أصبحت مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002م محلَّ جدل على المستويين الرسمي والشعبي على الأقل بشكل حاد، منذ محرقة غزة التي أظهرت عزم "إسرائيل" النهائي بعيدًا عن السلام الحقيقي.

 

وأثناء هذه المرحلة انقسم العالم العربي إلى فرق ثلاثة؛ طالب فريق منهم بعدم المساس مطلقًا بمبادرة السلام، على أساس أنه لا يوجد بديل حقيقي لهذا السلام الإستراتيجي الذي ارتبط بهذه المبادرة، وعدم استعداد العالم العربي للبديل الآخر، وهو الدخول في صراع مسلَّح مع "إسرائيل"، وصارت مخاطر التفكير في إنهاء هذه المبادرة أشدَّ خطرًا على العالم العربي في المنظور الرسمي.

 

أما الفريق الآخر فيرى العكس تمامًا، وهو أن "إسرائيل" أظهرت منذ البداية امتهانها لليد العربية الممدودة؛ لأنها لا تفهم إلا لغة القوة، وأن استمرار اليد العربية ممدودةً تُغري بالمزيد من الإهانة الصهيونية، كما تعني المزيد من ابتذال الذات العربية؛ ما دامت الأيدي العربية المرتعشة التي تحمل المبادرة تستفزُّ الطرف القويّ في المعادلة وفق مفهوم هذا الطرف.

 

أما الفريق الثالث والذي انتصر حتى الآن منذ قمة الكويت الاقتصادية ثم قمة الرياض وأخيرًا قمة الدوحة؛ فيرى أن تظل المبادرة قائمةً متاحةً، مع التذكير بأنها لن تبقى هكذا إلى الأبد، أي التهديد بسحبها.

 

في هذا الإطار طالب البعض بتحديد المدى الزمني الباقي لاستمرار المبادرة، ولم توافق الأطراف الأخرى؛ حتى لا يفسَّر ذلك بأنه إنذار لـ"إسرائيل"، وأنه تصعيد عربي ضدَّها، فيعقِّد ذلك أيَّ مسعى أمريكي للتسوية، خاصةً أن واشنطن لم تُفصح حتى الآن عن خطة متكاملة للتسوية تشمل جميع ساحات الصراع العربي "الإسرائيلي"، أثناء الشهور الأخيرة من عام 2008، وحتى الآن تناثرت تصريحات غاضبة من دول عربية ومن الأمين العام للجامعة العربية؛ لأن المبادرة ماتت بإغفال "إسرائيل" لها، ثم صحَّت المبادرة عندما أبدت "إسرائيل" اهتمامها بها، ودعت إلى الحوار معها حتى يتفق الطرفان على طرق تنفيذها، ولكن تبيَّن أن "إسرائيل" لا تريد المبادرة، وإنما تريد الأطراف العربية التي لم تطبِّع معها- أي السعودية بالذات- ولذلك انتهى الاهتمام "الإسرائيلي" بها عندما وجدت "إسرائيل" صدًّا عربيًّا لمطالبها، في الوقت الذي أعربت فيه "إسرائيل" عن ثقتها بأن التطبيع العربي معها قادم لا محالة دون حاجة إلى البحث في المبادرة العربية.

 

والحق أن هذه المبادرة وتاريخها ومواقف الأطراف الدولية منها تكشف عن الكثير مما يتعيَّن تسجيله؛ فمن ناحية، منذ طَرْح هذه المبادرة لم يحرِّك العرب لها ساكنًا، وظلت من المعطيات التاريخية، علمًا بأن بوش اتصل بالزعماء العرب في قمة بيروت، وناشدهم إقرار المبادرة؛ مما أثار الشك في مدى استفادة "إسرائيل" منها، لأن بوش لا يريد مصلحةً عربيةً قطعًا، ولما أقرت قمة بيروت 2002م هذه المبادرة السعودية- التي كانت مفاجئةً بالنسبة للمراقبين- أدمجتها واشنطن في خريطة الطريق، حتى توهَّم العالم العربي بأنها آخر مرجعيات الخريطة التي لا تعترف "إسرائيل" الآن بغيرها، والسبب أن الخريطة تتضمَّن أولاً القضاء على المقاومة في إطار ما يسمَّى بالترتيبات الأمنية، وهذا هو الهدف الوحيد من هذه الخريطة التي لا تزال السلطة هي الأخرى تطالب بها حتى الآن؛ لأنه إذا نُفِّذ الجزء الأول منها فلا حاجة إلى تنفيذ الباقي، وبذلك يظهر القبول بها رغبةً وهميةً في التسوية والسلام، علمًا بأن الخريطة لا تنصُّ على تنفيذها بشكل متكامل، وإنما تُنفَّذ على مراحل، أولها زوال المقاومة.

