لست مولعًا بالأحلام ولا بتفسيرها، وبيني وبين ذلك بون بعيد بحكم الدراسة والتكوين الثقافي؛ حيث يميل تكويني الثقافي إلى الاتجاه المعرفي السلوكي (cognitive) طبقًا لمدارس علم النفس، وبالرغم من ذلك فإن أنس فلن أنسى رؤيا أرانيها ربى مع الشيخ أحمد ياسين مذ أيام خلت، وذلك حين أنشدني بلهجة فلسطينية نشيدًا جديدًا عليَّ؛ إذ لم أسمعه من قبل، كان يردده بفرح وابتهاج ولحن قوي أخّاذ ملك علي فؤادي، وما وعت منه ذاكرتي سوى مقطع عذب اللحن يقول: "حماس مهما تكبر لا تهرم".

 

والمعنى أن حماس عصية على التجاهل، عصية على الإقصاء، عصية على بلوغ الشيخوخة، ذلك أن لها جذورًا ضاربة في وجدان الناس- معظم الناس- في مشارق الأرض ومغاربها تستنهض بها همم الاستشهاديين، وتهفو إليها قلوب العاشقين للجهاد والشهادة، أولئك الذين يسطرون ببيت المقدس وبأكناف بيت المقدس ملحمة الشهداء، وهي تتلاقى مع آلة جبارة لا ترعوي، ساندتها قوى البغي داخليًّا وخارجيًّا، لكنها صامدة ثابتة مجاهدة صمود المجاهدين، وثبات الجبال، وجهاد الصابرين.

 

ثبات ويقين

وحين يرى الناس- كل الناس- انفضاض الغرب والعرب إلا بعض شعوبهم عن حماس يقول بعضهم في نفسه: لن تصمد طويلاً. لكنهم حين يرون حماس قادة وجنودًا فإنهم يرون في مواقفهم وفي صمودهم وفي ثباتهم يقينًا تتبعثر أمامه أوهام الذين يتربصون بحماس هزيمة وانكسارًا، والذين ينعقون لسلام يسمونه زورًا وبهتانًا سلام الشجعان.....أي شجعان أولئك الذين يصفون المقاومة وعملياتها الاستشهادية بأنها عمليات حقيرة؟! بل أي كرامة عربية مهدرة على أبواب سلام الشجعان هذا؟ أم أين هذا السلام وقد ضلَّ طريقه على خارطة الطريق؟!

 

نعم قد تبكى حماس وكل حر- وليس كل البكاء ضعف- دموع الثكالى وصرخاتهن وهي تُواجَه يوميًّا بهتافات الناعقين لسلام الشجعان، وقد تبكي حماس الشهداء من الأطفال والنساء االذين لم تهتز لهم شعرة واحدة لحاكم عربي يقف ويقول توقفوا وإلا......

 

نعم قد تبكي حماس قادة عربًا همهم الأول والأخير الإفراج عن جندي أسير، ولم نسمع لهم كلمة عن آلاف الأسرى من الأطفال والشباب الذين يقبعون خلف سجون الاحتلال..

 

قد تبكي حماس ..نعم ...وليس كل البكاء ضعف واستجداء ...لكنها تعرف جيدًا- وإنها لأشد الناس معرفة- أن هذه الأمة لا تعرف الموت، تمرض لكنها لا تموت، تستعصي على الزوال، فما تزال فينا بقايا الماضي الجميل من نخوة وحب للجهاد، لكن الأبواب موصدة بفعل بعضهم، وكل العاقلين يعرفون من المقصود ببعضهم... وحين تفقد الأمة قادتها وتنفصل عنهم شعوريًّا وواقعيًّا فإن الذي يعوزها للصحة والشفاء هو إيجاد هؤلاء القادة.. صحيح أن هذا جزء من الحل وليس كله، إلا أنه من الأهمية بمكان؛ إذ اعتادت تلك الشعوب على مسايرة قادتها، وهى في هذا ليست بدعًا في الطبيعة النفسية سواء للأفراد أو للشعوب...

