بقدوم شهر رجب- الشهر الحرام- تمتلئ النفس بذكريات الإسراء والمعراج ومكانة هذه الأمة التي أرادها الله لها ومنزلة نبيها ورسولها (صلى الله عليه وسلم).
والحق أن الذي يكتب أو يتحدث أو يحاضر عن نكبة فلسطين لا بد أن تسيل دموعه وأن يمتلئ قلبه بالحزن والحسرة على الأقصى وعلى مسرى المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، بل على فلسطين كلها قلب العالم الإسلامي الذي يُعتبر الطريق إلى مكة والمدينة، ويُعتبر المدخل إلى مصر وإلى سائر أقطار العالم الإسلامي، وكل من يدافع عن فلسطين ويضحّي من أجلها إنما يُدافع عن العالم الإسلامي بأكمله.
إن كارثة فلسطين هي جُرح الإسلام في القرن الخامس عشر الهجري ومحنة المسلمين الكبرى في هذا الزمان، حلت ببلاد المسلمين بعد غاراتٍ وحشيةٍ وكوارث أتت على الأخضر واليابس لا مثيل لها في العالم كله.
إن هذه الغارة الصهيونية البربرية الوحشية المدعومة من أمريكا وحلفائها لم تَقل خطرًا عن تلك الغارات بل توازيها إن لم نقل تفوقها؛ حيث وجَّه اليهود في العالم كل إمكانياتهم نحو هذه الأمة لتدميرها. واحتلال جميع أراضيها بادئين بفلسطين، ولقد جاءوا إلى بلاد الإسلام يحملون عقيدة اسمها "أرض الميعاد" وهي عقيدة يجب ألا نستهين بها، والفرض الثابت الذي لا يتغيّر أن هذه العقيدة تُقاوَم وتُدْفَع بعقيدة أقوى منها وأعظم؛ عقيدة هي الحق والصدق، عقيدة التوحيد، عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله.. وهذه العقيدة هي أن الله سبحانه أورث محمدًا (صلى الله عليه وسلم) وأمته ميراث النبوة كلها وأورثه الأرض المقدسة وجعلها لأمته إلى يوم الدين فيجب على هذه الأمة أن تحافظ على هذا الميراث وتفديه بالمال والنفس، وطبيعة الأمة الإسلامية التعايش مع جميع الأمم، والتعاون على الخير والبر، ووصل الجسور، وتقوية الروابط، وربط الأواصر بين جميع الشعوب والأديان السماوية الصحيحة، لم يعرف الإسلام في تاريخه كلّه إلاّ هذه المعاني ولم يأمر إلاّ بها.. بل جعل من أهداف الجهاد وغايته الحفاظ على أماكن العبادات للمسلمين ولغيرهم، قال تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ (الحج: من الآية 40).
في الجانب الآخر، جانب الحق، جانب الأمة المُعتدى عليها، نجدُ الضعف والتفرق والاختلاف، أمة غُثاء كغثاء السيل كرهت الموت وأحبّت الحياة وبَعُدت عن أهدافها وغاياتها، وهذه الأمور التي ابتليت بها أمة الإسلام فاستولت عليها يؤكد الموقف الخطير في فلسطين، بل على الأمة العربية والإسلامية جميعًا.
عقد منذ فترة مؤتمرٌ في "داكار" عاصمة السنغال، وقف ياسر عرفات- رحمه الله- يتحدث في المؤتمر فأشار إلى الجهاد في سبيل الله، مجرد إشارة أثناء كلامه، وهنا انقلبت الدنيا رأسًا على عقب واهتزت "إسرائيل" وأصيبت بالرعب من مجرد الحديث عن هذا الأمر وأرسلت البرقيات للمؤتمر من كل أنحاء العالم تعترض وتنكر على عرفات أن يقول هذا الكلام. وكان لا بد من الرضوخ لهذه الضغوط التي لم تكف عن المطالبة باعتذار عرفات رسميًّا في المؤتمر عن هذه الكلمة وحذفها من مضبطة المؤتمر وتمت الاستجابة وهدأت العاصفة الهوجاء التي اندفعت من كل مكان- المختار الإسلامي-.
