حتى كتابة هذه الكلمات لم ينتخب أعضاء مؤتمر فتح السادس أعضاءَ اللجنة المركزية وأعضاءَ المجلس الثوري، وهما أعلى هيئتين قياديتين في الحركة التي فجرت الثورة الفلسطينية، وتسلَّمت راية المقاومة والكفاح المسلح منذ قرابة نصف قرن من الزمان (1965م- .....).

 

والاهتمام بحركة فتح ومسيرتها وتحولاتها جزء من الاهتمام بقضية فلسطين قضية العرب والمسلمين الأهم والأولى.

 

وقد صاحب انعقاد المؤتمر الحالي- وهو السادس- عدة ظواهر مهمة:

أولاً: أنه ينعقد بعد انقطاع دام عشرين سنة جرت فيها مياه كثيرة، وتمَّ إجراء تحولات خطيرة على مسيرة الحركة التي جمعت معظم ألوان الطيف السياسي الفلسطيني.

 

ثانيًا: أن اتهامات خطيرة وجَّهها أحد أهم القيادات التاريخية (فاروق القدومي) لرئيس الحركة وبعض قيادات السلطة والحركة؛ وصلت إلى التواطؤ مع العدو لاغتيال القائد المؤسس للحركة والثورة والسلطة ياسر عرفات.

 

ثالثًا: أن المؤتمر تمَّ اختيار مكان انعقاده في الداخل الفلسطيني (بيت لحم)، وبضغط من أبو مازن (محمود عباس)؛ مما حرم كثيرين الحق في الحضور، وهم الذين يعترض عليهم العدو الصهيوني لمواقفهم الحاسمة ضد اتفاقية "أوسلو"، وما ترتب عليها أو تأييدهم لنهج المقاومة.

 

رابعًا: أن عضوية المؤتمر قد تغيَّرت وتحورت؛ نتيجة مواءمات عديدة، ولتحقيق نتائج محددة سلفًا عند انتخاب القيادات؛ مما غيَّر التوازنات، وسيؤثر في نتائج الانتخابات.

 

خامسًا: أن المؤتمر انعقد في ظل انقسام فلسطيني حاد بين فتح وحماس انعكس جغرافيًّا بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد خيم على المؤتمر غياب أعضاء الحركة من غزة بسبب منع حركة حماس لهم في إطار ضغطها المستمر لإطلاق سراح أكثر من ألف من أعضاء حماس المعتقلين في سجون "محمود عباس" والسلطة بالضفة الغربية.

 

ولم يبذل "أبو مازن" جهدًا حقيقيًّا لحضور هؤلاء الذين صبوا جامَّ غضبهم على قيادة "فتح" وليس على حماس.

 

وكيف يستجيب "عباس" لهذا الشرط البسيط؛ وهو الذي امتنع حتى الآن عن إطلاق سراح هؤلاء المقاومين الأبطال في الضفة؛ من أجل تحقيق تقدم في الحوار الذي ترعاه مصر من أجل "المصالحة الفلسطينية"، وإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني المزرية، ولعل الإغراءات الأمريكية والتهديدات الصهيونية هي المانع الحقيقي.

 

سادسًا: أن الطائرات الصهيونية ظلت تحلق في سماء "بيت لحم" فوق المؤتمر؛ لتذكر الحاضرين جميعًا بوطأة الاحتلال، وثقل الوجود الصهيوني الذي يخيم فوق أجواء المؤتمر، وما حوله للمرة الأولى، ويحدد سقف الحوار حول برنامج فتح الذي يرغب البعض في تغييره.

