على مصر تقديم رؤيتها الشاملة

في محاولات مستميتة وجهود فاشلة؛ يحاول "محمود عباس" أن يرمِّم علاقته الخطيرة مع مصر، بعدما أصابها من تصدع شديد؛ بسبب ما حدث مؤخرًا بشأن تقرير القاضي "جولدستون"، والموقف المخزي الذي لم يعتذر عنه حتى الآن، والذي لن تنساه مصر حتى ولو تمَّ إقرار التقرير مؤخرًا؛ لأن ما حدث من تأجيل إقرار التقرير في المرة الأولى كان كاشفًا عن تحالفات عباس، وانحيازه، وإهماله لمصر والعرب.

 

لقد تسبب- من حيث يدري أو لا يدري- أبو مازن في تسجيل نقاط عديدة لصالح حركة حماس، وبقية الفصائل المقاومة في توقيت حرج وقاتل لمصيره السياسي، بعد أن تصور أنه أحكم قبضته على مفاصل حركة "فتح"، وعلى منظمة التحرير الفلسطينية.

 

كان القرار المنفرد بإيعاز من سماسرة وتجار القضية الفلسطينية والحلقة الضيقة من حوله، وتغييب "فتح" و"المنظمة"؛ حتى في شكلها الجديد الموالي له بتأجيل التصويت المضمون على التقرير في مجلس حقوق الإنسان، والذي شكَّل إنقاذًا عجيبًا للعدو الصهيوني من إدانة قوية وصريحة؛ ما يعرضها للمؤاخذة والمساءلة أمام كل المنابر الدولية، ويضع قادتها السياسيين والعسكريين في دائرة الاتهام أمام المحكمة الجنائية الدولية.

 

ثم أتبع ذلك القرار الشاذ الذي كشف عن تواطئه مع العدو بالتصريحات الموحية بأن مصر ودولاً أخرى شاركت في التشاور حول القرار؛ ما أدَّى إلى غضب مصري وتصريح قوي بأن مصر فوجئت ولم يشاورها أحد.

 

ثم تأتي التحركات البهلوانية بالتوقيع المنفرد على الوثيقة المصرية، وإخراج ذلك في حركات مسرحية، وكأنه يريد حشر حماس في الزاوية، ويظهرها وكأنها هي التي تفسد الجهود المصرية وليس قراره المنفرد المنحاز للعدو.

 

لقد كسبت حماس رغم كل الظروف الصعبة التي تحيط بها في الجدل الدائر حاليًّا ثقة مصرية؛ بسبب تصرفات "أبو مازن" والزمرة المحيطة به، والتي كشفت بوضوح أن "محمود عباس" أصبح لا يلقي بالاً لمصر ولا للعرب ولا للأمة المسلمة ولا للرأي العام الدولي ولا للرأي العام الفلسطيني وفصائله كافة، وحتى لا يعبأ ويهتم بحركة "فتح" نفسها، وتنوع الآراء داخلها ولا قطعًا لمنظمة التحرير الفلسطينية.

 

إنه يهتم فقط بمكالمة تأتيه من "باراك أوباما" تحمل وعيدًا في صورة الرجاء، أو يهرع إلى تنفيذ المطلوب منه بعد تهديد "نتنياهو" أو "ليبرمان" الذي يهدِّد بصفاقة من يجد حليفه الفلسطيني محشورًا في زاوية الاتفاق الجنائي على تدمير غزة، وحصار أهلها، وذبح نسائها وأطفالها، وتجويع رجالها وشيوخها.

 

إذن كشف موقف "عباس" عن حقيقة تحالفاته السياسية ومشروعه الفلسطيني الذي يقوم على إلغاء المقاومة تمامًا، والابتعاد عن العرب وقيودهم السياسية، والسعي للحصول على أدنى المكاسب من العدو الصهيوني، مع التخلي عن كل الثوابت الفلسطينية في حق العودة، وسيادة الدولة الموعودة على الأرض والمياه والتسليم لليهود بما يريدونه في القدس، وذلك تحت وهم أنه إذا لم نحصل الآن على أي شيء فلن نحصل في المستقبل على أي شيء، فهناك عجز تام وتشاؤم كامل يسيطر على تفكيره وقراره، بينما تحوّل من حوله إلى رجال أعمال يتاجرون في أي شيء وكل شيء من أجل مصالحهم الشخصية فقط.