وهذا يبيّن لنا بوضوح شديد مدى خوف اليهود من مجرد ذكر الجهاد ورعبهم من إحياء هذا السلاح الخطير وهو فريضة إسلامية ماضية إلى يوم القيامة يقول عنه (صلى الله عليه وسلم): "ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلّوا"، أحد الأسرى من المصريين في المعارك التي دارت في 1967م سألوه بإلحاح في "إسرائيل" هل يوجد أحدٌ من الإخوان في الجيش المصري، قال: لا. فعادوا إلى السؤال مرة ومرة فقال لهم: لماذا كل هذا الاهتمام المبالغ فيه بالإخوان؟ فقالوا: لا نستطيع أن ننسى أبدًا أن مقاتلاً واحدًا من الإخوان وقف في ممر (مِتْلا) بكتيبته فعطلنا فترة طويلة عن التقدم ولم يستسلم إلاّ بعد أن نفدت ذخيرته وقتل جنوده.. وهذا يُفسر لنا أيضًا سر النقمة الهائلة على المقاومة الفلسطينية خاصة حماس، وسرّ إثارة الدنيا كلها عليهم، وسرّ العدوان الدائم الذي لا ينقطع وتدمير بيوتهم وممتلكاتهم وأولادهم وأطفالهم، والواقع المشهود أقوى دليل، إنه الرعب المتأصل في قلوب اليهود، قال تعالى ﴿لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)﴾ (الحشر).
إذًا فإحياء فريضة الجهاد اليوم قبل الغد، التربية الجهادية، إعداد الأمة المسلمة للدفاع عن كيانها ووجودها ومسرى رسولها (صلى الله عليه وسلم) كلها فرائض نافذة لا يُعفى منها أحد لا الكبير ولا الصغير، لا الحاكم ولا المحكوم، كلهم سواء، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)﴾ (الأنفال).
أمر آخر لا بد من الإشارة إليه، لقي أحد الأخوة في سجون عبد الناصر يهوديًّا كان محكومًا عليه، فسأله الأخ: هل قرأت الحديث النبوي الصحيح الذي يقول فيه رسولنا (صلى الله عليه وسلم) "تقاتلون اليهود فتقتلونهم حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر وحتى يقول الشجر والحجر يا عبد الله يا مسلم، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله" فرد اليهودي نعم، نحن نعرف هذا الحديث وقرأناه ونحفظه ونؤمن به وهو موجود عندنا في التوراة فقال الأخ المسلم إذا كان الأمر كذلك، فلم هذه المشاكل والعدوان المستمر على المسلمين الذين ما جنوا شيئًا ولا أساءوا إلى أحد، وأنتم تعلمون النهاية؟ فقال اليهودي: هذه النهاية عملنا حسابنا لها فلن نسمح لكم بأن تتحدوا أو تكونوا أمة واحدة، ولذلك ستظلون متفرقين ولن يتحقق لكم النصر علينا إلا إذا كنتم أمة واحدة، وهذه عقيدتنا ولعلنا ندرك السر في العمل الدائب على إثارة العداوات والحزازات والبغضاء بين الأمة الإسلامية بعضها مع بعض، لقد أصبح التفريق بين الدول العربية والإسلامية أمرًا محزنًا حتى مجرد الالتقاء في المؤتمرات الذي كان موجودًا منذ فترة أصبح الآن مستحيلاً، وحل التفرق في كل شيء، في الغاية والهدف والآمال والرؤى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. أصبح ينطبق علينا قول القائل:
وتفرقوا شيعًا وكل قبيلة * * * فيها أمير المؤمنين ومنبر
نلاحظ هنا من هذه الأمثلة التي ضربناها؛ العوامل التي أدت إلى هذه الكارثة:
أولها: إسكات صوت الجهاد في الأمة، بل مطاردة من ينادي به واتهامه بشتى التهم حتى خفت هذا الصوت الذي يُعتبر عنوانًا لهذه الأمة ودليلاً على وجودها.
العامل الثاني للكارثة: تفريق الأمة إلى شيع وأحزاب وطوائف وفرق، كلها لا تلتقي ولا حديث عن الوحدة ولا نبذ للاختلاف والفرقة، ولقد قال الحق تبارك وتعالى لنا محذرًا: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)﴾ (آل عمران)، وقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾ (آل عمران).
