروا قائلاً: "أحب أن أصارحكم، إن دعوتكم لا زالت مجهولةً عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميَها وأهدافَها ستلقى منهم خصومةً شديدةً وعداوةً قاسيةً، وستجدون أمامكم الكثيرَ من المشقات وسيعترضكم كثيرٌ من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيلَ أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين، ولا زلتم تمهِّدون للدعوة، وتستعدون لما تتطلَّبه من كفاح وجهاد، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبةً في طريقكم، وستجدون من أهل التديُّن ومن العلماء الرسميين مَن يستغرب فهمَكم للإسلام ويُنكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقِد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كلُّ الحكومات على السواء، وستحاول كلُّ حكومة أن تحدَّ من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم".

 

وكأنه- رحمه الله- بين ظهراني إخوانه الآن، يشخص لهم الداء ويصف لهم الدواء الناجع، يناديهم أن يقفوا على معالم الدعوة وحدودها ويحيطوا بها فهمًا وسلوكًا، ويبصِّرهم بما يمكن أن يعترض طريقهم؛ فيقول: "وسيتذرَّع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم، وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون من أجل ذلك بالحكومات الضعيفة، والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدَّة إليهم بالسؤال وعليكم بالإساءة والعدوان، ويثير الجميعُ حول دعوتكم غبارَ الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يُلصقوا بها كلَّ نقيصة، وأن يُظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾ (التوبة)".

 

ثم يحدد الأساليب التي تتعامل بها الأنظمة المستكبرة مع الدعاة المجاهدين مما يمسهم من الأذى والضير في سبيل فكرتهم النبيلة وغايتهم المجيدة، فيقول: "وستدخلون بذلك ولا شكّ في دور التجربة والامتحان، فتُسجنون وتُعتقلون وتُقتلون وتُشرَّدون، وتُصادَر مصالحكُم، وتُعطَّل أعمالُكم، وتُفتَّش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)﴾ (العنكبوت)، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرةَ المجاهدين ومثوبةَ العاملين المحسنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)﴾ (الصف)، فهل أنتم مصرُّون على أن تكونوا أنصار الله؟!".

 

نعم إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.. وهنا مقالان من مقالات الإمام الشهيد حسن البنا يشدُّ فيهما على أيدي إخوانه المعتقَلين الممتحَنين خلف الأسوار وفي السجون، والمحالين للمحاكمات العسكرية:

 

*******

1- تثبيت

﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) ﴾ (إبراهيم).

 

آيتان من كتاب الله تبارك وتعالى في سورتَين منه: في الأنعام وفي هود، ظلَلْتُ أذكرهما منذ الحديث السابق إلى اليوم، فأحببتُ أن يشركني الإخوان الكرام في تذوُّق حلاوتهما وتدبُّر معانيهما، والعظة الكاملة بما فيهما، و﴿ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 7).

 

ذكرت الأولى في سورة الأنعام ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ (35)﴾ (الأنعام).

 

لقي الأخنس بن شريك أبا جهل في بدر في خلوة، فقال له: "يا أبا الحكم ليس ها هنا أحدٌ إلا أنا وأنت تسمع ما يقول.. أفتظن أن محمدًا كاذب وما عهدنا عليه كذبًا؟!"، فقال أبو جهل: "يا هذا إن محمدًا لصادق، ولكن إذا ذهبت قُصَيّ بالحجابة والسقاية والندوة والنبوة.. فما لسائر قريش؟!" فأنزل الله الآية الكريمة: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾.

 

وكذلك الناس في كل زمان ومكان، هل يظن أحد في هذا الوادي أن دعوة الإخوان التي ترتكز على أصول الإسلام الحنيف، وهو دين الدولة والأمة دعوة باطلة أو كاذبة؟! لا، ولكن الأحزاب المستفيدة، والحكومات المتعاقبة، وأهل الجاه والسلطة يكرهون أن تقوم في الناس دعوةٌ تعلِّم الجاهلين، وتنبِّه الغافلين، وتأخذ بحقِّ المظلومين من الظالمين، وتقرّ العدالة باسم الله رب العالمين، ولو عقلوا لعلموا أنهم ناصروا دعوة الحق واعتنقوا فكرة الحق، قام سلطانهم على دعائم لا تزول ولا تحول، ولكن هكذا كان، ولله في خلقه شئون.

 

وذكرت الآية الثانية في ختام سورة هود قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾ (هود).

 

فقلت ما أشبه الليلة بالبارحة..!! ﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وهل خرجت دعوة الإخوان عن أنها الحق والموعظة والذكرى للمؤمنين؟!

 

فيا أيها الذين لا تؤمنون بها.. اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون..
ويا أيها الإخوان المسلمون من المؤمنين بدعوة الإسلام والمجاهدين في سبيلها.. اعبدوا الله حقَّ عبادته، وتوكَّلوا عليه في كل شئونكم، وما ربكم بغافل عما تعملون ويعملون، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، واثبتوا على هذا الخبر اقتداءً بنبيكم والمرسلين من قبله، صلوات الله عليهم أجمعين.

 

ولا أحب أن أُطيل عليكم القول، فتذهب الإطالة بحلاوة الآيات الغنية عن الشرح والبيان لمن كان له قلب أو ألقَى السمع وهو شهيد.

