- اهتمَّ بالصف المسلم وبترسيخ مفاهيم العمل الجماعي والتحذير من الخروج على الجماعة أو محاولة إيجاد تكتلات داخلية حول أشخاص أو أفكار وآراء

 

- كان يرفض إقامة تحالفات مع الغير أثناء الحركة بالدعوة، إذا كانت هذه التحالفات يترتب عليها تنازلات أو انتقاص من مبادئ الإسلام الذي نعمل على التمكين له

 

- قعَّد لمشروع الدعوة الفردية ووضع له تصورًا يعكس اهتمامه بقضية الفرد التي هي البنيان الأساس والشريان الحيوي في جسد الجماعة المسلمة

 

بقلم: أحمد زهران

ترك الأستاذ مصطفى مشهور (15 من سبتمبر 1921م- 17 من نوفمبر 2002م) المرشد الخامس لجماعة الإخوان المسلمين (1996م- 2002م) أثرًا كبيرًا في الجماعة، ولا غرو؛ فقد كانت حياته كلها لله؛ فارتبطت به جموع الإخوان، وتربَّوا على فكره وقلمه، ورؤاه الإصلاحية، ومشاريعه الفكرية، عبر سلسلةٍ من الكتابات، ضمنتها مجلة الدعوة في السبعينيات تحت عنوان: "من فقه الدعوة"، وافتتاحيات مجلة (لواء الإسلام)، ومجلة (الدعوة) التي كانت تُطبع في لندن، غير الكثير من المقالات الأخرى والأحاديث الصحفية في عشرات الصحف والمجلات.

 

وقد وفَّق الله إخوانه إلى جمع مؤلفاته وكتاباته من سلسلة "فقه الدعوة" في 1500 صفحة تقريبًا ضمنها مجلدان، وسنحاول في هذه العجالة أن نستعرض بعضًا من رؤاه الفكرية في الدعوة وفقهها.

 

مشهور والفرد المسلم

احتلَّت قضية الفرد المسلم أولويات جماعة الإخوان المسلمين؛ فالإمام البنا نفسه يرى أن الرجل هو سر حياة الأمم، ومصدر نهضاتها، وأن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس، وحينما تعرَّض للفرد المسلم في ركن العمل حدد مقومات عشرة يلزم توفرها في الفرد المسلم، وهي: "قوة الجسم، متانة الخلق، ثقافة الفكر، القدرة على الكسب، سلامة العقيدة، صحة العبادة، النفع للغير، وأن يكون منظمًا في شئونه، مجاهدًا لنفسه، وحريصًا على وقته".

 

وقد سار الأستاذ مصطفى- رحمه الله- على الدرب نفسه؛ فخصَّ الفرد المسلم في كثيرٍ من أحاديثه وبرامج الجماعة، موضحًا ما يجب أن يكون عليه من قوة الإرادة ومضاء العزم، يقول: "إننا نحتاج إلى نوعيةٍ متميزةٍ ذات خصائص معينة تتفق وما سيلقى على جندي الدعوة من مهام، وما سيتعرَّض له من عنتٍ وابتلاء؛ فهو أحوج ما يكون إلى الإرادة الحازمة، والعزيمة الماضية، والخلق الإسلامي المتين، والزاد الروحي الدفاق المتجدد، والبدن السليم الذي يُعينه على أداء الواجبات وأعباء الجهاد، مع الحيوية والحماس المنضبط" (1).

 

وقد تناول الأستاذ- رحمه الله- بالشرح والتحليل المقومات العشرة اللازم توفرها في الفرد المسلم في رسالةٍ له بعنوان: "مقومات رجل العقيدة على طريق الدعوة"، فكان من أوائل من شرح كلام الإمام الشهيد في أسلوبٍ سهلٍ بسيط؛ يجمع فيه بين المعاني الروحية، والصفات التربوية، والقيم الحركية.

 

والفرد المسلم لا يكون مؤثرًا ما لم يكن قدوةً صالحةً؛ يعطي الصورة الصادقة للإسلام، فينتزع التقدير والاحترام حتى من أعداء الإسلام، يقول- رحمه الله-: "نريد المسلم المتميز بآداب الإسلام وتقاليده، وتحيته ولغته وزِيِّه وإتقانه لعمله وأمانته ووفائه، بل حتى في أفراحه وأتراحه، ولا نسمح للعادات الأعجمية أن تغزوَ مظاهر الحياة في مجتمعاتنا.

