قال لي صاحبي وهو يحاورني: ماذا أخذتم من قراركم خوضَ انتخابات المحليات غير الخسائر والعناء؟! ألم يُعتقل المئات من رجالكم في جوف الليل وجنح الظلام؟! ألم تُنتَهك حرمة بيوتهم وتُروَّع نساؤهم وأطفالهم؟! ألم يُستَولَ على ممتلكاتهم وأوراقهم؟! ألم تُغلق مصادر رزق بعضهم من محلات تجارية وشركات اقتصادية وغيرها؟! ألم يُنقل بعض الموظفين إلى أماكن نائية عن بلادهم؟! ألم تتعرَّضوا إلى تعقيدات وعوائق جمة في سبيل استخراج الأوراق الرسمية اللازمة للترشُّح وعجز كثيرون منكم عن الحصول عليها؟! ألم يتعرَّض بعضكم إلى بطش البلطجية والمجرمين واختطافهم أوراقَ الترشيح من مرشَّحيكم تحت حماية رجال الشرطة؟! ألم تتعرَّضوا إلى أساليب خسيسة حالت دون تمكُّن رجالكم من تقديم أوراق ترشيحهم؟!.

 

وحتى حينما حصلتم على آلاف الأحكام القضائية بإدراج أسماء رجالكم في قوائم المرشحَّين.. ماذا فعلتم بهذه الأحكام؟ ألم يضربوا بها عرض الحائط؟! وعندما احتججتم سلميًّا، ماذا حدث؟ ألم تتوسَّع دائرة الاعتقالات والاختطاف؟! وهل نسيتم أن لديكم رهائن عندهم؛ إخوانكم الذين يُحاكَمون أمام المحكمة العسكرية؟! وماذا يمكن أن يفعلوا بهم؟! ثم ألم يكن في قراركم هذا إضفاءٌ للشرعية على النظام فاقد الشرعية؟! وفي النهاية ماذا حصدتم؟! كم عدد المقاعد التي فزتم بها؟! إن هذا ما دفع أحد المحللين السياسيين إلى اعتبار هذا القرار انتحارًا سياسيًّا.

 

قلت لصاحبي وأنا أحاوره: إنني أتفق معك في معظم ما قلت، بيد أن نظرتنا وتقييمنا للأمور لا يقف عن حدود التقييم المادي فحسب، بل يمتد إلى الجانب المعنوي أيضًا، كما أنه ليس مقصورًا على الدنيا فقط، وإنما يتعداها إلى الآخرة، وحتى أشرح لك ما أعنيه بهذا الكلام، أقول: لا أحسبك تخالفني في أن الفساد والاستبداد قد وصل في مصر إلى مستوًى غير مسبوق، وأن وضع مصر قد وصل إلى الحضيض على كل المستويات وفي كل المجالات، ويكفي للتدليل على ذلك أن الناس أصبحوا يتقاتلون على رغيف الخبز، وبالأمس كانوا يتظاهرون من أجل شربة الماء، إضافةً إلى الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات التي تقوم بها كل فئات الشعب اعتراضًا على الغلاء الحارق وتدنِّي الأجور والعجز عن توفير مقومات الحياة، إضافةً إلى مظاهر الفساد المتوحش المتمثِّل في الاحتكار والاستيلاء على أراضي الدولة وأموال البنوك وبيع القطاع العام بأبخس الأثمان، ومدِّ العدو الصهيوني بالغاز الطبيعي بأقل من سعر تكلفته، إضافةً إلى القضايا الشهيرة: قضية العبارة وغرق المواطنين وهروب صاحبها من المطار من صالة كبار الزوار، والمبيدات المسرطنة، والقطارات المحترقة والمتصادمة، ونزيف الدم على الطرق نتيجة حوادث التصادم، والشباب المقامر- ولا أقول المغامر- بحياته الذي يغرق في عرض البحر وهو يحاول الهروب من جحيم الحياة في وطنه.. إلى آخر جبل الفساد الذي تظهر قمته وتختفي قاعدته تحت ستار من الظلام كثيف في تحالفٍ أثيمٍ بين السلطة والثروة، ويقبع فيه نهَّابو الأموال ومصادرو الحريات ومصاصو الدماء.

 

ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير فريضةً كفائيةً، وكانت غالبية الناس عازفةً عنها بحكم الخوف من بطش السلطة، فقد أصبحت هذه الفريضة فرضَ عين علينا نحن الإخوان المسلمين بحكم حملنا دعوةَ الإسلام وتطبيقًا لقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104) ولقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان"، وأيضًا لما كان الجهاد فريضةً ماضيةً إلى يوم القيامة، وكان "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، ولما كان الله عز وجل يغيِّر الأحوال وفق سنة التدافع ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: من الآية 251).