 

الآن بعد أن انكشف "عباس" ومشروعه السياسي أمام مصر في لحظة تاريخية فارقة، بينما هي تسعى بكل جهدها من أجل جمع الشمل الفلسطيني، وتحقيق المصالحة الوطنية المأمولة؛ يجب على مصر نفسها أن تراجع نفسها، وتقدّم رؤية من أجل القضية الفلسطينية، وليس من أجل مجرد المصالحة حتى ولو كانت المصالحة مطلوبة لذاتها أولاً، ولإعادة إعمار غزة ثانيًا، ولرفع الحرج الذي تسببت به حرب غزة عن مصر التي حرص العدو وعباس على إظهارها، وكأنها مشاركة في العدوان والحصار أو على الأقل صامتة ومتواطئة.

 

لقد قدَّمت مصر الكثير من التضحيات من أجل فلسطين، بل في الحقيقة من أجل مصر نفسها، لقد كان الدور المصري والسوري عبر التاريخ من أجل الحفاظ على الأمن القومي العربي في شموله؛ وهو في ذلك الوقت يترجم الآمن القومي المصري كدولة قائدة ورائدة في محيطها الإسلامي والعربي؛ حتى ولو تراجع ذلك إلى حين، فهذا قدرها.

 

تتعالى الأصوات في الساحة الفلسطينية اليوم من أجل مراجعة شاملة لقضية المصالحة الوطنية، وفي أي إطار تأتي، وما التوقيت المناسب لها؟

 

وبات واضحًا أن "محمود عباس" وفريقه الموالي له داخل السلطة وفتح لا يريد من المصالحة إلا التوقيع عليها، ثم احتفالية أو بدون احتفالية لإنقاذ ماء وجهه، ولن ينفذ من المصالحة إلا إجراء انتخابات جديدة في ظل هذه الأجواء المشحونة، والتي قد تتفاقم ويستعيد بها جزءًا من شرعيته المتآكلة، ولن ينفذ أية ضمانات جادة لكفالة نزاهة الانتخابات، ويكفيه تزويرها في الضفة الغربية أو إرهاب الناخبين والمرشحين؛ لكي يصبح معه أغلبية برلمانية زائفة، يوقع بها وعن طريقها مع العدو في إطار مشروعه السياسي الخاص، وفي غياب العرب والفلسطينيين؛ ليضع الجميع أمام أمر واقع جديد، كما وضعهم من قبل باتفاق أوسلو، بعد أن زيّن لعرفات وللمنظمة في أعقاب حرب الخليج الثانية التي دمرّت العراق، وحاصرته بالتوقيع على الاتفاق الذي ثبت فشله وهي سياسة الهروب إلى الأمام.

 

اليوم تنادي أصوات فلسطينية من دمشق ورام الله بضرورة إنجاز برنامج سياسي ورؤية سياسية شاملة قبل التقدم إلى المصالحة والاتفاق؛ كي لا تتكرر نفس نتائج اتفاقات القاهرة ومكة.

 

مصر التي ترعى المصالحة والاتفاق؛ عليها أن تحسم أمرها: هل هي تؤيد المقاومة الفلسطينية المشروعة أم تعتبرها، كما يقول "عباس" خارجة على القانون، ويدمغها بالصبيانية، وأحيانًا يصفها بعض من حوله بالإرهاب، لولا بقية خجل لصرحوا بذلك علانية.

 

على مصر أن تقول بملء فِيها أن اتفاقا فلسطينيًّا- صهيونيًّا، من وراء ظهرها، أو من وراء ظهر العرب والمسلمين، لا يحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية لن توافق عليه، ولن تقره وستقف مع الشعب الفلسطيني؛ حتى يسترد كافة حقوقه المشروعة.

 

على مصر أن تكشف أوراقها، وأن تتخلى عن هواجسها الأمنية تجاه المقاومة الفلسطينية؛ خاصة "حماس" و"الجهاد"، وأن ترى كيف تعمل السياسة الأمريكية لنزع أي أوراق ضغط لدى العرب والمسلمين في صراعهم مع العدو الصهيوني، في إيران وفي باكستان، وفي تركيا، وفي سوريا، وفي فلسطين نفسها عبر الجنرال "كيث دايتون" المقيم في تل أبيب أو المبعوث "ميتشل" الذي أعلن مؤخرًا تحفظاته على المصالحة الفلسطينية التي ترعاها مصر؛ لأن أي حكومة لا تقر بشروط الرباعية، ولا تعترف بالعدو الصهيوني لن تتعامل معها أمريكا.