 

نريد الأخ القدوة شجاعًا عظيم الاحتمال، وقورًا يؤثر الجد، شديد الحياء، دقيق الشعور، عظيم التأثر بالحُسن والقُبح، يُسَرُّ للأول، ويتألم للثاني، متواضعًا في غير ذلةٍ ولا خضوع ولا تملق.

 

نريد الأخ المسلم متصفًا بالعدل في جميع الأحوال، صادق الكلمة فلا يكذب، رحيم القلب، حسن السلوك، كله حركة ونشاطًا وحيوية" (2).

 

ومن الصفات اللازمة للفرد المسلم أن يكون واثقًا في قيادته وجماعته، ويحدد الأستاذ الراحل مجموعةً من الضوابط التي ينبغي للفرد أن يعيَها جيدًا؛ حتى يحافظ على وحدة صف الجماعة، ومن ذلك:

1- أن يقوم بواجب الشورى.

2- أن يلتزم بموقف القيادة الذي تتبناه، وإن خالف رأيه.

3- ألا يتأثر بما يُثيره البعض من النَّيل في موقف القيادة.

4- الاجتماع على الصواب خير من الافتراق على الأصوب (3).

 

وإنك لترى- أخي- خاصةً في هذه النقطة الأخيرة سَعة فقه هذا الرجل، وكثرة تجاربه وخبراته بما يحافظ على قوة الصف وتماسكه، التي هي في الأساس تنبع من فهم الأخ لدينه وحركته ودعوته، وسترى بعد قليلٍ كيف عُني- رحمه الله- بهذه القضية.

 

والمسلم الداعية لا بد أن يكون واعيًا لطبيعة حقل الدعوة؛ فالأفراد الذين نعمل معهم في حقل الدعوة ليسوا كفارًا ولا مشركين كما كان الحال عهد النبي- صلى الله عليه وسلم-، ومن ثمَّ فهم يرون سيرهم صحيحًا، برغم ما فيه من شوائب وانحرافات، وهو ما يجعل الكثيرين منهم يرفضون النصح حينما ندعوهم إليه، يقول:

 

".. لهذا نجد أن الضرورة ملحة للأخ الداعي القدوة أن يكون صاحب القلب الكبير والخلق الحسن والأسلوب السليم الذي يغزو القلوب، ويولِّد الثقةَ بينه وبين مَن يدعوهم، ويتقن كيف يأخذ بأيدي المخطئين لتصحيح أفهامهم وتصوراتهم وسلوكهم دون إحداث فرقةٍ أو تنازع، ولكن بلين الجانب، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وبالقدوة العملية الحسنة التي تنتزع التقدير وتدفع إلى التأثر والاقتداء به والاستجابة إلى ما يدعوهم إليه، وعندما ندعو مسلمين إلى تصحيح إسلامهم يجب أن يشعروا أنهم منا ونحن منهم، ولا نَعُدُّ أنفسنا مجتمعًا مسلمًا منفصلاً عن باقي المسلمين؛ لأن ذلك يعزلنا عنهم فنتقوقع وننتهي" (4).

 

ومشروع الدعوة الفردية الذي قعَّد له الأستاذ ووضع تصوره يعكس اهتمامه بقضية الفرد التي هي البنيان الأساس والشريان الحيوي في جسد الجماعة المسلمة؛ فلا بد من تجديد الدماء وتوريث التعاليم، ونشر دعوة الله تعالى فوق ربوع العالمين.. يقول هو عن ذلك المشروع:
".. أذكِّر بمشروع الأخ الواحد، وملخَّصه أن يحاول كل أخ عامل على طريق الدعوة الفردية أن يُدخل في الدعوة صديقًا جديدًا في مدةٍ يحددها، ويفكِّر في هذا المشروع، ويعزم عليه، ويبذل كل ما في طاقته من جهد.. ولا يستطيع كل أخ أن يقوم بذلك ما لم يُخلص النية لله تعالى، ويُقدِّر عِظَم المهمة التي يتصدَّى لها، وأن يكون ليَّن الجانب، حسن الخلق، ذا خبرة بالمجتمع الذي يدعو الناس فيه، كما ينبغي عليه أن يتفقه ويتعلَّم ويدرس السيرة العطرة والتاريخ الإسلامي، ويحفظ ما يستطيع من القرآن، وأن يجمع في حديثه بين مخاطبة العقل والوجدان" (5).

