التربية الواعية وتعويد الإخوان على تجنُّب مزالق خطيرة؛ قد تودي بمن يصاب بها، وتُهلكه، وتُلقي به بعيدًا عن الطريق المستقيم؛ لأنها كالحمَّى التي تحتاج إلى سرعة العلاج، بمجرد أن تظهر علاماتها أو ملامحها على شخصٍ أو عدَّة أشخاص.

 

يقول صلى الله عليه وسلم في أحد هذه الأمراض وهو المدح والثناء "إذا رأيتم أقوامًا يتمادحون فاحثوا في وجوههم التراب"، وإني أذكر يوم أن كان محمد نجيب رئيسًا للجمهورية زارَ الأزهر وجلس يستمع إلى علماء الأزهر، ووقف مندوب الإخوان وكان- على ما أذكر- الدكتور علي عبد الحليم أطال الله في عمره وبارك في حياته وعلمه، فقال بعبارة قوية أثلجت صدور كل من حضر الحفل "لن نمدحك يا نجيب؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم أقوامًا يتمادحون فاحثوا في وجوههم التراب"، فكان هذا الموقف فيصلاً بين الرجال الذين يقولون فيصدقون وبين أشباه الرجال الذين يتمرَّغون على الأعتاب، وفي الأثر أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمدح آخر فقال له: "ويحك! لقد قطعت عنق أخيك"، وقال أحد الصحابة لسيدنا عمر: "اعدل"، فقال له رجل: "أتقول هذا لأمير المؤمنين" فقال له: "دعه فليلقها، فلا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، فقولة الحق الصريحة الواضحة يجب أن تقال، لكن بأسلوب مهذب وبطريقة حسنة بحيث يقبلها من تقال له.

 

فالأصل في مدح الإنسان لنفسه أو لغيره عدم الجواز، على ذلك جرى أسلافنا رضوان الله عليهم؛ استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى﴾ (النجم: من الآية 32)، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) ﴾ (النساء)، وقد أقسم الحق تبارك وتعالى بيوم القيامة على ضخامته وعظمته، ووضع في كفّة الميزان الأخرى القسم بالنفس اللوامة؛ فقال تعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)﴾ (القيامة).

 

جاء في النفس اللوامة: عن الحسن البصري: "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه؛ ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قُدُمًا ما يعاتب نفسه"، وعن الحسن البصري: "ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة"، وعن عكرمة رضي الله عنه: تلوم على الخير والشر لو فعلت كذا وكذا، وعن مجاهد: "تندم على ما فات وتلوم عليه"، وعن جرير: "كل هذه الأقوال متقاربة المعنى والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات".

 

ومن العيوب التي يجب أن يتنبَّه إليها المربُّون معالجة قضية الرياء، وهو أن يحاول الإنسان أن ينقُد نفسه بنية إظهار فضل النفس وتواضعها وابتعادها عن المدح والثناء لاستجلاب المدح بطريقة ملتوية، فالأمر أقبح وأسوأ، يقول الحسن: "ذمُّ الرجل نفسَه في العلانية مدحٌ لها في السر، ومن أظهر عيب نفسه فقد زكَّاها".

 

وأحيانًا يحاول الإنسان أن ينقُدَ نفسه وأن يُظهِرَ عيوبها ليعتذرَ عن أداء واجب مطلوب منه، والتفلُّت من القيام بتكاليف، ومهامَّ يجب أن يقوم بها، وهذا تزيينٌ قبيحٌ من الشيطان، ودفعٌ له للقعود عن أداء الواجبات، وبُعدٌ مقصودٌ عن فعل الخير والتعاون على البر وعن المضيِّ مع الآخرين العاملين.

 

وهنا يأتي دور المحاسبة الدقيقة من الموجِّه لردِّ كيدِ الشيطان، وتفهيم الأخ المسلم أن هذه مزالق خطيرة إن لم يصحُ ويستيقظ قد تنزلق قدمه فتهوي به، فلا بد من المحاسبة الدقيقة لعلاج مثل هذه الأمراض؛ حتى تحيا روح المؤمن، ويستيقظ وجدانه، ويستحضر في نفسه وحسِّه أن الله يراه، وأنه سبحانه يعلم السر وأخفى، وأن الملائكة يكتبون ويسجلون، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)﴾ (الحشر).

 

ولا بد في حياتنا جميعًا من إحياء جدول المحاسبة، وهي محاسبة النفس على ما فعلت طوال اليوم، فإن وجد خيرًا حمد الله، وإن وجد تقصيرًا لام نفسه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحاسب نفسه قبل النوم ويسأل الأسئلة الموجودة في جدول المحاسبة التي تبيّن للإنسان من خلال الإجابة أين هو من هذه الحقائق؟! فإن وجد خيرًا حمد الله، وإن وجد غير ذلك استغفر ولام نفسه وأصرَّ على معاهدة ربه؛ أنه لن يعود إلى التقصير مرةً أخرى، وفي أعلى هذا الجدول مكتوبٌ.. ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)﴾ (الإسراء).

 

ويجب على العاملين للإسلام أن يكونوا صادقين وجادِّين مع أنفسهم قبل غيرهم، وأن يحذروا هذه الأمراض ويبتعدوا عنها، ويخافوا منها؛ لأنها تُحبط العمل، ومن أسباب مقت الحق تبارك وتعالى لمن وقعوا فيها، وجاء في الصحيحين ما يحذرنا من هذه الأمور.. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّة ويقاتل رياءً، فأيّ ذلك في سبيل الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

 

وهي أمراض من صفات المنافقين، أعاذنا الله منها، قال تعالى في المنافقين: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (النساء: من الآية 142)، وجاء أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".

 

إنها مسئولية المربِّي أولاً؛ أن يتعهَّد من يربيه، وأن يرقُبه عن قرب، وأن يعالج ويعالج ويصبر ويصابر، حتى يبرأ من الأمراض التي ألمَّت بمن يربيه.

 

أيها المربُّون.. خذوا الناس بما أخذهم الله وربُّوهم على ما ربَّاهم عليه، وردُّوهم إلى النبع الصافي الذي لا يظمأ من ورده، قال تعالى: ﴿.. قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة)، وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)﴾ (البينة).

 

وأقول ما قاله الحق تبارك وتعالى في دستوره الخالد: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)﴾ (غافر).

----------------

* عضو مكتب الإرشاد ومن علماء الأزهر الشريف.