الأستاذ عمر التلمساني كان مدرسةً تربويةً بمواقفه الحية التي عاش بها وطُبِعت في قلوب ونفوس إخوانه خاصة والناس عامة، فقد كان مثالاً لهذه المدرسة التي قلَّت أن تجود بمثله في هذا الزمان.

 

وهذه المواقف ليست للقراءةِ فحسب بل هي لأخذ العبرة منها والسير على نهجها بما تخللتها من تواضع وعزة المؤمن وحسن خلق الداعية وطرف مليحة.

 

ومن هذه المواقف التي عاش بها الأستاذ عمر التلمساني:-

(1) مسافر درجة ثالثة

يقول الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله-: كان الإمام الشهيد يدعوني إلى السفر معه في بعض رحلاته داخل القطار ويسألني: هل السفر على حسابك أو على حسابنا؟

فإن كنتُ (متريش) من أتعاب قضية دسمة قلت: السفر على حسابي, وأقطع لهم تذاكر في الدرجة الثانية..... أما إذا كنت (مفرقع) الجيب قلت: السفر على حسابكم، فكان يقطع التذاكر في الدرجة الثالثة.

 

فكنت أجلس, ورأسي على الأرض حتى لا يراني أحد من معارفي, وأنا أركب الدرجة الثالثة, التي كنتُ آنفَ ركوبها, وكان الأستاذ يبتسم لمنظري الخجل.

 

حتى إذا ما طالت عشرتي للإخوان أصبح ركوب الدرجة الثالثة عندي كركوبِ الأولى الممتازة دون حساسيةٍ أو تحرُّج.

 

(2) العمل بالمحاماة

يقول الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله-:

 الصورة غير متاحة

الأستاذ حين البنا

عرض عليَّ الإمام الشهيد أن أتخذ مكتبًا في القاهرة, فلم أقبل؛ مبررًا رفضي بأني قد أنجح في المكتب ويدر عليَّ دخلاً وفيرًا, فيقول البعض: إن الإخوان هم الذين أوجدوا لي كيانًا في عالم المهنة، وهذا ما تأباه عليَّ أخلاقي ونشأتي وتربيتي.

 

(3) الصلح بين عائلتين

انتدب الأستاذ عمر التلمساني لأجراء صلحٍ بين عائلتين كبيرتين, ببلدة دمهوج بمركز قويسنا منوفية، وكانت إحدى العائلتين من الإخوان, والأخرى غير إخوانية، وبعد استعراض مسببات الخصام وأحداثه, تبيَّن بشكلٍ قاطع أن الحقَّ إلى جانب العائلة الإخوانية.

 

وحسب توجيهات فضيلة المرشد ضرب مثلاً عمليًّا لأخلاق الإسلام التي يعيشها الإخوان، فطلب من العائلة الإخوانية التنازل عن كلِّ حقوقها، وأن يذهب رءوس العائلة الإخوانية لزيارة العائلة الأخرى في منازلهم.

 

ليتعلم الناس كيف يعالج الإسلام الخصومات بين الناس.. (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43)) (الشورى).

 

(4) وزير مالية الإخوان

يقول الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله-: عملتُ فترة "وزير مالية الإخوان"، وكنتُ إذا وجدتُ في الخزانة مائة وخمسين قرشًا كنتُ أرى وقتها أننا من الأثرياء!!.

 

وكان الداعية إذا ذهب إلى لقاءٍ إخواني ليتحدث في الدعوة, أُعطيه "ثلاثة تعريفة": منها ستة مليمات للذهاب, ومثلها للعودة، وثلاثة مليمات يشتري بها ما يروقه من الترمس والفول السوداني, واللب الأسمر والأبيض!!

 

(5) أرسله لمجاهدي أفغان

أرسلت وزارة الثقافة بدولة الإمارات دعوةً للأستاذ عمر التلمساني عام 1982م فلبَّى الدعوةَ وألقى محاضرةً في النادي الثقافي بأبي ظبي حيث جاء جمع غفير ملأ القاعة وخارج القاعة ولم يأتِ قبله مثله.

