رسَّخت المسلسلات والأفلام الدينية صورة المؤمن أو المتدين في وجدان العامة بالرجل الذي لا حول له ولا قوة، ينظر دائمًا إلى السماء، ويتقعر في اللغة، ولا يحرك ساكنًا في مواجهة الأحداث، معتمدًا على نصر الله الذي لا بد آتيه.... إلخ.

 

غير أن تاريخنا في عصور نهضتنا وتقدمنا؛ زاخر بأمثلة فذة لرجال سخروا الأحداث لأهدافهم في ذكاء وبطولة، وما موقف سيدنا نعيم بن مسعود يوم الأحزاب مشهورًا معروفًا.

 

ومن المواقف الطريفة الذكية موقف الحجاج بن عِلاطٍ السُّلَمِي، وذلك أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر؛ فأسلم ولم تعلم قريش بإسلامه؛ فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يصير إلى مكة، فيأخذ ما كان له من مال- وكانت له أموال متفرقة هناك وهو رجل غريب بينهم- فأذن له النبي.

 

فقال: يا رسول الله إني أحتاج أن أقول- أي على جهة الاحتيال-.

 

قال صلى الله عليه وسلم: "فقل"، فصار إلى مكة.

 

فقالت قريش: هذا لعمرُ الله عنده الخبر.

 

قال: فقولوا.

فقالوا: بلغنا أن القاطع- يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم البار الواصل رحمه- قد خرج إلى أهل خيبر.

 

قال الحجاج: نعم! فقتلوا أصحابه قتلاً لم يُسْمع بمثله، وأخذوه أسيرًا، وقالوا: نرى أن نُكارِم به قريشًا؛ فندفعه إليهم؛ فلا تزال لنا هذه اليد في رقابهم، وإنما بادرتُ لجمع مالي؛ لعلي أصيبُ به من فَلَّ محمد وأصحابه- يريد من الغنائم- قبل أن يسبقني إليه التجار، ويتصل بينهم الحديث.

 

فاجتهدوا في أن يجمعوا إليه ماله أسرع جمع، وسُرُّوا أكثر السرور، وقالوا: بلا رُغم!

 

وأتاه العباس بن عبد المطلب وهو كالمرأة الوَالِه، فقال: وَيحك يا حجاج! ما تقول؟

 

فقال: أكاتم أنت عليّ خَبَري؟

 

فقال: إي والله.

 

فقال: فالبَثْ عليّ شيئًا حتى يخفّ موضعي.

 

ثم سار إليه، فقال له: الخبر والله على خلاف ما قلتُ لهم؛ خلَّفْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فتح خيبر، وخلّفته والله مُعْرِسًا بابنة ملكهم- يريد صفية بنت حيي بن أخطب- وما جئتُك إلا مسلمًا؛ فاطْوِ الخبر ثلاثًا، حتى أُعْجِزَ القوم، ثم أشِعْهُ، فإنه الحق.

 

فقال العباس: ويحك! أحقٌ ما تقول؟

 

قال: إي والله.

فلما كان بعد ثلاثة تخلَّق العباس- طلى ثيابه بالخلوق أي الطيب- وأخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت؟

 

فقالت قريش: يا أبا الفضل هذا والله التجلّد.

 

فقال: كلا ومن حلفتم به، لقد فتح رسول الله خيبر، وأعْرسَ بابنة ملكهم!

 

فقالوا: مَنْ أتاك بهذا الحديث؟

قال: الذي أتاكم بخلافه، ولقد جاءنا مسلمًا.

 

ثم أتت الأخبار من النواحي بذلك!

 

فقالوا: أفلتنا الخبيث، أولَى له!!!