لا يقتصر المغزى فقط من وراء العمليات الاستشهادية الخمس الأخيرة التي أوقعت 12  قتيلاً صهيونيًا وعددًا كبيرًا من الجرحى والإصابات الأخيرة على أن الشعب الفلسطيني قد توفرت له خبرات عبر وقت طويل تمكنه من الاستمرارية في الدفاع عن حقوقه فحسب ولكنها أيضًا وضعت حدا للوهم بأن انتفاضة الأقصى انتهت أمام مواجهة الكيان الصهيوني لها مثلما تحقق إزاء الانتفاضة الكبرى أوائل التسعينات.
لقد بدأت هذه العمليات بهجوم استشهادي ضد المستوطنين في الخليل قبل أول اجتماع علني بين "شارون" و"أبو مازن" (السبت: 17/5 ) وانتهت بعد ذلك بيومين بعملية نفذتها فتاة فلسطينية في مدينة العفولة شمال فلسطين المحتلة، وإذا كانت حركة حماس قد استأثرت بأربع عمليات استشهادية فإن الملاحظ أن حركات المقاومة الأخرى قد شاركتها في رحلة الرد على الاجتياحات والمجازر الصهيونية الأخيرة.
حيث نفذت حركة الجهاد الإسلامي آخر العمليات الاستشهادية الخمس واستمرت في عمليات القنص التي تستهدف جنود جيش الاحتلال كما شاركت لجان المقاومة الشعبية التابعة لحركة فتح في عمليات إطلاق صواريخ قسام2  مع كتائب عز الدين القسام، الموجهة ضد مدينة سديرون الصهيونية.
وقد كشفت هذه العمليات حقيقة أن الاستشهاديين دائمًا يخترقون نظرية الأمن الصهيوني فتزداد وتيرة العمليات مع تزايد الاجتياحات والمجازر الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني بمعنى أنها كشفت عجز دولة الاحتلال الصهيوني وهو ما أكده حشد من المقالات في الصحف العبرية التي وجهت انتقادات مباشرة للسفاح "أرييل شارون" -سياسته المبهمة أو المأزق الذي يعيشه- حسب ما جاء في الصحف العبرية، وقد اختتم المعلق السياسي في صحيفة ها آرتس "ألوف بين" مقاله بتوجيه السؤال المباشر لشارون، قل لنا إلى أين المسير، ورغم ذلك فضل شارون عدم إتمام زيارته لواشنطن ليس كما يقول البعض لأن الإدارة الأمريكية ستطلب منه اتخاذ تدابير إنسانية تعمل على تسهيل مهمة "أبو مازن" خاصة وأن كثيرين داخل هذه الإدارة يريدونه تمامًا في سياساته الأمنية القائمة على التصعيد المستمر للعنف واستعمال القوة، ولم يتردد بعضهم في القول بدخول الولايات المتحدة كطرف مباشر في الحرب على فصائل المقاومة الفلسطينية.
وعاد شارون إلى نفس الموقف الذي عرضه للانتقادات الشديدة في الصحافة الصهيونية حيث طالب "أبو مازن" بالعمل على وقف الإرهاب وجمع السلاح، وضرب البنية التحتية لفصائل المقاومة، وأعلن أنه لن يتورط في إجراء مفاوضات سياسية مع أبو مازن وستتركز الجهود بينهما على المسائل الأمنية، وبالرغم من وضوح الجانب الصهيوني في مطالبه وما سوف يقدمه في مقابل دخول حكومة أبو مازن في مواجهة مع الفصائل تطبيق خطة الطريق خاصة فيما يتعلق بجوانبها السياسية فإن الولايات المتحدة تدخلت من خلال الرئيس الأمريكي ذاته الذي اتصل شارون، وإن كان هذا لم يوار حقيقة هامة وهي أن بوش اتصل هاتفيًا بقادة المنطقة مطالبًا بدعم خطة الطريق، فيما يتعلق بالشق الأمني ومحاربة الإرهاب،
وهذا لا يعني سوى أن الأمريكيين الذين وافقوا على 12 تعديلاً صهيونيًا من بين 15 تعديلاً قدمها الصهاينة على خطة الطريق لم يتجهوا للضغط على الجانب الصهيوني لوقف تصعيداته ومجازره بل وأقروه على ذلك وذهبوا في اتجاه مغاير لدفع الحكومات العربية على التعاون مع حكومة شارون ولعل ذلك يجد تفسيره في أن الأمريكيين يأملون في أن وتيرة العمليات الاستشهادية ستتجه للهبوط مع استئناف الاجتماعات والتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال مع ضغوط إقليمية على حركات المقاومة.
