د. حلمي محمد القاعود

قال كاتب السلطة الذي كان ماركسيًّا وتأمرك في معرض تسويقه لموقف السلطة المصرية من العدوان النازي اليهودي على غزة في ديسمبر 2008/ يناير 2009 م: "مرة أخرى نحمد الله ونشكر فضله وكرمه على أن أحدًا من الجماعات اليسارية والناصرية‏,‏ أو من جماعة الإخوان لم يكن حاكمًا لمصر خلال هذه المرحلة‏,‏ وإلا لأخذوا البلاد إلى موارد التهلكة والخراب‏,‏ وارتهن مستقبل الدولة لسنوات وعقود في يد دول وجماعات خارجية‏,‏ وكل ذلك من أجل عبارات وشعارات فارغة قد تملأ ساعات الفراغ التليفزيوني ساعة‏,‏ ولكنها تدمر أجيالاً لعقود مقبلة".

 

وإذا عرفنا أن كاتب هذا الكلام عضو فيما يُسمى لجنة السياسات بالاتحاد الاشتراكي الذي صار اسمه الآن "الحزب الوطني الديمقراطي"، وأن اللجنة المذكورة تمثل أرفع قيادة تخطط لمستقبل مصر وتشرع لمصيرها في الأفق الإقليمي والدولي؛ فلنا أن نأخذ هذا الكلام مأخذ الجدّ، ونضعه في إطاره الطبيعي الذي يستلزم قراءةً واعيةً جادّةً، بعيدًا عن احتسابه ضمن حملات الهجاء التي تقوم بها أجهزة الدعاية التابعة للسلطة ضد خصومها الذين ذكرهم الكاتب في الداخل أو الذين تضمنهم مقاله من خصوم الخارج، وفي مقدمتهم حزب الله، وإيران وآخرون.

 

خطورة النظرة التي تستوجب الحمد والشكر لله، تفرض علينا أن نقرأ سياسة اللجنة التي تحكم البلاد وتخطط لها، فقد نجونا- فيما يفيد كلام الكاتب- من كارثة كبرى، وإن كان الحمد لله وشكره مطلوبين على الدوام في السرّاء والضراء، ودائمًا يردّد المؤمن في العقيدة الإسلامية أن الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!

 

يفترض الكاتب أن الجماعات اليسارية والناصرية والإخوان تتحرك دون عقل أو تفكير، وتندفع وراء عواطفها ومشاعرها؛ مما يؤدي بالبلاد إلى الهلاك والخراب، وهذا الفرض يعني بصورة أكثر تبسيطًا أن هذه الجماعات لو كان أحد منها يحكم مصر وقت العدوان النازي اليهودي على غزة، لقام بحرب مضادة ضد هذا العدوان، ولأن مصر ضعيفة عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا بالمفهوم الضمني الذي يحتويه كلام الكاتب، فهي معرّضة لهزيمة ساحقة ماحقة، أشدّ من هزيمة 1967م، التي تدفع الأجيال الحالية والقادمة ثمنها رغمًا عنها؛ لذا فإن موقف السلطة المصرية أثناء العدوان، وعدم اتخاذها خطوات إيجابية؛ عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، هو الذي أنقذ البلاد والعباد من الكارثة، حيث اكتفى اليهود الغزاة القتلة بتدمير غزة وسحقها، وقتل الآلاف من أبنائها وإصابتهم، وانسحبت بهدوء بعيدًا عن ضرب مصر والتعرّض لها!

 

وهذا الكلام بمفهومه الضمني يسيء إلى مصر، ويهين شعبها وجيشها، ويضع السلطة المصرية الحاكمة في خانة الذليل الخاضع الخانع الذي يسترضي العدوّ اليهودي كي لا يضربه أو يغير على أرضه ومدنه وجيشه ومصانعه ومدارسه ومساجده! ومن ثمّ، فإن الكاتب يحمد الله- باسم السلطة- ويشكره على فضله وكرمه فقد أبعد الغزاة القتلة النازيين اليهود عن مصر حيث تركوها لحالها سليمة لم يمسسها سوء أو أذى!

 

بالطبع، هذا الكلام لا يطابق الواقع، فمصر لها جيش عظيم، ومهما كان الفارق بين إمكاناته وإمكانات جيش العدوّ، فإنه يستطيع- على الأقل برجاله المخلصين الأكفاء- أن يؤلم الغزاة القتلة، ويوجعهم وجعًا شديدًا، ويجعلهم يفكرون ألف مرة قبل الاصطدام به، أو التحرش برجاله، وقد جرّبوا في رمضان عام 1393هـ= أكتوبر عام 1973م، كيف كان الأداء العسكري في الميدان، وكيف استطاع على سبيل المثال جندي المشاة المصري أن يقهر جندي الدبابات اليهودي، علمًا بأن الدعم الاستعماري الأمريكي للغزاة اليهود القتلة كان مضاعفًا، وبأحدث الأسلحة والذخائر التي لا توجد لدى الجيش المصري.