 

مشهور والمجتمع

بعد انفتاح العمل الإسلامي في فترة السبعينيات تجدَّد العزم على إيجاد المجتمع المسلم، واجتهدت الجماعة كلها- قادةً وجنودًا- في تكوين وتربية وإعداد الفرد المسلم والأسرة المسلمة.

 

ولمَّا كان من المستحيل أن يتحوَّل كل أفراد المجتمع إلى هذه النوعية التي يسعى الإخوان إليها: الفرد المسلم أو الأخ العامل النموذجي، نجده- رحمه الله- قد سارع ببيان المقصود بالمجتمع المسلم.. يقول:

 

"ولكن المقصود بالمجتمع المسلم- بعد توفر العدد المناسب من الأفراد المسلمين القدوة والبيوت المسلمة القدوة- أن يكون باقي أفراده مسلمين صالحين متجاوبين مع الحركة الإسلامية وأهدافها، متقبَّلين لتحكيم شرع الله، وليس بالضرورة أن يكونوا مجندين في الحركة، وهذا الهدف له وسائله الخاصة التي قد تختلف بعض الشيء عن وسائل التجنيد للصف، يلزم الأخذ بها، ومن أمثلة ذلك: مجال البر والخدمة الاجتماعية" (6).

 

ولعله (رحمه الله) أشفق على الشباب- وهم يرون ما عليه المجتمع من سوء الحال وهبوط المستوى، والبعد عن الإسلام وتعاليمه- أن تدفعهم هذه الحال إلى اليأس من الإصلاح، أو الانصراف عن القيام بواجب الدعوة إلى الله، أو الانعزال عن الناس خشية الفتنة، فوقف ناصحًا مشفقًا، كالطبيب الذي يشخِّص الداء ويصف الدواء.. يقول:

"أما الانصراف عن العمل خشية الفتنة فهذا موقف سلبي لا يصح، وهل يصح للطبيب أن يمتنع عن العلاج خشية العدوى؟! ولو وقف كل طبيب هذا الموقف لاستشرى المرض وذهب هو أيضًا مع الذاهبين، كذلك لو امتنع الدعاة إلى الله عن دعوة غيرهم لاستشرت الفتنة، ولاقتحمت عليهم بيوتهم، ولأكلت الأخضر واليابس، ولتعرضنا لفتنةٍ أشد، وما علينا إلا أن نتحصَّن بحسن الصلة بالله، ويرتبط كلٌّ منا بإخوانه الذين يُذكِّرونه إذا نسي، ويُعينونه إذا ذكر؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وليؤمن كلٌّ منا أن الحق الذي معه سيُزهق باطل الناس مهما انتفش" (7).

 

وفي موطنٍ آخر يبيِّن (رحمه الله) أن من أهم واجباتنا أن نعمل وسط الصفوف المسلمة، وأن نختلط بها ويختلطون بنا؛ حتى يمكن توضيح الصورة الصحيحة للإسلام الذي ندعو إليه، وإن كانت الحكومات المتعاقبة تجاهد ما استطاعت لتعزلنا عن المجتمع وطوائفه فلا ينبغي أن يصرفنا ذلك عن العمل والسعي والحركة؛ يقول:

 

"الجمهور المسلم في مجتمعاتنا هو حقل الدعوة الذي نعمل فيه، ورصيدها الذي يدعم الصف بالعناصر المؤمنة المجاهدة، وهو القاعدة التي سيقوم عليها البناء؛ فالأصل أن نلتحم بهذا الجمهور، وأن نتعامل مع كل فئاته وطوائفه، والانحراف أن ننعزل أو نُعزَل عنه، أو أن نهتم ببعض فئاته ونهمل غيرها.

 

وإن كان أعداء الله يعملون جاهدين على تحقيق العزلة بين الشعب والدعاة إلى الله وتشويه صورة الدعاة وتلفيق القضايا لهم، ووصفهم بالرجعية والتطرف والإرهاب والتستر وراء الدين، فالواجب أن نقابل كلَّ ذلك بالحرص الكامل على الالتحام بالشعب بكل طوائفه، ومشاركته قضاياه وآماله وآلامه وأفراحه وأتراحه، وتصحيح الصورة، وكشف التضليل وزيف التهم الباطلة، بأن يلمس الناس عكسها عمليًّا بما نُقدِّمه لهم من حب وعاطفة وعون وأعمال فيها خيرهم ونفعهم هم وأولادهم، كما نُقدِّم لهم الإسلام على أنه الملاذ الوحيد لإنقاذهم من الضياع الروحي والمادي" (8).