بعبارة أخرى: فإن الطرفين الأمريكي والصهيوني يريدان تصدير المشكلة للخارج مع أنها بالأساس مشكلة احتلال يساعدها في ذلك الوضع العربي الراهن الذي يزداد تراجعًا.
من جهة أخرى فإن ما طلبه "شارون" من "محمد دحلان" من إطلاق النار على 25 فردًا من حماس أثناء عملية اعتقالهم وما تركز عليه حكومته من أن "عرفات" هو السبب الرئيسي لإشعال فتيل العنف وعرقلة مهمة "أبو مازن" يعني أن الصهاينة مستمرون على نهج واحد من وضع عراقيل وشروط تسبق أي مرحلة تفاوضية ويأتي ذلك في إطار سياسة صهيونية قال عنها "شارون" قبل 12 سنة أن المشاركة في أية مفاوضات يجب أن تفتح الباب أمام مرحلة من المفاوضات لتمتد عشر سنوات دون الوصول إلى نتيجة. وعملية أوسلو نموذج صهيوني للتفاوض على الطريقة الصهيونية الأمريكية؛ حيث عاد الكيان الصهيوني إلى التفاوض مرارًا وتكرارًا على قضايا تم التفاوض عليها أصلاً، وأيضًا دون الوصول بالفلسطينيين إلى أي نتائج صالحهم.
هذا النوع من التفاوض قد أصبح الإستراتيجية المفضلة من جانب الكيان الصهيوني بعد أن مكنه من الاستيلاء على المزيد من الأرض والموارد في زمن السلام متواكبًا ذلك مع مواصلة اتهام السلطة الفلسطينية بالعجز، وأنها لا تستحق الجلوس إلى طاولة التفاوض قبل أن تقضي على الإرهاب.
وحتى في حالة نجاح الحكومة الفلسطينية في إسكات المقاومة عبر سبل مختلفة مثل التوصل إلى هدنة أو وقف تكتيكي للعمليات من جانب المقاومة أو – وهذا أسوأها – استهداف "أبو مازن" و"دحلان" لعناصر المقاومة بالاعتقال والقتل من خلال التعاون مع الكيان الصهيوني فإن الصهاينة لا يلتزمون شيئًا مسبقًا بل في هذه الحالة ستبرز شروط المرحلة التالية: التنازل عن حق العودة، عدم إثارة قضية القدس، قبول الفلسطينيين المستوطنات، أو حدود مؤقتة أو الدخول لمفاوضات حول إمكانية قيام دولة بدور مؤقت.
ولكن ماذا عند حكومة "أبو مازن" لمواجهة هذا الواقع؟ تشير التجربة إلى إمكانية الالتقاء بين السلطة وفصائل المقاومة من خلال التوصل إلى اتفاق بينهما يؤدي إلى استثمار الدماء الفلسطينية سياسيًا بما يقابل الضغوط الأمريكية الصهيونية لضغوط فلسطينية لكن حكومية "أبو مازن" التي لا تحظى برضا شعبي فلسطيني، وإن كانت تقول أنها لا تسعى إلى صدام مع المنظمات الفلسطينية التي تنفذ عمليات استشهادية ضد الكيان الصهيوني، فإنها تعاني من الاضطراب حاليًا.
فهي من ناحية تحدد اتصالاتها مع الأطراف العربية من أجل استئناف الحوار الفلسطيني–الفلسطيني الذي يهدف إلى التوصل إلى هدنة معلنة من جانب الفصائل الفلسطينية تساعد الحكومة على تقديم وصوغ مطالب للطرف الصهيوني تتعلق بضبط النفس من جانب جيش الاحتلال وتخفيف الحصار على الشعب الفلسطيني.
وهي من ناحية أخرى تطمح إلى الانفصال عن الرئيس "عرفات" والاستئثار بالقرار الفلسطيني وتقترب في الوقت نفسه من الرؤية الصهيونية الساعية إلى فرض الهدوء بالقوة ميدانيًا على الفصائل الفلسطينية بحجة نزع عسكرة الانتفاضة، وتوحيد الموقف الفلسطينية أمنيًا وسياسيًا وراء القيادة الفلسطينية الجديدة.