 

وليس أدل على ذلك من هبّة هذه الأمة حين تشتد جراحها في كل مكان، وإنه لمما يغيظ أعداءها هذا الشعور العام الذى تتداعى له أعضاء الأمة في مشارق الأرض ومغاربها باختلاف الأوطان والقارات حين يصيب أحد أجزائها عطب بفعل الاستعمار الحديث أو العدوان الغاشم، وحين يوصدون أبواب التحرك الفعال أمام أبنائها بأنظمة أقل وصف لها أنها ضعيفة؛ فإنهم لا يلبثون يبحثون عن نصرتها بما استطاعوا من دعاء ومقاطعة ونشر القضية والضغط على حكامهم الذين يرددون: لكن زمن العنتريات انتهى.. وكأن الدفاع عن أمتنا سبة يتوارى منها بعض القوم خجلاً، وإنه لأمر مؤسف أن يرتضي بعضهم إضاعة دينهم بدنيا غيرهم.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم، تعلم أن هذه الأمة بخير، لم تمت ولن تموت، وغدًا يكونون هم وأمثالهم الوارثين، يقول تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ (القصص)

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم تُطمئِن بعض القلوب المؤمنة فتقول: إن هذه الحرب التي تطال أمتنا لا تفقدنا الثقة أبدًا في أن النصر لهذه الأمة ولو بعد حين وفي أن المستقبل لهذا الدين.

 

عمل مستمر ونجاح متصاعد

وحماس الكبيرة التي لا تهرم استطاعت أن تقدم رموزًا بشرية وإنسانية وجهادية للأمة الإسلامية من أمثال الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وغيرهما.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم تجتهد مع غيرها من الحركات المخلصة أن تصد الخطر اليهودي، وأن تعطل المشروع الصهيوني (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) والذي كان مخططًا تنفيذه- وفقًا لبروتوكولاتهم- عام 1997م.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم استطاعت أن تبرز القضية الفلسطينية للأمة، وأن تصد محاولات اليهود لتهويد القدس، ومسخ هوية فلسطين العربية والإسلامية قدر استطاعتها.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم استطاعت أن تصدر فكر المقاومة بأسلوب متكامل الأبعاد، واضح الملامح للأمة الإسلامية، فكانت نموذجًا يمكن دراسته والخروج منه بتوصيف جيد للمقاومة، تستفيد منه المقاومة في أماكن أخرى كالعراق وغيرها.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم قدمت المعذرة إلى الله عن تخلف نصرة الأمة لفلسطين، وكم جاء في تصريحات بعض قادة حماس: إننا لا نريد رجالاً لكننا نريد دعمًا ماديًّا ومعنويًّا. وكم بحت حناجر قوم بالدعوة إلى المقاطعة للمنتجات اليهودية ومنتجات من يساعد دولة الكيان حتى استجاب لها بعض رجالات من الشعوب، في حين خيب آمالهم الحكومات، كما هو الشأن دومًا.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم استطاعت أن تكشف عن الوجه الحقيقي لليهود في فلسطين المحتلة؛ حيث أظهرت أن اليهود يحكمهم الحاخامات أكثر من العلمانيين.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم استطاعت الإبقاء على جذوة الجهاد مشتعلة في فلسطين، للحفاظ على حياة القضية في نفوس المسلمين.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم استطاعت تصدير خيار المقاومة إلى الفصائل الفلسطينية الأخرى؛ حتى بتنا نرى فتح وغيرها تنتهج نفس النهج؛ حتى باتت حماس وبقية الفصائل تقوم باستنزاف أمن واقتصاد المجتمع الصهيوني، وتحقيق انتصارات كاسحة على هذا الصعيد، وهذا الإنجاز يذكر لكل فصائل المقاومة التي التحقت بحماس والجهاد في هذه الانتفاضة.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم استطاعت الثبات في ظل الضغوط الأمنية اليهودية والأمريكية والمخابراتية لبعض الدول العربية وتمسكها بخيار المقاومة مع محاولة الحفاظ على وحدة الصف الفلسطينى.. كل ذلك إنجاز جيد يذكر لحماس.

 

وحماس الكبيرة التي لا تهرم استطاعت ابتكار طرق ناجعة تقض مضاجع اليهود في العمليات القتالية مع التنويع في تلك العمليات من الحجر إلى السكاكين إلى الرشاشات إلى الهاونات إلى الصواريخ الأرضية إلى مضادات الدبابات إلى أسر الجنود الصهاينة وبعض طائراتهم بدون طيار..... كل ذلك يبشر بأن لدى حماس إمكانات يمكن استغلالها مستقبلاًً سوف تصب في صالح خيار المقاومة...وكم أرجو أن يأتي وقت تصنع فيه حماس صواريخ مضادة للطائرات حتى تقطع ذراع اليهود، ولعله أن يكون قريبًا بإذن الله.

 

في النهاية

فعلاً.. حماس مهما تكبر فهي لن تهرم، أسأل الله لها الثبات والبصيرة، وأن يرد عنها كيد الخائنين.