 

مشهور ووحدة الصف

الصف المسلم يبدأ بفرد، وصلاح الصف إنما يرجع إلى صلاح الفرد ذاته، ولقد عُني (رحمه الله) بالفرد، كما عُني به من قبل مَنْ سبقوه على طريق الدعوة، وكان يرى أن أي تقصيرٍ في مجال التربية يُعتبر ضعفًا في الأساس ويعرِّض البناء إلى الانهيار إنْ عاجلاً أو آجلاً، فاهتمَّ بأمراض القلوب، وحذَّر من أن تستوليَ على قلوب أصحاب الدعوات فتنحرف بهم عن الغاية فتفسد النيَّة وتُحبط الأعمال.

 

وله (رحمه الله) الكثير من المؤلفات التي تُعنَى بالفرد وتنشئته التنشئة الإيمانية، مثل: (زاد على الطريق، الحياة في محراب الصلاة، الإيمان ومتطلباته، مناجاة على طريق الدعوة، بين الربانية والمادية، مقومات رجل العقيدة، القدوة على طريق الدعوة).

 

وكان من اهتمام الشيخ مشهور بالصف المسلم أن رسَّخ مفاهيم العمل الجماعي، وحذَّر من الخروج على الجماعة أو محاولة إيجاد تكتلات داخلية حول أشخاص أو أفكار أو آراء، أو ممارسة الضغط على القيادة لإلزامها برأي معين، أو استعلاء البعض على الخضوع لنظم الجماعة والالتزام بتعاليم القيادة، وكأنهم فوق القيادة.. يقول:

"كل هذه الصور وما يشبهها انحرافٌ عن مفهوم الجماعة وعن مفهوم الالتزام، وما وُضعت النظم واللوائح إلا لوقاية الصف من مثل هذه الانحرافات، وواجب القيادة في أي موقعٍ أن تتخذ المواقف الحازمة إزاء مثل هذه التصرفات، ومن خلال النظم واللوائح دون تراخٍ أو مجاملةٍ.

 

معلوم أن الجماعة تحافظ على كل فردٍ فيها، ولا تفرِّط فيه، لكن إذا أصرَّ الفرد على إحداث بلبلة وتصديع في الصف فالجماعة فوق الأفراد مهما كانت منزلتهم.. ولنعلم أن الجماعة ستسير بعون الله بنا أو بغيرنا؛ فنحن لا نشفق على الصف، ولكن نشفق على أنفسنا وما نحب أن نُحْرَمَ بركة الجماعة وخيرَها، وكان الإمام البنا يقول لنا: "إن لم تكونوا بها- أي الدعوة- فلن تكونوا بغيرها، وهي إن لم تكن بكم فستكون بغيركم، ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 38)" (9).

 

لقد حارب (رحمه الله) كل صور الانحرافات في الغاية والفهم، والعمل ووسائله، والجماعةِ والالتزام بها، فكان يرفض "لأي سبب من الأسباب أو لأي ظرف من الظروف إقامة تحالفات مع الغير أثناء الحركة بالدعوة، إذا كانت هذه التحالفات يترتب عليها تنازلات أو انتقاص من مبادئ الإسلام الذي نعمل على التمكين له: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾ (القلم)، وإلا فيكون ذلك انحرافًا وتحولاً عن المبادئ والأهداف، وتمكينًا لغيرنا أن يتحكم في وجهتنا وخطة عملنا.." (10).

 

ومما حذَّر منه أن تُستدرَج الجماعة إلى معارك جانبية وقضايا فرعية تستنفد جهودها وأوقاتها، وإنما ينبغي أن "نعطيَها القدر المناسب فقط من الجهد والوقت؛ وذلك بتحديد الأهداف، ووضع الأولويات، وتنظيم الوقت؛ فأحيانًا يترتب على إهمال الجزئيات مضاعفات ومشاكل تحتاج بعد ذلك إلى كثيرٍ من الوقت والجهد لحلها" (11).

