لم تعرف جماعة الإخوان المسلمين في مصر طعم الاستقرار إلا فترات قصيرة؛ حيث عصفت بها رياح السّموم، وتناوشتها سيوف الخصوم، وحيث مرَّت بكثير من حالات الطوارئ؛ لكنها لم تبارح مكانها عند وسطية الإسلام وشموله، إذ إن الدين ليس مجرد أداء للشعائر التعبدية، وإنما هو استعمارٌ للأرض واستخلافٌ فيها، وبالتالي فإن التعامل الحسن مع الناس يصبح من جوهر الدين.

 

وإن القيام بمهام العبودية على هذا النحو، يقتضي جديةً كبيرةً ترتبط مفرداتها بتعبئة كل الطاقات والإمكانات البشرية والطبيعية لعمارة الحياة، وتوفير الخير والرفاهية لكل بني الإنسان، مع ما يتطلَّب ذلك من استثمار للأوقات، والابتعاد عن العبث واللهو واللعب، غير أن هذا الجِدَّ لا يعني تقطيب الجبين وعبوس الوجه وتوزيع "التكشيرات" على الخلق، فالضحك حاجة فطرية، والإسلام لم يأتِ إلا مؤيدًا للفطرة وملبيًا لحاجاتها.

 

أما الابتسامة فهي عملة إسلامية ذات قيمة محسوبة في بنك المحبة، وفي صندوق التوفير الحسناتي، قال صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، فكيف إذا استطاع الإنسان أن يزرع في وجه أخيه الابتسامة بل الضحكة؟!

 

تحدث الأستاذ محمود عبد الحليم، وكان من أقرب الإخوان إلى البنا قلبًا وقالبًا، عن دعوة الإمام البنا وأسلوبه في دعوة الناس، إلى أن قال: كنتَ إذا رأيتَه لم ترَ إلا دعوته، وإذا تحدثت إليه لم تسمع إلا دعوته، حتى فكاهته، وما كان أجمل فكاهته، وما كان أسرع بديهته، حتى الفكاهة لم تكن إلا في صميم دعوته، تخرج من سماعها وقد أضْفت جديدًا إلى عقلك وقلبك وإيمانك.

 

ففي معرض حديث البنا عن الأسرة في الإسلام، روى هذه الطرفة فقال: ومن اللطائف أن بلدًا في الوجه القبلي كان أهلها كثيري الحلف بالطلاق، فذهب ذات يوم إلى تلك البلدة قاضي المحكمة الشرعية، فوجدها على الحالة التي ذكرنا، فقال للمأذون: لِمَ لمْ تنههم يا فلان عن الحلف بالطلاق؟ فقال: "عليَّ الطلاق غِلِبْت ويَّاهم".

 

وفي ذكرى الإسراء والمعراج زار البنا شعبة "بنها"، وألقى فيها محاضرةً أعجبت الجميع، وبعد انتهاء المحاضرة استأجر الإخوان عربة "حنطور" ليركب فيها البنا إلى محطة القطار حتى يعود إلى القاهرة، واجتمع حوله عدد كبير من الإخوان يسألونه عن مسائل مختلفة، وقد اكتظَّت العربة بهم، فرجا البنا إخوانه أن ينصرفوا مشكورين إلى بيوتهم، وأن يرحموا هذه العربة المكتظَّة، فطمأنه أحد الراكبين بقوله: لا تقلق يا أستاذنا من هذا الازدحام؛ فإن صاحب العربة وسائقها من الإخوان، فأجاب الأستاذ البنا بقوله: ليكن صاحب العربة من الإخوان، لكنَّ الحصان الذي يجرُّ العربة ليس من الإخوان.

 

عُرِف أحد الإخوان بنشاطه في الدعوة وحرصه على حضور الاجتماعات في مواعيدها، ولما تزوَّج هذا الأخ تكاسل بعض الشيء، ولم يحرص على الاجتماعات كما كان من قبل، ولما سأل عنه الأستاذ الإمام، أجابه أحد الإخوان الظرفاء: الأخ مستتر جوازًا، قال: ومتى يستتر وجوبًا؟ فقال: إذا مات.

 

وهنا يتبيَّن للمرء كيف أن روح المرح والدعابة كانت سائدةً في حركة الإخوان؛ لدرجة أن ما عُرِف عن الإخوان من شدة توقيرٍ لقائدهم، وعظيم احترامٍ لإمامهم، لم يمنعْهم من المزاح والضحك أمامه؛ مما يؤكد أن الدعابة والبساطة في تكوين الإخوان كانت جزءًا من ظاهرة عامة حضرت في تربيتهم نتيجة التأثير الشديد لإمامهم في هذا السياق، وبالتالي فإن الخلط بين الهزل العابث ومثل هذه المواقف الطريفة يُعتبر من الخلط غير المحمود.