سيظل يوم الخامس عشر من أكتوبر 2009م تاريخًا فاصلاً في سجل الصراع العربي مع الصهاينة، ففي هذا اليوم خاض العالم الثالث معركةً قاسيةً في مواجهة الولايات المتحدة وفرنسا والصهاينة في مجلس حقوق الإنسان؛ حتى يسير تقرير جولدستون لطريقه الطبيعي صوب إقرار العدالة في فلسطين ضد الصهاينة، وقد بذلت الدول الثلاث بالتعاون مع دول أوروبية أخرى قصارى جهدها لمنع المجلس من اعتماد التقرير.

 

وتشعبت هذه الجهود المضادة للتقرير إلى شعب متعددة، تراوحت بين الهجوم على التقرير، والهجوم على صاحب التقرير، والهجوم على حماس، وبين الضغط على الدول بشكل مباشر، فضلاً عن التهديدات التي وجهت إلى جولدستون وابنته؛ مما يظهر مدى تأثر الصهاينة بمخاطر هذا التقرير على أساس أنه يقرِّر أول مساءلة جنائية للقيادة الصهيونية، بعد أن دللتها واشنطن طويلاً، وقدمت لها الحماية من أي لوم أو نقد، بل إن التقرير وجلسة المناقشة قد أصابت الصهاينة بالذعر لأسباب أربعة:

السبب الأول: أن التقرير يكشف عن حقائق لم يفلح الصهاينة في إنكارها، فلجأت إلى تبريرها بنفس المبررات السقيمة التي مل المجتمع الدولي من سماعها.

السبب الثاني: أن محاكمة الصهاينة وقيادتها؛ كانت دائمًا المحك الأساسي لاختبار مصداقية العدالة الدولية؛ حتى ظنَّ الناس أن الصهاينة فوق مستوى الحساب.

السبب الثالث: فهو شعور الصهاينة بأن قدرة الولايات المتحدة على حمايتها قد تراجعت، وأن المجتمع الدولي يستطيع أن يعمل ضد الرغبات الأمريكية، وهذا مؤشر خطير عند الصهاينة التي اعتمدت دومًا على قدرة القطب الدولي على التستر على جرائمها، وقدرة جيشها على ارتكاب كل الجرائم، بزعم أنه الجيش الذي لا يقهر؛ خاصة أنه توالت انتكاساته، وظهرت الكثير من أزماته.

السبب الرابع: هو شعور الصهاينة بالقلق من اكتشاف العالم لحقيقتها الإجرامية، وظهرت أمامه بصورتها الحقيقية، فلم يعد إعلامها أو دبلوماسيوها قادرين على تسويق الصورة القديمة.

 

والمعلوم أن هذه الحالة النفسية التي فوجئ بها الصهاينة قد ظهرت عقب محرقة غزة، وبداية الحملة الدولية ضد الصهاينة، والتي قادتها منظمات أوروبية، بل إن جولدستون يهودي متعاطف مع الصهاينة، كما أن ممثل لجنة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية البروفيسور ريتشارد فولك، هو أيضًا يهودي؛ ما أدَّي إلى شقاق بين الصهاينة وبين عدد من أبرز الرموز اليهودية في العالم؛ ما يهدد زعمها بأنها تمثل يهود العالم جميعًا، كما أن اتساع الحملة ضدها يؤدي إلى سقوط الخطوط الحمراء التي حصنت بها سياساتها، ومحرقة اليهود في ألمانيا بين محاولات البحث والتنقيب.

 

وفي هذا المقال كنا قد اقترحنا تشكيل لجنة دولية للتحقيق في محرقة اليهود في ألمانيا؛ حتى ينال كلٌ حقه على الأقل في السجلات التاريخية.