 

وفي نهاية الزيارة قدمت الوزارة تحيةً لضيفها "شيكًا بخمسة وثلاثين ألف درهم"، فشكر الأستاذ عمر لهم هذا الصنيع الكريم ثم قال للأستاذ جابر رزق في الحال: حول هذا الشيك إلى المجاهدين الأفغان.

 

(6) هذا لا يأخذ أجرًا

انتدب الأزهر الأستاذ عمر التلمساني لإلقاء بعض المحاضرات في الشريعة والقانون بالجامعة، وكان ذلك أيام فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود، فلمَّا جاء كشف صرف المكافآت للسادة الأساتذة المحاضرين المنتدبين, إذا بالدكتور عبد الحليم محمود يجد اسم الأستاذ عمر التلمساني مدرجًا بالكشف فقال للمسئول: ارفع اسم الأستار عمر من الكشف, هذا لا يأخذ أجرًا (ده مش بتاع كده)، ودار حوار, ولم يرفع المسئول اسم الأستاذ عمر.

 

ولما حان وقت صرف المكافآت, ذهب المسئول بالكشف للأستاذ عمر ليوقع فأبى, فذهب المسئول للدكتور عبد الحليم محمود الذي قال له: ألم أقل لك إن الأستاذ عمر "ده مش بتاع كده".

 

(7) ندوة بلا أجر

عقدت إحدى المجلات الدينية ندوةً دعت إليها الأستاذ عمر التلمساني فلبَّى الدعوة.

ثم قدَّم إليه موظف ورقةً وطلب منه التوقيع عليه.

فقال الأستاذ: ما هذا؟

قال: هذا مقابل حضورك الندوة.

قال : لو كنتُ أعلم أن الدعوة إلى الله تدفعون لها مقابل لما حضرت.

قال: هذه مصاريف الركوب والانتقال.

قال: عندي سيارة أعدها الإخوان لمثل هذه الأمور.

قال: ولكنهم جميعًا يأخذون.

قال: أنا لستُ من هذا الجميع, أنا رجلٌ على بابِ الله, وانصرف دون قبضٍ أو توقيع.

 

(8) تواضع.. لا تجاملني

يقول الشيخ عبد الله الخطيب:

 الصورة غير متاحة

الشيخ عبد الله الخطيب

كان الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله- إذا أراد مراجعة شيء مكتوب, كان يأتيني إلى مكتبي ويقول لي: أقسمتُ عليك بالله أن تراجع وتُصحح ما تجد من خطأ, ولا تجاملني.

 

يقول الشيخ الخطيب: وكان هذا دأبه, إذا أراد شيئًا ذهب إلى الأخ في مكتبه, إلا أن يكون عذر من مرض أو إرهاق.

 

(9) جئت داعيًا لا جابيًا

ذهب الأستاذ عمر التلمساني لأداء فريضة الحج.

ولقيه أحد الإخوة, وقال له: إن شخصية كبيرة من السعودية تريد مقابلتك.

فقبل الأستاذ وتحدد الموعد، وأثناء اللقاء تحدث هذا الكبير عن الدعوة الإسلامية ومستقبلها... ثم عرج على مجلة الدعوة, وكانت لم تصدر بعد.

 

وقال: إنه يريد تدعيمها.. فأدرك الأستاذ هدفه وقال مقاطعًا: سيادتكم طلبتم مقابلتي كداعيةٍ لا كجابٍ، فأنا جئتُ داعيًا لا جابيًا، ولو كنتُ أعلم أنك ستتحدث معي في مسألة نقودٍ لاعتذرتُ؛ ولذلك أرجو أن تسمح لي سيادتكم بالانصراف.