 

لكل هذه الواجبات الشرعية كان لزامًا علينا أن نتصدَّى للظلم والفساد والاستبداد، وأن نسعى إلى خدمة الشعب وتحقيق الإصلاح وفعل الخير ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج).

 

ولو أننا تقاعسنا عن أداء هذا الواجب لا قدَّر الله لأوشك الله أن يعمَّ الأمة بعذابه "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه"، كما أن القرآن الكريم يحدثنا أن الله تعالى حينما يشمل أمة ما بعذابه، فإنه ينجي الذين ينهون عن الفساد ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف:165).

 

ولو نظرنا إلى ما تستهدفه الحكومة من منهج الإرهاب والطغيان الذي تمارسه مع الشعب ومع الإخوان المسلمين بصفة خاصة من اعتقالٍ وترويعٍ ومحاكماتٍ هزلية وحربٍ على الأعمال والأرزاق وتزوير للانتخابات.. إلى آخر الوسائل المتكرِّرة والمعروفة، لوجدناها تستهدف تحويل هذا الشعب إلى شعبٍ أبكم أصم أعمى، أو شعبٍ ميت لا يتحرَّك مهما أُذلَّ أو قُهر أو أُفقر أو بيعت مؤسساته أو حتى بلاده أو وُظِّفت السياسة ضد مصالحه ومصالح إخوانه ودينه، وفي صالح أعدائه من الأمريكان والصهاينة، فلو أننا استجبنا لهذه الأهداف الفاسدة لحقَّقنا لهم ما يريدونه، ولتركنا شعبنا ووطننا يسقطان في هوةٍ سحيقةٍ من الذلة والتخلف والتبعية ما لها من قرار، ومن ثم كان لا بد لنا أن نقف لنقول "لا" لهذه السياسة، ونثبت لهم أن هذه الأمة لم ولن تموت، وأن فيها روحًا تسري، وقلبًا ينبض، وجماعةً تقول الحق وتسعى إلى الخير وتقدِّم التضحيات مهما غلت، ولا تخاف في الله لومة لائم، وبذلك نقدِّم للناس نموذجًا يجدِّد الأمل، وشعلةً تبدِّد الظلام، وجسارةً تكسر لديهم حاجز الخوف، وتغري بالتضحية والثبات والانحياز للحق، وتثبت أن الباطل هزيل ضعيف مهما تدرَّع بكل أسلحة الفتك والبطش.

 

وهذا هو المعنى الذي نريد أن تتشرَّبه قلوب الناس وعقولهم ليس عبر الكلام ولكن عبر الواقع المضني الذي نعانيه، ونستعين بالله على تحمُّله والرضا به، ولا ريب أنَّ تراكم التجربة والمعاناة سوف تُحصِّن إخواننا ضد المعاناة، وتدفع الشعب يومًا بعد يوم إلى انتزاع حقوقه والقضاء على الفساد من جذوره.

 

ونحن، وقد وازنَّا بين هذه المنافع المعنوية وبين الأضرار المادية التي ذكرتها سيادتك، فرجَّحت بشدةٍ كفَّة المنافع على المضار، والأرباح على الخسائر، ومن ثمَّ اتخذنا قرارنا بخوض الانتخابات رغم أن كل ما حدث وما يحدث كان ماثلاً أمام أعيننا من أول لحظة، ووجدنا أن الأمر يستحق كل التضحيات التي قدَّمناها وما زلنا نقدمها، إضافةً إلى أن قيامنا بالواجبات الشرعية التي أسلفتُ الحديث عنها لا شكَّ أشعرتنا بأننا نطيع ربنا ونرجو ثوابه ونمتثَّل لأمره؛ ولذلك تجد الواحد منَّا يُقدِّم ما يقدِّم وهو يستشعر بأنه قليلٌ في حق الله، ثم في حق الوطن، والأمر الذي أحسبه غريبًا على كثيرٍ من الناس أنه يشعر بالسعادة، وهو يسام الظلم ويتعرَّض إلى الأذى والاعتقال؛ لأنه يفعل ذلك في سبيل الله، ثم هو يبغي الخير لأهله ووطنه.

 

ناهيك عما يعتقد أنه ينتظره في الآخرة نتيجة هذه المواقف الرجولية والمؤيدة للحق والعدل والخير والحرية وبذلك يتضاعف حساب الأرباح.