 

سابعًا: أن المؤتمر يأتي بعد خسارة فتح الكبرى في الانتخابات البرلمانية النزيهة والحرة لصالح حماس؛ مما يقتضي حساب قيادة الحركة والسلطة، وفي ظل أزمة مالية كبرى تعاني منها "فتح"، وسط اتهامات خطيرة بالفساد الذي استشرى في هيئات الحركة العليا واتهامات بشراء الذمم لصالح مجموعة معينة سيطرة خلال 20 عامًا مضت، على مفاصل "فتح"، ثم "السلطة"، وأخيرًا أرغم الأمريكان والصهاينة هؤلاء على قبول رجال من خارج فتح، مثل "سلام فياض" ورجاله؛ ليمسكوا بزمام الأمور المالية في نهاية عهد "عرفات"، وتوحشوا الآن ليمسكوا بالسلطة كلها تقريبًا، ويعزلوا قيادات فتح إلى الجانب الأمني فقط؛ ليقوموا بالمهام القذرة ومطاردة المقاومين من فتح؛ مثل كتائب شهداء الأقصى، ومن حماس والجهاد الإسلامي، وبقية الفصائل لتكريس الانقسام ولتزداد الاتهامات المتبادلة.

 

البداية الجديدة التي يتوقعها المتفائلون- وهم قليل- تكمن في ضخِّ دماء جديدة في الهيئات القيادية، واستمرار برنامج فتح التاريخي الذي أطلق الكفاح المسلح، ورفض الضغوط الأمريكية- الصهيونية.

 

المتشائمون- وهم كثر- من المراقبين لا يتوقعون تغييرات كبيرة، ويرون في المؤتمر تكريسًا لقيادة "محمود عباس" ومجموعته، وإقرارًا للنهج الذي رسمته القيادة التاريخية؛ وهو نهج أوسلو والمفاوضات، وبالتالي إضفاء شرعية تنظيمية على كافة الإجراءات التي تمت في غياب "المؤتمر العام"، وعزل الرافضين لأوسلو، بل عزل فتح الخارج التي كانت تمثل جسدًا تنظيميًّا كبيرًا لصالح سلطة أمنية تحمي الاحتلال في الضفة الغربية، وتحارب المقاومة في غزة، وتحتمي بالمظلة الدولية والأمريكية والصهيونية، وتتماهى مع النظم العربية المستبدة والفاسدة.

 

مشكلة حركة "فتح" هي نفس مشكلة السلطة الفلسطينية التي وصلت إلى طريق مسدود، ويُراد منها أن تتنازل عن ثوابت الشعب الفلسطيني من أجل استمرارِ الوضع البائس الذي وصلت إليه السلطة، وليس من أجل تحقيق آمال ولو محدودة للفلسطينيين، فلا دولة حقيقية بل "كانتونات" تفصل بينها حواجز أمنية صهيونية، ولا سيادة على الأرض والجو والمياه، بل استمرار للسيادة الصهيونية، ولا وحدة أراضي الدولة الفلسطينية، بل انقسام داخل الضفة الغربية نفسها، وليس فقط بين الضفة وغزة، ولا اقتصاد حقيقي قابل للنمو والاستمرار، بل اعتماد دائم على المعونات والمنح وتقوية الاقتصاد الصهيوني بمده بأيدٍ عاملة رخيصة.

 

باختصار شديد إذا أرادت "فتح" أن تبدأ بداية جديدة، فعليها أن تجيب عن سؤال محوري هو: هل يجب علينا الاستمرار في نهج "أوسلو" الذي ثبت فشله؟ أم علينا البحث عن بداية جديدة للمقاومة ضد الاحتلال؟ هل نستمر في تغطية سلطة أمنية تحولت إلى سوط في يد المحتل أم نفكر جديًّا في البحث عن مخرج، ولو بإلغاء هذه السلطة الوهمية؟

 

وليس الإجابة عن السؤال الآخر المخادع: كيف ولماذا خسرت فتح والسلطة معًا قطاع غزة؟

فالحقيقة أن المشكلة الأعمق هي أن فتح شردت كثيرًا عن منهاجها الأصلي وطريقها الصحيح، وبذلك فقدت ثقة الشعب الفلسطيني، وتكاد تفقد الوطن كله.

 

وإذا استمرت كذلك؛ فإنها سوف تخسر الملايين من الفلسطينيين خارج فلسطين في الشتات وداخل فلسطين في أرض 1948م، بل في الضفة الغربية نفسها ولو بعد حين.