 

(هذا المقال ورد بجريدة (الإخوان المسلمون) اليومية- السنة الثانية- العدد 597- ص 1 بتاريخ 29 جمادى الأولى 1367هـ= 9 أبريل 1948م).

 

2- محنة أو منحة

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33)﴾ (يوسف).

 

كذلك مضت سنةُ ربك من قبل ومن بعد.. ما صدع أحدٌ بالحق وجهر به، ودعا الناس إليه إلا أوذي، والعاقبة للمتقين والنصر للصابرين.

 

﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾ (البقرة).. ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾ (الحج)، ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)﴾ (العنكبوت)، وسبحان من قسَّم الحظوظ، فلا عتابَ ولا ملامةَ، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ (الشورى: من الآية 7).

 

تلوت هذه الآيات جميعًا، واسترسل بي التفكير، وتداعت إلى نفسي المعاني، يأخذ بعضها بعجز بعض، وانتقل الخاطر من الآيات إلى العظات، ومن الحاضر إلى الغابر، وتكشَّفت صحائفُ التاريخ، فلمحتُ في ثناياها المشرقة أئمة الفقه الإسلامي الأربعة: أبا حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل الشيباني، رضي الله عنهم جميعًا، أولئك الذين مهَّدوا للناس سبُل الفقه، وعبَّدوا طرائقَه للسالكين، وكانوا في الناس كالشمس للدنيا والعافية للبدن، ومع هذا لم ينجُ أحدهم من محنة في سبيل الحق، كانت له منحةً ولا شكّ.

 

عُرض القضاء على أبي حنيفة مرتين، وهو يعلم أن استقلال القاضي حينذاك قد يهدِّد بتدخُّل الولاة ورأي الخلفاء، مع أن القاعدة العامة يومئذ أن منزلة القاضي من السموّ بحيث لا تنال منها رهبةٌ ولا تؤثر فيها رغبةٌ، وكان لأبي حنيفة في الدولة رأيُه فلم يشأ أن يقبل، وألحَّ أبو جعفر وأصرَّ أبو حنيفة، وأقسم الخليفة فأقسم الإمام، وانتقل الأمر إلى التهديد والوعيد، فلم يفعلا شيئًا أمام عزيمةٍ أقوى من الحديد، وضُرب الإمام أكثر من مائة سوط حتى سال الدم على عقبيه وهو ثابتٌ لا يلين، وحُبس حتى مات في محبسه أو أُخرج منه واعتُقل في منزله لا يُفتي، ولا يجتمع الناس عليه، وهو على موقفه الأول، وجاءته أمه تعاتبه وتقول: "يا نعمان، إن علمًا ما أفادك غير الضرب والحبس لحقيقٌ بك أن تنفرَ عنه"، فقال: "يا أماه لو أردت الدنيا ما ضُرِبت، ولكن أردت وجه الله وصيانة العلم".

 

وسئل مالك عن طلاق المكرَه- وهو يعلم ما يقصد السائل، وأنه يسأل عن يمين البيعة يُكرِه الوالي عليها الأمةَ، فلا تجد مخرجًا إلا اليمين هربًا من العذاب الأليم- فقال: "طلاق المكره لا يقع"، وغضب الوالي لفتوى الإمام، وأحضره، وحاول أن يثنيَه عن عزمه، وأنَّى له، فأمر به فضُرب مائة سوط، وجُذب جذبًا عنيفًا حتى خلعت كتفه، وطيف به في الأسواق وهو يقول مع هذا كله: "طلاق المكره لا يقع".

 

واتُّهم الشافعى رضي الله عنه في اليمن بانضمامه إلى حزب الطالبيين وشغبه على حكومة الرشيد وإمامته، فأُحضر من صنعاء إلى بغداد بالسيف والنطع، وأُعدم قبله تسعة وكان هو العاشر، ومع هذا لم تهُن عزيمتُه، ولم تلن قناته، ولم يذهب الخوف بلبّه، وأثبت الحق لنفسه حتى فاز بإعجاب الخليفة به، وتقريبه إياه، وسلم العلم والفضل بسلامته.

 

وحاول المعتصم أن يظفر من الإمام أحمد بن حنبل الشيباني بكلمة تُوافق رأي الخلافة ومذهبها حين ذاك، والإمام حيث هو وقَّاف عند كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- منكِر لكل ما يسمع عداهما لا يتحوَّل ولا يتردَّد، وضُرب حتى غُشي عليه، وسُجن في بيته لا يتصل بأحد، ولا يتصل أحد به، حتى فرَّج الله عنه، فلم يكن خصومه معه إلا على حد قول القائل:

كناطح صخرة يومًا ليوهنها          فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

 

ومن قبل ومن بعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مضت وتمضي سنة الله العلي الكبير ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)﴾ (محمد).

 

فاللهم إن كان بلاءً في مرضاتك وفي سبيلك فمرحبًا به وأهلاً، ولك العتبى حتى ترضى، وما لم يكن بك غضبٌ علينا فلا نبالي، وعافيتك بعد ذلك أوسع لنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأنتم أيها المجاهدون العاملون لدعوات الحق اليوم وغدًا.. هذا نبأٌ من الأمس ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 90).

 

(هذا المقال ورد بجريدة (الإخوان المسلمون) اليومية- السنة الأولى- العدد 192- ص 1 بتاريخ 25 محرم 1366هـ= 19 ديسمبر 1946).

------------

[email protected]