 

أما المسار القانوني لتقرير جولدستون، بعد انطلاقه من مجلس حقوق الإنسان؛ فهو يستحق التنويه، ولكننا قبل ذلك يجب أن نشير إلى أن أعضاء المجلس لم يكترسوا بالمبررات البالية التي ساقها مندوب الصهاينة والأمريكان، بل أحزننا أن تستميت واشنطن في عهد أوباما في حماية المجرمين الصهاينة من العقاب، وكان حريًّا بأوباما، وقد نال جائزة نوبل قبل الجلسة بأسبوع؛ أن تعمل واشنطن على أن إقرار العدالة الجنائية هو وحده الطريق إلى السلام العادل، وأن السكوت على جرائم الصهاينة لا يمكن أن يكون مقايضة على مبادرة السلام الأمريكية التي أثبتت عجزها أمام توحش الصهاينة؛ لذلك لم يكترث أحد في مجلس حقوق الإنسان بالدفوع التي أبداها المندوبان الصهيوني والأمريكي، والتي تركز على أن تعقب المجرمين الصهاينة سوف يعيق عملية السلام المزعومة.

 

وقد أوصى التقرير بأن يُحال إلى مجلس الأمن، وأن تعطي كل من الصهاينة وحماس مهلة لمدة ستة أشهر؛ لكي يحقق كل طرف فيما ورد في التقرير، ثم يقوم المجلس بالبحث في أمرين:

أولهما: النظر في فرض عقوبات على الصهاينة.

وثانيهما: إحالة ملف المحرقة إلى المحكمة الجنائية الدولية.

 

وقد كان لافتًا للنظر في هذا السياق تصريحات رئيس وزراء الصهاينة الذي أصرَّ على تبرير الجرائم، وتعهَّد بالعمل على حماية المجرمين الكبار في القيادة السياسية والعسكرية من الملاحقة الجنائية؛ فكيف يُحال التقرير إلى قضاء، أمرت قيادة الدولة فيه بشن هذه العمليات، وكرَّمت القائمين بهذا العمل الإجرامي وأيديهم ملطخة بالدماء على أنهم أبطال شجعان، يتحلون بأعلى قدر من الأخلاق.

 

وإذا كانت تلك هي الأخلاق الصهيونية؛ فماذا نتوقع من قضاء دولة قامت أصلاً على إبادة الفلسطينيين، واغتصاب أراضيهم.. بزعم أنها أراضي الأجداد.. لكل ذلك؛ فإنني أرجو أن يدفع بتقرير جولدستون مباشرة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ حيث يجد ما يستحق من العناية، بحيث تستطيع الجمعية أن تحيل التقرير إلى المحكمة الجنائية الدولية، بحيث يتمكن المدعي العام من ممارسة سلطة التحقيق في جرائم الصهاينة، بموجب صلاحياته في المادة 15 من نظام روما، كما تستطيع الجمعية العامة أن تنظر في فرض عقوبات على الصهاينة، وفي هذه الحالة؛ فإن المناخ السياسي العام المناهض للصهاينة سوف يدفع إلى منح قرارات الجمعية العامة درجة أعلى من الإلزام؛ بسبب الوظيفة الأخلاقية التي تقوم بها الجمعية في هذه الحالة.

 

ومن الواضح أن هذه الإجراءات إذا اتخذت ضد الصهاينة؛ فإنها سوف تُحدث أثرًا نفسيًّا عنيفًا على القيادة الصهونية، وتنقل رسالة واضحة إلى زعماء الصهاينة بأن المجرم حتى لو كان الصهاينة لن يفلت من العقاب، وأن الصهاينة لم تعد تستطيع أن تتخفى وراء صورة الحمل الوديع ضحية الوحشية العربية التي تدعيها، وهذا المناخ هو أكبر خدمة يقدِّمها المجتمع الدولي للسلام في فلسطين، بعد أن أدَّى التدليل الأمريكي للصهاينة إلى حالة العربدة التي تقوم بها، والاستعلاء على أي سلام مع العرب، ولم يعد بوسعها أن تستمتع بقتل الفلسطينيين دون معقب.