 

معنى ذلك أن المبادرة العربية ظلَّت بعيدةً عن ربطها بموقف "إسرائيل" إلى وقت قريب، والغالب أن المبادرة نفسها دخلت ضمن أدوات الحرب الباردة العربية؛ بحيث صار المدافعون عنها والساعون إلى سحبها هم- أصلاً- فرقًا متناحرةً، وأن الجدل حولها هو في الواقع جدل بين هذه الفرق، ولم يرتفع طرف فوق الدائرة الجهنمية العربية ليرى أين تقع المصلحة العربية الحقيقية في هذه المبادرة، ولذلك فإن المدافعين عن بقائها اتُّهِموا بالخنوع ومحاباة "إسرائيل" واستمرار ذلّها، بينما المطالبون بسحبها والمعلنون وفاتها هم المناضلون المقاومون للمشروع الصهيوني.

 

وبصرف النظر عن صحة هذا الافتراض أو خطئه؛ فإنه يجب وضع هذه المبادرة في وضعها ومكانها الصحيح، دون أن ترتبط بموقف "إسرائيل" منها، فقد ارتفعت أصوات في العالم العربي تقول إن سحب المبادرة يجب أن يكون الرد العربي على حكومة نتانياهو المتطرفة، ولكن هذه الأصوات لم تدرس أثر سحبها على "إسرائيل"، وهل يرغمها هذا السحب على تغيير تركيبتها أم سياساتها المرتبطة بهذه التركيبة، وهل تكترث "إسرائيل"- أصلاً- بهذه المبادرة، استمرت أو سُحِقت؟! في نفس الوقت لم تدرس هذه الأصوات بديل المبادرة على افتراض أن المبادرة تعني طلب السلام، بينما سحبها يعني الاستعداد للحرب، والعالم العربي يلتحف بهذه المبادرة ستارًا يُخفي عجزه عن مجرد استحضار هذه المصطلحات المرعبة.

 

ولذلك نرى- حلاًّ لهذا الإشكال- ثلاثة أمور:

الأول: أن تظل المبادرة إعلانًا عن رغبة عربية دائمة في السلام العادل الشامل دون أن ترتبط بمدًى زمني أو موقف "إسرائيل"، هي إعلان عن الموقف العام.

 

الأمر الثاني: أن هذه المبادرة تحتاج أوراقًا لتعزيز الطلب العربي للسلام؛ فلا يمكن لـ"إسرائيل" ابتداءً أن تنخرط في سلام حقيقي للعرب، وإذا انخرطت فسوف يكون ذلك بسبب أوراق القوة العربية، ومن بينها القوة العسكرية، فقد مضى الزمن الذي كان جيش "إسرائيل" القوة التي لا تقهر؛ فالقاهر والقهَّار هو الله وحده، وما دونه قابل للانكسار والهزيمة إذا واجه عزيمة اليقين بالحق، والدفاع عن مقدرات هذه المنطقة ضد طرف غاصب عابث سادر في غيِّه.

 

والأمر الثالث: أن ترسم الدول العربية جميعًا علاقاتها مع الجميع على أساس مساندة قضية السلام، وليس مساندة الحق العربي، فنحن نريد أن نستردَّ أراضيَنا المحتلة في سوريا ولبنان وفلسطين، واسترداد حقوق الفلسطينيين المشروعة، ووقف عدوان "إسرائيل" علينا، وأن يتم التناسب بين القوى العربية والقوة "الإسرائيلية"، وكسر الوهم الذي قبلنا به ضمن أوهام كثيرة؛ وهو أن "إسرائيل" تعيش في وسط معادٍ مستعد للانقضاض عليها إذا لم تنقضَّ عليه؛ فالوسط- فعلاً- معادٍ للغاية بسبب الطبيعة الجهنمية لـ"إسرائيل"، ولكي تنطفئ جذوة هذا العداء لا بد من بوادر حُسْن النية، وليس بالمزيد من القوة الغاشمة.