ثالثًا: فقدان الشخصيات المؤمنة بهذه القضية، والتي تحمل همومها وتسهر من أجلها، وتجمّع المؤمنين حولها، وتنبّه باستمرار إلى خطرها، وتذكر المسلمين دائمًا بمصيرهم الذي ينتظرهم لو استمر الحال على هذه الصورة، لقد كان الإمام البنا هو الشخصية المحورية التي حملت بحق أعباء هذه القضية فكان لا ينام الليل ويطرق جميع هذه الأبواب ويعدّ المجاهدين، بل ويسهر على إعدادهم، وكانت النتيجة أن قُتل وكان شهيد فلسطين بحق، ومن داخل فلسطين كان الرجال الأبرار وما زالوا يبذلون أقصى ما يملكون في سبيل مقاومة العدو الغاصب وكان في البلاد العربية والإسلامية تيارٌ جارف ينادي بالجهاد وعلى رأسهم الرجال الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
ورغم كل هذه العوامل وخطرها، وخطر استمرارها فإني ألمحُ من وراء الأفق أنّ هذه القضية لا بد أن يتحقق فيها نصر الله وهو قريب، فالحق تبارك وتعالى يقول ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾ (آل عمران)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)﴾ (سبأ)، إني أرى من خلال الشهداء والآلام والصبر، أرى ملامح النصر، بل أرى راياته تخفق من هنا وهناك أرى أبو بكر الصديق في أزمة وكارثة تجاوزت كل الحدود في الردة حتى قال عروة بن الزبير (إن المسلمين كانوا كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية) ومع هذا انتصر الإسلام، فلو كان يُراد أن يموت لمات في هذا الموقف ولكن الله سبحانه وتعالى لم يُرد ذلك.
لقد قيض الله لهذه الأمة؛ وهو أرحم بها من نفسها؛ مَن وقف أمام الطغيان فلوى عنقه وقطع دابره بإذن الله، وقد قيض الله لهذه الأمة من ركز فكره وهمّه على حراسة هذا الدين العظيم وهذه الرسالة الخالدة التي هي خاتمة الرسالات على نبيها أفضل الصلاة والسلام.
لو كان يُراد للإسلام أن يموت لمات يوم أن جاء التتار بهجمتهم ووحشيتهم وأبادوا البلاد والعباد وصنعوا هرمًا من جماجم المسلمين، لكن جاء من قيادات المسلمين وعلى رأسهم قطز، ومن استطاع أن يرد كيدهم في نحورهم والله عز وجل لم يُرد أن يموت الإسلام.
لو كان يُراد للإسلام أن يموت لمات يوم أن جاء الصليبيون إلى أرض المقدس وحولوه إلى أنهار من الدماء وبرك تخوض فيها الخيل؛ لكن صلاح الدين البطل المسلم المجاهد ردّ هذه الوحشية وأدب المغيرين والمتجرئين على محارم الله، لقد حكى عنه أحد مرافقيه "لقد رأى أن الله سبحانه وتعالى خلقه لأمر عظيم لا يتفق معه إلا الجدّ والجهاد" حتى كان حبّه للجهاد "ولقد كان حبه للجهاد أقوى من كل شيء والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيمًا بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلته. ولا كان له اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا إلى من يُذكِّره ويحثُّه عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة. وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثُّه على الجهاد.
يا أهل فلسطين.. يا أهل بيت المقدس.. يا أبناء الشيخ المجاهد عز الدين القسام.. يا أبناء الشيخ الشهيد أحمد ياسين.. يا أبناء حسن البنا شهيد فلسطين.. يا أبناء الشهداء، حاشا لله سبحانه وتعالى أن يترككم ووعده نافذ وقضاؤه مُبْرَم وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)﴾ (الأنبياء).
فاصبروا وصابروا ورابطوا، فما تفعلونه وما فعلتموه إن ضاع عند المخلوق فلن يضيع عند الخالق، وكل ما يصيبكم من نَصَبٍ وألمٍ فهو في ميزان حسناتكم، فأنتم الرجال الأبرار خاطبكم الحق جل وعلا بقوله: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)﴾ (آل عمران).
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
-----------
* من علماء الأزهر- عضو مكتب الإرشاد