في الثالث والعشرين من فبراير 2009م أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا عن نتائج بعثة التحقيق، التي قامت باستعراض الموقف في غزة والسماع إلى الشهادات والاطلاع على أحوال الأوضاع في قطاع غزة بعد المحرقة الصهيونية، وقد أدانت المنظمة كلاًّ من الكيان وحماس واتهمتهما بارتكاب جرائم حرب.
ورغم أن المنظمة ركَّزت في تقريرها على جرائم الكيان بالتفصيل، وطالبت الولايات المتحدة بمنع تصدير السلاح إليها حتى يتم استخدام هذا السلاح في أغراض لا تنافي القانون الدولي، تلك خطوة بالغة الجرأة من جانب هذه المنظمة، إلا أن إدانتها لحماس أيضًا، وإن كانت مبسطة وتقوم على أساس إطلاق حماس لصواريخ بشكلٍ عشوائي ضد المدنيين الصهيونيين في جنوب الكيان، أمر مفهوم حتى يبدو التقرير متوازنًا، فإن هذا التقرير رغم ذلك رفضته كلٌّ من "إسرائيل" وحماس لأسباب متعاكسة.
فقد رفضته "إسرائيل" في الحقيقة لأنه كان جريئًا أكثر مما يجب في هذا الملف الحساس الذي تتوجس منه "إسرائيل"، وفي وقتٍ تتصاعد موجات الهجوم القانوني على "إسرائيل" بسبب هذه المحرقة وترفع ضدها الدعاوى الدولية من كل صوب، واستندت "إسرائيل" في رفضها لهذا التقرير إلى أنه قد جانب الصواب وعدم الدقة، ودافعت إسرائيل عن موقفها وأكدت أنها استخدمت الأسلحة غير المحظورة دوليًّا بشكلٍ يتفق مع القانون الدولي.
أما حماس فقد اعتبرت التقرير مجحفًا بحقِّ الطرف الضعيف الضحية، وأن هذا التقرير سوَّى بين الضحية والجلاد، وبين القوة العسكرية الصهيونية الخارقة وبين الصواريخ البدائية التي دافعت بها حماس عن شعبها، وهي نفسها الصواريخ "العبثية" حسب تعبير أبو مازن.
والحق أن هذا التقرير وأمثاله يقدم خدمةً كبرى في مجال توثيق الجرائم الصهيونية، ويتمتع بقيمة ثبوتية عالية أمام القضاء الدولي والوطني، كما أنه يعد لفته سياسية يجب عدم إغفالها، ولكن اللافت للنظر والذي يستحق التحليل القانوني الدقيق هو الأساس القانوني لإدانة حماس وكذلك "إسرائيل".
فقد أدانت المنظمة "إسرائيل" بارتكاب جرائم حرب، وهذا لا يكفي لأن "إسرائيل" ارتكبت أيضًا الجرائم الأخرى ضد الإنسانية وجرائم الإبادة، ولكن المنظمة ربما كانت بحاجةٍ إلى درجةٍ من التعمق القانوني، وأنها اختارت أسهل أنواع الجرائم وهي جرائم الحرب التي لا يشترط فيها توفر هذا الوصف لها الدافع الجنائي أو الإجرامي.
ورأت المنظمة أن أساس إدانة الكيان الصهيوني هو أنه استخدم "القوة المفرطة"، وأنه استخدمت الفسفور الأبيض المحرم دوليًّا.
أما سبب إدانة حماس في نظر المنظمة فهو أنها استخدمت الصواريخ حتى لو كان أثرها ضعيفًا ضد المدنيين وبشكلٍ عشوائي، أي أنه يتعين على حماس أن تختار أهدافًا عسكرية وأن تبتعد عن العشوائية في إطلاق الصواريخ حتى تصيب أهدافها العسكرية بدقة دون المدنيين.
وهذا في نظرنا ترفًا لا يحتمل الموقف مناقشته؛ لأن ما قامت به حماس هو حركة يائسة من مدافعٍ مقهورٍ إزاء قوة غاشمة استحلت كل شيء وانطلقت من كل القيود والضوابط، فضلاً عن الأصل في الأشياء ليس هو الصواريخ، وإنما هو الاحتلال الدائم الإحلالي الاستيطاني، والتصريحات المؤكدة للرغبة في الإبادة، ثم استخدام أعلى درجات النيران والتدمير في اتجاه أكبر للنية في إحراق غزة بشرًا وحجرًا.