 

(10) لا أنتقد حكومتي خارج وطني

يقول الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله-:

كان مراسلو الصحف والإذاعات يأتون لإجراء أحاديث, والظاهرة العجيبة في كل تلك الأحاديث: أن المراسلين كانوا يحاصرونني بأسئلةٍ دقيقةٍ رغبةً منهم في أن يحصلوا مني على انتقادٍ أو هجومٍ على الحكوماتِ القائمة, وكنتُ أفسد عليهم هذه المحاولات.. حتى قال لي أحد المراسلين في لندن: إنك تتهرب من الإجاباتِ عن أسئلةٍ واضحة. فكان جوابي: إن التهربَ ليس من خُلقي, ولكنَّ طباعي تأبى عليَّ أن أنقد حكومتي خارج وطني, ولا أشنع عليها في الخارج, بل أوجه مآخذي إليها مباشرةً داخل مصر, وهو مبدأ وليس سياسة.

 

(11) لم أر مثل هذا الرجل

سأل بعض الناس السائق الذي صحب الأستاذ أثناء زيارته بدعوةٍ من وزارة الثقافة بدولة الإمارات: فقال السائق صحبتُ كثيرًا من الشخصيات الكبيرة والوزراء.. فلم أرَ مثل هذا الرجل في خُلقه وتواضعه وحيائه وعفته وزهده وعطفه.. لقد ركب إلى جواري واعتاد كبار الشخصيات أن يركبوا في الخلف، ولكنه التواضع، وكان يصحبني معه ويُجلسني بجواره في كل مأدبةِ طعام.

 

(12) الوفاء للزوجة

دُعِيَ الأستاذ عمر التلمساني إلى لقاءاتٍ بالإسكندرية فلبَّى, وكان ذلك في شهر رمضان المبارك، وأعدَّ الإخوان مأدبة إفطار احتفاءً بالأستاذ المرشد, وكان في المأدبة شراب المانجو.

 

فقدَّم أحد الإخوان كوب المانجو للأستاذ عمر فاعتذر ولاحظ بعض الإخوان علامات التأثر على وجه الأستاذ فسألوه: هل يلحقك ضرر صحي من المانجو؟

 

فأجاب: لا........

وبعد الانتهاء من الإفطار أراد بعض الإخوة معرفة سرِّ الاعتذار عن شرب المانجو, وألحوا في الطلب.

 

فقال الأستاذ: لقد اعتدتُ كلمَّا رجعتُ من العمل متأخرًا أن أجد زوجتي في انتظاري، وقد أعدت كوبين من المانجو فنشربهما معًا، فلمَّا تُوفيت عزَّ على أن أشرب بدونها، وأسأل الله أن يجمعني بها في الجنة, وأن نشرب معًا من خمر الجنة.

 

(13) عمر التلمساني يواجه السادات بعزةِ المسلم وأدب الداعية

 الصورة غير متاحة

السادات

عندما قرر السادات عقد لقاءٍ فكري بالإسماعيلية, مع السياسيين والمفكرين وزعماء المعارضة, التقى وزير الإعلام بالأستاذ عمر التلمساني يرجوه حضور اللقاء والأستاذ عمر يرفض؛ لأنه- على حدِّ قوله- يعرف كبرياء السادات الأجوف وحرصه على أن يظهر بمظهر المتعالي على الآخرين، وبعد إلحاحٍ من الوزير حضر الأستاذ عمر اللقاء, وجلس في الصف الأمامي.

 

وبعد استرسال السادات في حديثه, تطرَّق إلى الحديثِ عن الأستاذ عمر التلمساني وعن الإخوان, ثم أخذ يكيل لهم الاتهامات وقيامهم بإثارةِ الفتنة وتحريض الشعب ضد النظام.

 

فما كان من الأستاذ عمر- وقد قارب وقتها الثمانين عامًا- إلا أن قامَ بالرد على السادات وتفنيد ما قاله. ثم قال له بعزةِ المؤمن الواثق في ربه:

"لو كان أحدٌ غيرك وجَّه إليَّ مثل هذه التهم لشكوته إليك, أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها فإني أشكوك إلى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين.. أشكوك إلى الله.. لقد آذيتني يا رجل وقد أُلزم الفراشَ أسابيع من وقعِ ما سمعتُ منك.