 

وحتى يحافظ الصف على سلامته وقوة بنيانه، لا بد أن تحوطه الثقة، وتكون هي المِلاَطُ الذي يربط بين لبنات هذا البنيان الشامخ، ولما كان أعداء الله يعمدون إلى تشويه صورة الصف المسلم بالنقد والتشكيك تارةً، وبإلصاق التهم الباطلة تارةً، وباستعمال أسلوب الضغط أو الترهيب كعامل مساعد على هزِّ الثقة تارةً أخرى، فقد عُني (رحمه الله) بوضع النقاط فوق الحروف، موضحًا الفرق بين مَن ينتقد ليبنيَ، وبين مَن ينتقد ليشكِّك ويهدم؛ وذلك حتى لا تستهويَنا سطحية الأقوال والأفعال، فننساق وراءها، ونخدع بها.. يقول:

 

"فالواجب أن نقبل النصح ونستفيد من النقد البنَّاء، وأن نرفض التشكيك والنقد الهدَّام، لا نسمع إليه، ولا ننشغل به، ولا نبادل أصحابه مهاترات أو مساجلات كلامية أو كتابية؛ فعلى كل أخ في الصف- فردًا أو مسئولاً- أن يحافظ على الثقة من أي شيء ينال منها، وعلى المسئول أن يُديم الصلة بإخوانه ليبيِّن لهم الأمور أو المواقف، ويوضِّح لهم ما يُبهم عليهم منها، وخاصةً ما يثيره المشكِّكون ليكون الصف في حصانة.

 

وإذا حاك في صدر أحد الإخوان شيء فعليه أن يسارع بالتبيين، وألا ينقل ما سمعه وسط الصفوف فيحقق بذلك غرض المشكِّكين، وما أجمل الالتزام بما أرشدنا الله إليه في هذا المجال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾ (الحجرات)!" (12).

 

مشهور والشورى

ومن أهم المبادئ التي عُني (رحمه الله) بترسيخها بين الإخوان: مبدأ الشورى، وهو في هذا كان مقتديًا بإمام الأنبياء (صلى الله عليه وسلم) الذي مارس الشورى مع صحابته، برغم أنه كان متصلاً بالوحي؛ وذلك بتوجيه ٍمن الله العلي الحكيم: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، وقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 38).

 

كان الشيخ مصطفى مشهور (رحمه الله) يرى أن الشورى "من ألزم وأنفع الأمور؛ فبها يُتوصَّل إلى الرأي الأنضج والأصلح، وتشعر القواعد بالمشاركة في المسئولية، ويسود جو الثقة والتعاون المثمر بين الجميع" (13).

 

ولكي يطبَّق هذا المبدأ جيدًا فهناك واجبات ومسئوليات لا بد أن تُراعى، ومن ذلك إيجابية الأفراد ومشاركتهم في المسئولية.. يقول: "المطلوب من كل فرد في الصف أن يكون إيجابيًّا مشغولاً بدعوته؛ يفكِّر فيها، ويشير بما يراه يحقِّق نفعًا أو يدرأ ضررًا، معاونًا لقيادته بالرأي والنصح بأدب الإسلام، وعلى المسئول في أي موقع أن يستشير إخوانه ويستفيد من عقولهم وأفكارهم ولا يضيق بالنصح الذي يقدَّم منهم" (14).

 

بل إنه (يرحمه الله) عدَّد كثيرًا من جوانب القصور والانحرافات التي يمكن أن تُصيب الشورى، فيقول:

".. والذي يُعتبر انحرافًا عن الأصل هو تعطيل الشورى، وعدم ممارستها من قِبل القيادة أو أي مسئول في موقعه مهما كان قدره وعلمه وكفاءته، كذلك الموقف السلبي من الأفراد، وعدم إبداء الرأي والنصح للمسئول، وعدم الشعور بمشاركته في المسئولية.

 

ومن أخطر صور الانحراف عن مبدأ الشورى- كما يقول- أن يكون لها شكل ومظهر، ولكنه مفرَّغ من مضمونه، بمعنى أن يكون هناك مجلس شورى، ولكن تتدخَّل في تكوينه عوامل مختلفة تفرِّغه من جوهره وتجعله مظهرًا دون مخبر؛ يوافق القيادة على كل ما تراه، مثل ما يحدث في كثيرٍ من بلادنا.