 

إذن هذه المصالحة في مهب الريح إلا إذا كان المطلوب هو حشر حماس في الزاوية، وهذا لن يتحقق؛ لأن "حماس" رقم صعب في فلسطين كلها (غزة والضفة والشتات)، ولها تأييد قوي في أرض 1948م، وفشلت كل المحاولات المستميتة لشطبها من المعادلة، بل ازدادت قوة بثباتها على مبادئها وصمودها في مواقعها وإدارتها لمعاركها السياسية بذكاء شهد به خصومها.

 

إذن هذه اللحظة التي خسر فيها "عباس" نقاطًا عديدةً مع مصر، وانكشف فيها أمام الرأي العام المصري والعربي والدولي؛ حتى إن أنصار العدو الصهيوني يطالبون قادته بمحاولة للتحقيق في الجرائم التي حواها تقرير "جولدستون" للالتفاف على المحكمة الجنائية الدولية، وكسبت حماس مصداقية أمام الجميع، والتف حولها رأي عام فلسطيني عارم وغاضب ضد "عباس" وزمرته، هذه هي اللحظة المناسبة لإجراء مراجعة شاملة للموقف المصري؛ حتى لا يورطنا عباس والمتاجرون بالقضية الذين يبيعون دماء الشهداء بثمن بخس في ورطة تاريخية.

 

أحباب غيَّبتهم الأسوار

إذا كان الموت هو الموتة الكبرى، ولا لقاء بعده إلا أمام الله يوم البعث والنشور، ثم في جنات النعيم بعد حياة البرزخ التي تلتقي فيها الأرواح، وتتساءل عن الغائبين: هل ذهب بهم إلى الهاوية؟

 

وإذا كان النوم هو الموتة الصغرى؛ كما أخبر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يتذكر به الإنسان أنه سينام مرة فلا يقوم، وبالتالي يحمد الله تعالى أن أعطاه مهلة للتوبة والعمل الصالح؛ فيقول مستبشرًا: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور".

 

فإن السجن هو غيبة للأحباب قد تطول وقد تقصر، يذكرنا أيضًا بنفس المعاني؛ فهو فرصة للاستعداد للقاء الله، وللمراجعة الأمينة مع النفس، ولا أنسى خاطرة لشاب دخل معنا السجن لأول مرة في حياته، وقف يتحدث أن الزيارة من الأهل تذكره بزيارتهم الأموات في القبور، عندما يأتون ويبكون ثم يودعون أحبابهم آسفين على أمل اللقاء بعد حين.

 

وإذا كان الموت له مقدماته المعروفة في الغالب من مرض أو شيخوخة، وقد يأتي فجأة؛ فإن السجن في مصر والبلاد الديكتاتورية يأتي في الغالب فجأة ودون مقدمات.

 

وعندما كنا نعدّ للقاء تضامني في إطار فعاليات نقابة أطباء مصر مع المعتقلين والمحبوسين من الأطباء، وصل العدد إلى رقم لا أظنه مسبوقًا من الزملاء، وحضر معنا أعزاء سبقوا كنزلاء على السجون المصرية، وإذا بنا بعد بضعة أيام نفتقدهم من جديد؛ ليحلوا رغم المرض والأعباء على السجن نزلاء.

 

كانت مفاجأة أن يتم اعتقال الأخوين الكريمين الطبيبين د. محمد أحمد عبد الغني ود. عمر أحمد عبد الغني من بيوتهما بليل في أعقاب مظاهرات الإخوان بمحافظة الشرقية لنصرة المسجد الأقصى، رغم أنهما لم ينضما إلى المتظاهرين من الشباب!!

 

بذلك ينضم الأخوان إلى قافلة من الدعاة والأحباب، غيَّبتهم السجون المصرية من برج العرب في أقصى شمال مصر إلى وادي النطرون إلى منطقة سجن طرة وسجن المرج، وغيرها من المعتقلات، ارتفع عددهم مؤخرًا إلى قرابة الأربعمائة، ويزداد مع مرور الأيام؛ حيث يكثر الوارد، ويقل المفرج عنهم في سياسة أمنية ظالمة.

 

ما آلمني أكثر هو أن الأخوين محمد وعمر مريضان بالقلب، ودخلا مستشفى دار الفؤاد أكثر من مرة وقلب د. محمد يعمل بطاقة تقل عن 30% من طاقته الفعلية، وكان سبب تدهور حالته الصحية آخر مرة اعتقل فيها؛ حيث تعرَّض لبرد شديد في حجز الزقازيق، ثم سجن وادي النطرون؛ ليخرج بقلب عليل عضويًّا سليم إيمانيًّا قوي العزم.

