تصادف هذه الأيام الذكرى الأولى للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، وهو العدوان الذي أسفر عن سقوط 1400 شهيد على الأقل، وإصابة أربعة أضعاف هذا الرقم من جرَّاء القصف الوحشي الصهيوني.

 

أهالي القطاع الصامد يحتفلون بذكرى صمودهم الأسطوري، وهم لا يزالون تحت حصار ظالم تفرضه إسرائيل، بتواطؤ عربي ومباركة دولية، خاصة من قبل الولايات المتحدة وإدارتها الحالية التي تعهد رئيسها بإنهاء هذا الحصار اللاإنساني.

 

"الشقيق المصري"، ونحن نتحدث هنا عن النظام وليس الشعب، أراد إحياء هذه الذكرى الأليمة، ليس بالتكفير عن أخطائه وخطاياه في إغلاق حدوده في وجه المدنيين الذين كانوا يبحثون عن ملجأ آمن من القنابل الفسفورية والصواريخ الصهيونية، ومنع فرق الأطباء والإغاثة من الوصول إليهم لتخفيف آلامهم وإنقاذ جرحاهم، وإنما بغرس سور فولاذي بعمق عشرين مترًا لقطع ما تبقى من شرايين حياة، تضخ بعض الطعام والأدوية ومستلزمات الحياة العادية البسيطة.

 

جميع الأنظمة في العالم تتطلع إلى أعلى، إلا النظام المصري، فهذا النظام بات مسكونًا بالنظر إلى أسفل، إلى ما تحت قدميه، إلى باطن الأرض ليس من أجل استخراج الكنوز، وإنما ممارسة أشرس أنواع التعذيب السادي ضد أناس عزل، جعلهم الحصار وتجاهل ذوي القربى، فريسة لعدو متغطرس أعادهم إلى العصر الحجري، يلجأون إلى الحطب للطهي، وللطين لبناء بيوتهم التي دمرها القصف الدموي.

 

الأشقاء المصريون، أو بعضهم، طرحوا سؤالاً مهمًّا أثناء مباراتيهم الكرويتين مع الجزائر في تصفيات كأس العالم، وهو "لماذا يكرهوننا؟"، في إشارة إلى تعاطف بعض العرب مع الفريق الجزائري، وردود فعل بعض المشجعين الجزائريين غير المنضبطة تجاه نظرائهم المصريين أثناء "معركة الخرطوم" الكروية.

 

العرب لا يكرهون المصريين، ولم أقابل عربيًّا يكره مصر، بل ما يحدث هو النقيض تمامًا، حيث يعترف الجميع، مع استثناءات هامشية، بدور مصر الريادي في التضحية من أجل قضايا العرب العادلة، والأخذ بيد الأشقاء في مختلف الميادين الطبية والعلمية والتعليمية والثقافية.

****

 

ويظل لزامًا علينا، أن نعيد صياغة السؤال نفسه، ونقول لماذا يكره النظام المصري الحالي العرب، ويحمل كل هذه الضغائن لأبناء قطاع غزة على وجه التحديد، وهي كراهية لا يتوانى في التعبير عنها في أشكال عدة، مثل تدمير الإنفاق، وإقامة السور الفولاذي، وإذلال أبناء القطاع في المعابر والمطارات، دون أي رحمة أو شفقة؟.

 

بالأمس تسلل صهيونيان إلى سيناء بعد اختراقهما الحدود المصرية، لتعيداهما السلطات المصرية إلى الحكومة الصهيونية في اليوم نفسه، ودون أن نعرف، أو يعرف الشعب المصري لماذا أقدم هذان على هذه الخطوة؟، وهل كانا في مهمة تجسسية أو تخريبية؟

 

اختراق الحدود المصرية من قبل الصهيونيين أمر محلل، لا غبار عليه، بل وإقدام الطائرات الصهيونية على اختراق الأجواء المصرية، وقتل ضباط أو جنود مصريين أيضًا من الأمور العادية، ولكن اختراق جائع فلسطيني لهذه الحدود بحثًا عن رغيف خبز، أو حتى مواطن مصري باتجاه غزة (مجدي حسين ما زال يقبع في السجن لأنه أراد التضامن مع أهل غزة المحاصرين)، فإن هذه هي كبيرة الكبائر، ستعرّض صاحبها للاعتقال والتعذيب في أقبية السجون لأشهر، وربما لسنوات عديدة.

 

نحن نسلّم بحق السلطات المصرية في الحفاظ على أمنها، والدفاع عن سيادتها، ولكن لم نسمع مطلقًا أن أبناء قطاع غزة، سواء عندما كانوا يخضعون للإدارة العسكرية المصرية قبل احتلالهم عام 1967، أو حتى بعد انسحاب القوات الصهيونية صاغرة من أرضهم، لم نسمع أن هؤلاء شكلوا في أي يوم من الأيام خطرًا على الأمن القومي المصري.