 

وكما لا يجوز للمسئول أن ينفرد بالرأي دون مشورة، كذلك لا يصح أن تُوضع له القيود الكثيرة التي تكبِّله عند اتخاذ القرار، أو تسلب صلاحياته بحيث يصير مجرد رمز فقط؛ لا يستطيع أن يُبرم أمرًا، كما لا يصح للقواعد أن تعتقد أنه لا بد أن تُستشار في كل صغيرة وكبيرة، أو تتصوَّر أنها غير ملزمة بالطاعة للقيادة فيما لم تُستشر فيه من أمور؛ فهذا كله يُعدُّ خطأً وإخلالاً بمبدأ الشورى، وعلى القيادة الحكيمة أن توائم بين كل ذلك وتسلك الطريق الوسط المفيد" (15).

 

وفي موطنٍ آخر يدفع التهم الملصقة بالإخوان بأنهم لا يُعطون الشورى في تنظيماتهم المكانة اللائقة بها، ويُلزمون مَن يسير معهم بالطاعة العمياء، فيوضح خطأ من ادَّعى ذلك ويقول:
"إن الواقع التنظيمي للإخوان يؤكد مبدأ الشورى؛ فالهيئة التأسيسية ومجالس الشورى وكل مؤسسات الجماعة قائمة على مبدأ الشورى، واحترام الرأي والمناقشة، بعيدًا عن الفرقة والخلاف، ولكن يلزم التنبيه على أمر، وهو: أنه بعد إعطاء حق الشورى والحوار فإنه يجب الالتزام بما ينتهي إليه الجمع من رأي أو قرار، بما في ذلك أصحاب الآراء المخالِفة، ولا يجوز التحدث بالرأي المخالف بعد ذلك في الصفوف؛ منعًا للبلبلة والفتنة، ولا يُعتبر ذلك في هذه المرحلة كبتًا للحرية أو منعًا للشورى، ولكنه منع للفتنة وحماية للصف" (16).

 

وأنت- أخي المسلم- حينما تقرأ هذا الكلام تعلم أنه ما خرج إلا من مجرِّب خبير في شئون الدعوات وفقهها، رجل زادته السنون خبرة وحركة وحنكة ومعرفة بما يقتضيه الحال من المقال.

 

من أقواله

- المطلوب من كل فرد في الصف أن يكون إيجابيًّا مشغولاً بدعوته يفكِّر فيها، ويشير بما يراه يحقِّق نفعًا أو يدرأ ضررًا، معاونًا لقيادته بالرأي والنصح بأدب الإسلام.

 

- المحن ليست فترات ميتة ولا ضربات قاضية، ولكنها فترات حية، وقوة دافعة إلى السير على طريق الدعوة في قوة وثبات.

 

- افرح يا أخي واسعد عندما تجد وقتك مشغولاً بالعمل، وطاقتك مستنفدة في حقل الدعوة؛ فذلك من فضل الله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس).

 

- نريد مَن يعطينا نفسه وماله في سبيل الله.. نريد مَن يصبرون ويضحون ويثبتون ويتحمَّلون أعباء الدعوة والعمل، ويقدِّرون المسئولية وعظمها والأمانة وثقلها.

 

- على المسئولين أن يُجنِّبُوا الصف روح الجدال والنقاش والكلام الكثير الذي لا يؤدي إلى خير ولا إلى إنتاج.

فسلام الله عليك يا شيخ مصطفى، ورحمك الله رحمةً واسعة.

---------

* الهوامش:

(1) من فقه الدعوة، ج 2، ص 446.

(2) وقد ذكر الأستاذ الراحل خمسة وعشرين صفة للأخ الداعية المسلم القدوة، وعشرين صفة للأخ المربِّي القدوة، وقد فصَّل الأستاذ الراحل صفات المسلم القدوة في شتى مناحي الحياة، وعلى كل من يريد الاستزادة أن يرجع إلى رسالة "القدوة على طريق الدعوة" من سلسلة فقه الدعوة رقم (15) (راجع: من فقه الدعوة ج 2، ص 597 إلى ص 616).

(3) السابق، 517.

(4) السابق، 555.

(5) من فقه الدعوة، ج 1، ص 325، 343.

(6) من فقه الدعوة، ج 1، ص 367، 368.

(7) السابق، ص 127.

(8) (السابق، ص 209.

(9) (من فقه الدعوة ج1، ص 171- 173 بتصرف).

(10) (السابق ص 201).

(11) (السابق ص 207).

(12) (السابق ص 215).

(13) (من فقه الدعوة، ج 1، ص 202).

(14، 15) (السابق 202، 203 بتصرف).

(16) (السابق ص 292، 293 بتصرف).

-------------

** صحفي مصري