ولم يعرف حتى الآن إلى أي الخيارين ستنحاز الحكومة الفلسطينية؟ وهل ستنجح الضغوط الأمريكية والصهيونية في أن تتجه إلى المواجهة مع الفصائل بدلاً من الحوار معها من أجل هدنة؟ ويبدو أن هذه القيادة ربما تتجه إلى تطبيق الرؤية الصهيونية التي تقضي برفض الهدنة والوقف التكتيكي للنار والسعي لنزع أسلحة المقاومة بالقوة.
والدليل على هذا أن السلطة كررت إدانة العمليات الاستشهادية – حيث جاء في تصريح وزير الإعلام الفلسطيني "نبيل عمرو" أن الحكومة الفلسطينية جادة في العمل على وقف مثل هذا النوع من العمليات، لكنها بحاجة إلى الأجواء المناسبة لتنفيذ استحقاقاتها في الخطة المطروحة، (خطة الطريق) وإن كانت هذه الإدانة أصبحت سلوكًا معتادًا لدى السلطة التي تحاول تغطية موقفها بالقول أنها تقصد إدانة استهداف المدنيين من الطرفين.
ولكن هناك إشارات أخرى تفسر مغزى الإصرار الأمريكي والصهيوني على تعيين "أبو مازن" وعناصر فلسطينية أخرى في الحكومة الفلسطينية الجديدة لعل منها ما جاء في المكالمة الهاتفية بين "بوش" و"أبو مازن" حيث كرر الأخير أنه ينوي وقف الإرهاب ووصف "آري فلايشر" المتحدث باسم البيت الأبيض هذه المكالمة بأنها وردية تدفع للأمل، ومنها أيضًا أن "محمد دحلان" أثناء اجتماع شارون-أبو مازن طلب من الصهاينة التعاون من أجل إعادة بناء الأجهزة الفلسطينية، وتابع: أنا اقترح أن تكفوا عن الادعاء بأننا قادرون على لجم العمليات، ولكنكم قضيتم على 80%  من قوة أجهزتنا الأمنية في غزة  100% في الضفة، عليكم أولاً أن تنسحبوا أو تعطونا نفسًا سياسيًا ومعنويًا للعمل وعندها نبني أجهزتنا من جديد ونعمل.
وأمام هذا الواقع الذي يشهد سعيًا صهيونيًا لفرض المفهوم الصهيوني للسلام لم تقصد المقاومة إحراج الحكومة الفلسطينية الجديدة، كما ترى بعض عناصر هذه الحكومة، وإنما إيصال رسائل لمن يهمه الأمر من الأمريكيين والصهاينة أولها أن وأد المقاومة أمر غير ممكن دون الحصول على دولة فلسطينية وعاصمتها القدس وأن أعمال المقاومة سوف تتزايد ردًا على تصعيد الجرائم الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني.
وهذا يعني أن العمليات الاستشهادية تعد وسيلة كفاحية وليس غاية في حد ذاتها وقد استأنفت المقاومة هذا النمط من الأعمال العسكرية ردًا على المجازر والقتل الصهيوني وإصرار حكومة "شارون" على استعمال العنف والإرهاب والاستمرار في الاستعمار الاستيطاني وكذلك إعلانها شن الحرب على الحركة الإسلامية داخل فلسطين 1948  الأمر الذي تم ربطه بمساعي اليمينيين الصهاينة السيطرة على الحرم القدسي والسماح لليهود للدخول إلى باحة المسجد الأقصى.
أما ثاني هذه الرسائل فتتعلق بالخطط الأمريكية الصهيونية التي تريد جر الشعب الفلسطيني للجري وراء أوهام جديدة وأنفاق سنوات طويلة أخرى في المتاهات بينما يعمل الصهاينة على فرض الحقائق على الأرض فخريطة الطريق تشبه خطط ومبادرات سابقة لميتشل وتينيت وزيني لا تتضمن آليات للتنفيذ وتفتقد للعامل الزمني والوضوح، ولم تحسم القضايا الشائكة بين الجانبين بصورة واضحة، وهدفها الأساسي هو وقف الانتفاضة.