 

قرأنا، وشاهدنا، وسمعنا عن جوعى آخرين من أفريقيا حاولوا اختراق الحدود المصرية في سيناء باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة في النقب، بحثًا عن لجوء سياسي، وفرص عمل، ولكن نتحدى أن تثبت لنا السلطات المصرية أن فلسطينيًّا واحدًا حاول اختراق الحدود المصرية- الصهيونية في سيناء لتنفيذ عمليات فدائية يمكن أن تحرج النظام المصري أمام أصدقائه الصهيونيين والأمريكيين.

 

قطاع غزة كان على مدى التاريخ عبارة عن "زائدة دودية" ملحقة بالجسم المصري العملاق، وإذا كانت قد التهبت هذه الأيام، فذلك بسبب نكوص الحكومة المصرية، وتخليها عن واجباتها الأخلاقية والدينية والوطنية تجاه مليون ونصف المليون من أبنائه، كل جريمتهم أنهم يرفضون الاستسلام، ورفع الرايات البيضاء، ويصرون على المقاومة لاستعادة حقوقهم المغتصبة.

****

 

السور الفولاذي الذي تقيمه أجهزة المخابرات الأمريكية على حدود القطاع، تنفيذًا لاتفاق صهيوني- أمريكي جرى التوصل إليه من خلف ظهر الحكومة المصرية، هذا السور لن يعزل قطاع غزة عن عمقه المصري الشعبي والوطني، بل سيعزل النظام، ويراكم من خطاياه في حق أمته ودينه وعقيدته.

 

أسود غزة الذين واجهوا العدوان الصهيوني لأكثر من ثلاثة أسابيع بمروءة وشهامة وكبرياء العربي المسلم الأصيل، سيواجهون عمليات التجويع الناجمة عن ظلم ذوي القربى بالكبرياء نفسها، ولن تعوزهم الحيلة، وهم المبدعون، في تحدي كل الظروف الصعبة، لايجاد مخارج جديدة لإطعام أطفالهم، وتوفير لقمة الخبز النظيفة الشريفة لأيتامهم.

 

نأسف، وبمرارة العلقم، لموقف السلطة الفلسطينية في رام الله، التي سارعت إلى ممارسة أبشع أنواع النفاق بتأييدها للسور المصري الفولاذي، غير عابئة بالمخاطر الجمة لهذا السور على أبناء وطنها وجلدتها، فهي لا تمانع بإفناء جميع أبناء القطاع بسبب كراهيتها لحركة "حماس" الحاكمة لهم، وهو موقف انتهازي مخجل ومعيب بكل المقاييس.

 

كان المأمول من السلطة في رام الله إن تنحاز إلى شعبها، وتعمل على تخفيف معاناته، والترفع عن الصغائر والأحقاد الفصائلية، وتعارض هذا السور الفولاذي البشع بكل أشكال المعارضة، أو على الأقل تلجأ إلى الصمت، سواء صمت الموافق أو الرافض، لكن أن تتطوع وتمتدح هذا السور، وهي التي يتظاهر أنصارها يوميًّا ضد السور العنصري الآخر في الضفة، فهذا أمر لا يصدّقه عقل، أو يقرّه منطق.

****

على أي حال موقف هذه السلطة هذا غير مستهجن، ألم يطالب أحد أركانها قبل يومين أهل القطاع بالانتفاضة ضد حكومة "حماس" في القطاع، ولم يجرؤ أن يطالب بالشيء نفسه ضد إسرائيل، خاصةً بعد أن فشل الرهان على خيار التفاوض والاستجداء للوصول إلى الحقوق الوطنية المشروعة؟

 

كنا نتوقع في الذكرى الأولى للعدوان أن يكون النظام المصري رحيمًا بأبناء القطاع، يفتح الحدود لوصول كل ما يحتاجونه من طعام لملء أمعائهم الفارغة، والحليب لتقوية عظام أطفالهم الهشة المترقرقة، وأكياس الإسمنت لإعمار بيوتهم المهدمة من جراء القصف، حيث يعيش ستون ألف إنسان في الخيام أو في كهوف حفروها وسط ركام هذه البيوت المهدمة.

 

الشعب الفلسطيني، وأبناء قطاع غزة على وجه الخصوص، لن يكره مصر، وسيظل محبًّا لشعبها الكريم الطيب الوطني المضياف، مقدرًا لهذا الشعب كل ما قدمه من تضحيات وشهداء، واقتطاعه لقمة الخبز من فم أطفاله لنصرة قضايا أشقائه العرب والفلسطينيين، ولكن هذا الشعب لا يمكن أن يحب هذا النظام الذي يبادله الحب بالكراهية، وهو على أي حال يتماهى مع الشعب المصري في كراهيته لهذا النظام.

-------

* (القدس العربي) في 24/12/2009