 

أما عدد المقاعد التي نفوز بها أو لا نفوز فهي ليست هدفًا في حدِّ ذاتها، نعم.. نحن نرجو أن تتم انتخابات نزيهة ونحصل منها على عدد محترم من المقاعد؛ لا رغبةَ في تبوُّء المناصب، ولكن رغبةً في خدمة الناس، وتقديم نموذج شريف نزيه لمَن يتصدَّى للعمل العام، كما قدمنا سابقًا في النقابات واتحادات الطلاب ونوادي أعضاء هيئات التدريس في الجامعات، والتي فرضت عليها الحكومة الحراسة وزوَّرت انتخابات اتحادات الطلاب، وحلَّت معظم نوادي هيئات التدريس بالجامعات، وعينت أفرادًا من قبلها حتى تقصَّينا وتحرم الناس من الخير الذي نقدِّمه خدمة لهم؛ ولذلك فنحن مكلَّفون بأن نسعى بكل الأسباب المشروعة للنجاح فيما نقدم عليه، فإن عجزنا لقوة غاشمة قاهرة، فقد أدَّينا ما علينا، وعلى الباغي تحل اللعنة والأوزار، فما على المرء إلا أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح.

 

كما أن خوضنا هذه الانتخابات لم يضف على النظام شرعيةً قط، بل أثبت العكس، فهب أننا قاطعناها من أول لحظة، لانبرى الكذابون والمنافقون يتغنَّون بأزهى عصور الديمقراطية، ولكن مشاركتنا أثبتت للعالم أجمع أن النظام فاقدٌ للشرعية، مغتصبٌ للسلطة، مزوِّر للانتخابات، عاجزٌ عن المنافسة؛ يمارس الإرهاب والبلطجة كأسوأ ما تكون الممارسة.

 

كما أن ما تعرَّضنا له من ظلم واضطهاد زاد في تعاطف الناس معنا، وعلم مَن لم يكن يعلم منهم مَن الذي يبغي الإصلاح ومن هم المفسدون، مَن الذي يخدم الشعب ومَن الذي ينهبه ويذله ويفقره، مَن الذي يحترم الدستور والقانون والقضاء، ومن الذي لا يحترم منهم شيئًا، من الذي يلتزم بمبادئ الحرية والديمقراطية والنزاهة وحقوق الإنسان ومن الذي يتسلط ويستبد ويعتدي على الحقوق والحُرُمات.

 

وبعد كل ما أسلفنا لا أعتقد أنه يمكن أن يقال إن خوض الانتخابات كان انتحارًا سياسيًّا أو كان قرارًا عشوائيًّا، إلا إذا كان القائل يحصر تفكيره في الجانب المادي المحض، وهو ما يختلف تمامًا عن تفكيرنا وقيمنا ومبادئنا، وإذا كان هناك من قال ذلك، فلا ريب أن هناك من هم أعمق منهم تفكيرًا وأدق تحليلاً وأبعد رؤيةً قد أكَّدوا أن القرار كان صائبًا، وعمومًا نحن وإن كنا نحترم آراء الآخرين فإننا نرجوهم أن يتسعوا بعقولهم وأن ينفتحوا بمداركهم كي يفهموا كيف نفكر، وما هي غايتنا، وما هي مبادئنا وقيمنا، حتى يستطيعوا الحكم الصحيح على مواقفنا؛ فالسياسة عندنا ليست حسابات مادية فقط، ولكنها إلى جانب ذلك حسابات معنوية أيضًا، وليست مصالح فقط، ولكنها قبل ذلك مبادئ وقيم وليست اجتهادات بشرية محضة، لكنها أيضًا تستند إلى تكاليف وأحكام شرعية.

 

وكأني بمنهجهم هذا يقطع مثلاً بأن سحرة فرعون حينما آمنوا بالحق وثبتوا عليه واستخفوا بالتهديد والوعيد الذي وصل إلى استشهادهم كانوا خاسرين، وكأني به أيضًا يحكم بأن غلام أصحاب الأخدود الذي طلب من الملك أن يأخذ سهمًا من كنانته ويرميه به وهو يقول باسم الله رب الغلام- إن كان يريد قتله- ففعل الملك وقُتل الغلام وقال الناس جميعًا: "آمنا بالله رب الغلام"، كأني بهم يحكمون بأنه خاسر.

 

نعم.. إنهم جميعًا خسروا حياتهم الدنيا، ولكنهم كسبوا حياة أفضل وأعظم منها، كما أن الغلام كسب إيمان الشعب كله بدينه ودعوته، ومن ثمَّ ضرب الله تعالى بهما مثلين لنا للثبات على الحق والتضحية من أجله والفوز برضا الله والشهادة، وبالتالي يكونون جميعًا من الرابحين.

 

والذي أريد أن أقرِّره أن هذه الانتخابات لو تكرَّرت عشر مرات لكان القرار الصائب في ظل هذه الظروف التي نحياها، هو خوضها دون تردد؛ لأن حساب الأرباح فيها فاق الخسائر بما لا يقاس.

والله من وراء القصد وعليه التكلان.

----------
* عضو مكتب الإرشاد