 

ويزداد الألم من قسوة ووحشية المسئول الأمني الذي أمر باعتقالهما، وهو يعلم أن الشقيق الثالث لهما رهن السجن منذ قرابة ثلاث سنوات؛ وهو المهندس أيمن عبد الغني الذي حكم عليه في القضية العسكرية الأخيرة، وبالتالي تخلو بيوت الأشقاء الثلاثة من الرجال باستثناء أحمد بن محمد عبد الغني الذي في طور الشباب، ولا يقدر على تحمل مسئولية 3 بيوت، وبجانبه أم مكلومة لغياب أبنائها الثلاثة وزوجات ثلاث يتحملن بشجاعة مسئولية الأولاد الذين تعودوا على غياب الآباء.

 

وهكذا يغيب عنا رجال كرام وفوارس نبلاء؛ مثل الأخ الكبير د. عبد المنعم أبو الفتوح الذي أثقله المرض، وينتظر قرارًا سياسيًّا بإخلاء سبيله، ولو عن طريق الاستئناف في قرار حبسه الاحتياطي.

 

وتشكو النقابة العامة للأطباء وفروعها غياب كوادرها القلائل الذين يحملون عبء العمل النقابي الآن؛ مثل د. أشرف عبد الغفار ود. جمال عبد السلام ود. حمدي عبيد ود. محمد سعد عليوة ود. إبراهيم مصطفى وكثير من الإداريين الذين حجبتهم الأسوار مثل م. علي عبد الفتاح وغيره، ولا أدري أهي خطة موضوعة لإفشال نشاط النقابة وفروعها التي صمدت في وجه تعطيل الانتخابات لمدة أكثر من 15 سنةً؟!

 

وهناك أحباب يمثلون رموزًا للإخوان يلتف حولهم الشعب في أماكنهم ودوائرهم مثل د. ناجي صقر ود. توكل مسعود ود. جمال حشمت، وكثيرين غيرهم أطباء وغير أطباء، يظن الأمن أنه باحتجازهم سوف يفسد على الإخوان إمكانية ترشيحهم لأي انتخابات.

 

وينسى هذا المسئول الأمني أن الإخوان قدَّموا دائمًا وجوهًا جديدة في كل انتخابات منذ عام 87 وحتى يومنا هذا، وأن هذه الجماعة حريصة على أن تثبت دائمًا أن رموزها ليسوا طلاب مناصب أو مواقع، وأن قدرتها على تقديم وجوه مشرقة دائمًا لا تتوقف، ورغم غياب نواب 87 أو 2005م عن المجلس الحالي إلا أن أداء نواب الإخوان كان جيدًا؛ لأن الخبرات إذا كانت لا تتراكم فهي تتوارث؛ ولعل تلك الخطة الأمنية تفيد الإخوان من حيث لا يحتسبون.

 

لا يمكن أن نغفل الأحباب الذين بلغوا من السن مرحلة تجعل حريتهم مسئولية الأمن الذي يعتقلهم، بعد أن تجاوزوا الستين والسبعين، وأثقلتهم الأمراض والشيخوخة؛ فماذا ينتظر منهم هذا المسئول الأمني الذي يصرّ على اعتقالهم؟ أينتظر ضعفًا أو خورًا، هذا بعيد أو محال، فلماذا يتحمل مسئولية تعذيب هؤلاء بسجنهم؛ لأن مجرد اعتقالهم هو تعذيب في هذه السن الكبيرة.

 

أما الأحباب الذين أمضوا فترة السجن واقتراب لحظة خروجهم؛ فيكفي أن يتحمل عبء الإفراج عنهم بحكم القضاء عند بلوغ ثلاثة أرباع المدة مسئول أراد أن يكبل حريتهم بالقيود، فأطلق أرواحهم في عالم الملكوت، وحان وقت خروجهم دون منَّة من أحد لا تحمل نفوسهم ضغينة لبشر، وإن ضعفت أجسادهم بسبب تكالب الأمراض، فقد قويت عزيمتهم على المضيّ في طريق الدعوة المباركة، من أجل الإصلاح والتغيير، وسيكونون- كما كان من قبلهم- قدوة للأجيال في التضحية والثبات إن شاء الله.