ولا شك أن التقريرَ من الناحية الفنية يفترض أن حماس جيش يقابل جيش الكيان الصهيوني، وأنه كان عليها أن تلتزم بأعراف الحرب، وهذا يقودنا إلى مربط الفرس في هذا المقال، وهو منهج القراءة القانونية من جانب المنظمات الدولية للوضع في غزة؛ ذلك أن اتفاقات جنيف لا يمكن أن تنطبق انطباقًا أعمى على هذا الوضع وبصفة خاصة في أربعة مواضع، أولها أن الاحتلال الأبدي لا يمكن أن يتمتع بميزة الضرورة العسكرية الواردة في هذه الاتفاقات، والموضع الثاني هو أنه لا يجوز تطبيق معيار التمييز بين المدني وغير المدني لأنهم كلهم مدنيون، وحتى المقاومة يجب أن تتمتع بحماية قانونية من حيث أنها تدفع العدوان ولا تبتدر هذا العدوان، وحتى تلك الصواريخ الرمزية التي تُعبِّر عن الرفض وبقاء النبض حيًّا في الجسد الفلسطيني إنما تذكر بضرورة زوال الاحتلال.
أما الموضع الثالث فهو أن اتفاقات جنيف تحظر بعض أنواع الأسلحة بصفاتها وقوتها التدميرية وليس بأسمائها؛ ولذلك فإن كل الأسلحة التي استخدمت في غزة محظورة؛ لأنها تستخدم ضد المدنيين والأهداف المدنية بشكلٍ متعمد، والأمثلة على ذلك لا تُحصى، مما سجَّلته العدسات والبعثات الدولية، ومنها ما قررت الأمم المتحدة التي ضربت عدة مرات.
أما الموضع الرابع فهو أن اتفاقات جنيف تعني بضبط سلوك المتحاربين في جيوش، ومن ثَمَّ تشدد العقوبة على "الانتهاكات الخطيرة" للالتزامات التي تقع على الجيوش، وهي أساسًا عدم احترام الحماية القانونية الواجبة للفئات المحمية، وقد كانت جميع الفئات في غزة محمية بموجب القانون الدولي الإنساني، بدءًا بمباني الحكومة ومقرات الشرطة؛ حيث جرت المذبحة بفوجٍ من شباب البوليس لحظة تخرجه؛ لأن "إسرائيل" لا تعتبر حماس جيشًا وإنما تعتبرها منظمة إرهابية، وحتى لو كانت جيشًا فإن أعمال "إسرائيل" ضد الشرطة محظور في القانون الدولي، ناهيك عن استهداف المستشفيات وأطقم الخدمات الطبية ومخازن الإعاشة والأدوية والممرضين والجرحى والمشيعين والأطفال والنساء، وضرب المدنيين بطائرات F16، التي تستخدم ضد الجيوش الكبيرة واختراق أجسادهم بصواريخ الطائرات، فضلاً عن استخدام المدنيين كدروعٍ بشرية ضد المقاومة.
أما الموطن الخامس فهو اتهام حماس بأنها استخدمت الأماكن المحمية كالمساجد والمستشفيات ملاذًا لمقاتليها، وتخزين أسلحتها وذخيرتها، واستخدام المدنيين دروعًا بشرية ضد القوات الصهيونية.
والحق أن القراءة النمطية لاتفاقات جنيف يمكن أن تدين حماس، ولكن القراءة البصيرة والمستنيرة، بما يتفق مع الوضع في غزة، تعطى حماس الحق الكامل في استخدام كافة الوسائل ما دامت تدافع بذلك ضد عدوان غاشم، ولكي يفلت مقاتلوها، وهم عدة هذا الشعب، من مخططات "إسرائيل"، فيجوز لحماس كما للمقاومة العراقية أن تختبئ في المساجد والمستشفيات، وأن تستخدم المدنيين دروعًا بشريةً؛ لأنها والمدنيين محميون في القانون الدولي.
لكل هذا الأسباب نرحب بتقرير منظمة العفو الدولية، ولكننا نلفت النظر إلى ضرورة القراءة المختلفة لأحكام القانون الدولي الإنساني عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين شعبٍ آمن وبين قوة عسكرية غاصبة معتدية.