 

فما كان من السادات إلا أن قال: إنني لم أقصد الإساءة إلى الأستاذ عمر ولا إلى الإخوان المسلمين. اسحب شكواك.

 

فرد الأستاذ عمر:  "وأنا لم أشكُ إلى ظالم, إنما شكوتُ إلى الله العادل ويعلم ما أقول".

 

(14) شركة إخوانية

 الصورة غير متاحة

 عباس السيسي

ويذكر الأستاذ عباس السيسي أنه سافر ذات يومٍ مع الأستاذ التلمساني من الإسكندرية إلى القاهرة، وأثناء الحديث اقترح الأستاذ عباس تكوين شركات اقتصادية بسيطة لتعين الإخوان على ظروفِ المعيشة، فأقره الأستاذ التلمساني على ذلك، فردَّ عليه وأنا عندي فكرة إنشاء شركة مياه غازية، فأجابه الأستاذ التلمساني: وهل فكرت لها في اسمٍ تجاري؟ قال: نعم، فكرتُ أن يكون اسمها (سيسي كولا) فضحك الأستاذ التلمساني وقال: والله اسم جميل.

 

(15) القاضي الطريف

في يومٍ تقدَّم بعض الإخوان بشكوى ضد سكان الغرفة رقم 6 بمعتقل الطور، وكانت تضم الأستاذ محمود عساف والأستاذ أنور الجندي، فحضر الأساتذة البهي الخولي وعمر التلمساني ومحمد الخضري، حضروا فقام الإخوة بوضع بطانية مثناة على كتف كلٍّ واحدٍ من الإخوة الثلاث، كما صنعوا لهم منصة من لوحٍ خشب مرفوع عن الأرض بقطعٍ من الطوب، وجلس الإخوة الثلاث وقالوا لإخوان الغرفة: جئنا نحاكمكم.

 

فقال لهم إخوان الغرفة: هاتوا ما عندكم. قالوا: إن بعض الإخوان يشكونكم بأنكم تتلفظون بألفاظٍ غير لائقة، فاستنكر أصحاب الغرفة ذلك وقالوا: الحقيقة، أننا نُسلي أنفسنا بقصصٍ من تجارب حياتنا، وبعض (النكات) التي تتفق مع المواقف.

 

فقالت المحكمة: لا شيءَ في هذا، وخرجوا ولكن بعد لحظةٍ وجدوا الباب يفتح وإذا بالأستاذ عمر التلمساني يدخل عليهم قائلاً: أين أنتم من زمن، إنه لتحضرني النكتة فلا أجدَ مَن هو مستعد لسماعها من إخوانكم في الغرف الأخرى، وإليكم نكتتان، وأخذ يروي نكتتيه حتى إن الإخوة ظلوا كلما تذكروهما يضحكون عليهما حتى بعد خروجهم من المعتقل.

 

(16) ملك السجن

ذات يوم ارتدى الأستاذ عمر التلمساني بدلة السجن مكويةً، فرآه ضابط يحقد على الإخوان، وكان الأستاذ عمر في قمةِ أناقته بهذه البدلة، لكن ذلك لم يرق للضابط فسأل الأستاذ عمر: (إيه ده)؟ فقال له: بدلة سجن يا فندم. فقال الضابط: "أنت راح تشتري السجن؟" فرد الأستاذ عمر بسرعة وطلاقه: "لا، والله ما اشتريه، ولا يدخل ذمتي بمليم".

----------

* المراجع:

1- محمد عبد الحليم حامد: مائة موقف من حياة المرشدين لجماعة الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1414هـ، 1993م.

2- عباس السيسي: حكايات عن الإخوان، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1419?- 1998م.

3- عمر التلمساني: ذكريات لا مذكرات، دار التوزيع والنشر الإسلامية.

4- أحمد أبو شادي: رحلتي مع الجماعة الصامدة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1418?- 1998م.

--------------

** باحث تاريخي- [email protected]