 

ومع ذلك لم يطلب أحد من الجيش المصري أن يخوض معركة عسكرية بالنيابة عن أهل غزة، أو يشنّ حربًا ليس مستعدًا لها كما ينبئنا الناطقون باسم لجنة السياسات الحاكمة للبلاد والعباد، كان المطلوب هو الوقوف على الحياد والمجزرة على أشدها، وليس اتهام حماس وتحميلها مسئولية العدوان، والمحرقة التي أوقدها النازيون اليهود الغزاة، بعد أن حاصروا غزة عامين تقريبًا، وحرموا أهلها الطعام والدواء والوقود، ووضعوا الشعب الفلسطيني هناك في سجن كبير بعد إغلاق المعابر والمنافذ، ومن بينها منفذ رفح، الذي قيل إن فتحه سيرفع المسئولية القانونية للاحتلال عن العدوّ النازي اليهودي، مع أن القوانين الدولية تسمح للدول بإغاثة الشعوب الواقعة تحت الغزو الاستعماري، وتقديم العون بأنواعه، وخاصة إذا كانت تتعرض للتطهير العِرْقي أو الموت جوعًا!

 

كان المطلوب هو الدعم السياسي للمذبوحين في غزة، وهو مسألة قام بها عدد من دول العالم البعيدة عن فلسطين المحتلة، منهم السيد "هوجو شافيز"؛ رئيس فنزويلا، الذي قطع علاقاته السياسية والدبلوماسية مع العدوّ النازي اليهودي، وسحب سفيره من تل أبيب، بعد أن ندّد بالسلوك الدموي للغزاة في أكثر من مناسبة على مرأى ومسمع من العالم أجمع، بما فيه العرب والمصريون.. ثم إنه أعلن تضامنه الصريح والواضح مع شعب فلسطين في مواجهة الغزاة.

 

ومنهم السيد "رجب أردوغان"، رئيس وزراء تركيا، الذي استنكر العدوان علنًا، وفي أكثر من مناسبة دولية آخرها انسحابه من مؤتمر دافوس، بعد تحديه العلني الصريح للإرهابي النازي اليهودي "شيمون بيريز"؛ مما كان له أثره الواضح على مستوى العالم.

 

بل إن الدول الأوروبية التي تقف عادة مع الغزاة، وتمنحهم دعمها السياسي والدبلوماسي، لم تجد بُدًّا من استنكار المذبحة بدرجات متفاوتة، في اختلاف واضح عن "الموقف المصري" الذي تطابق مع موقف الغزاة القتلة، وانشغل أو شغل الشعب المصري، بمعارك جانبية مع إيران وقطر و(الجزيرة)، ومنع التئام مؤتمر قمة عربي في "الدوحة"، ووقف ضد دخول الإعلام والمناصرين للشعب الفلسطيني، ومنظمات البحث والمتابعة لجرائم الحرب القادمة من غرب أوروبا إلى غزة عبر رفح؛ فضلاً عن التعطيل المتكرر لبعثات الإغاثة القادمة من شتى أنحاء العالم من الوصول إلى المتضررين، بل إن النظام المصري وقف إلى جانب مليونيرات "رام الله" الذين طلبوا أن يشرفوا على عملية إعمار غزة، لتزداد ملايينهم (الحلال!)، وهو ما أدى إلى عدم البدء في الإعمار حتى الآن.

 

لقد حاول النظام أن يقنع الناس أنه يتدخل لإيقاف العدوان، وتحقيق مبادلة الأسرى، ولكن العدوّ ضرب عرض الحائط بهذا الكلام، فأعلن أنه يوقف النار من جانب واحد، ويرفض مبادلة الأسرى؛ مما وضع النظام والمدافعين عنه في موضع حرج، حتى رأينا كاتب السلطة الذي كان ماركسيًّا وتأمرك، يحمد الله ويشكره على فضله وكرمه؛ حيث إن مصر العظيمة أفلتت من الهلاك والدمار، لأن أحدًا من الجماعات اليسارية والناصرية والإخوان لم يكن حاكمًا لها!!

 

نحن نحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه!

--------

* [email protected]