كانت مصر هي قلب العروبة النابض حقًّا، لحجمها ووضعها، يحتمي فيها وبها أشقاؤها العرب، فتقوم بحمايتهم ونصرتهم كلما تعرض أحدهم لأي تهديد أو اعتداء، ويلجئون إليها عند الحاجة، فتلبي لهم النداء، وهذا من قديم الزمان.

 

ولكن اعتراها أمرٌ خطير بدّل حالها وغيّر وجهتها, وأصبحت تقف في خندق واحد مع أمريكا وإسرائيل, أعداء العروبة والإسلام، والله سبحانه وتعالى ينادينا فيقول: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)﴾ (الأنبياء)، وفي آية أخرى يقول: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)﴾ (المؤمنون).

 

والأمر الخطير هو معاهدة كامب ديفيد في عام 1979م والتي كبلت مصر بقيود أقعدتها عن الحركة؛ حتى أصبحت عاجزةً عن الوفاء بالتزاماتها تجاه أشقائها العرب.

 

وباستعراض بعض مواد هذه المعاهدة يتبين الآتي:

البند (17) من المادة السادسة ينص على:

يتعهد الطرفان بعدم الدخول في أي التزامات يتعارض مع هذه المعاهدة.

يُستفاد من هذا النص أنه لا يجوز لمصر أن تعقد اتفاقات مع أي دولة أو أكثر مع الدول العربية بعد تاريخ صدور هذه المعاهدة.

 

البند (18) من المادة السادسة أيضًا تنص على:

"مع مراعاة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة يقر الطرفان في حالة وجود تناقض بين التزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأي من الالتزامات الأخرى, بأن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة هي التي تكون ملزمة ونافذة".

 

ويستفاد من هذا النص الآتي:

أن المعاهدات التي وقَّعتها مصر قبل تاريخ هذه المعاهدة لا تكون نافذة، ولقد كانت مصر قد عقدت معاهدة الدفاع العربي المشترك مع الدول العربية في عام 1950م، فأصبحت مصر عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها مع الدول العربية نتيجة لمعاهدة كامب ديفيد فتوقف العمل بها.

 

البند ج من المادة الثالثة ينص على أن:

تعهد الطرفان بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها من أحدهما ضد الآخر على نحو مباشر أو غير مباشر.

 

وبهذا تكون معاهدة الاستسلام قد وجهت ضربة مميتة إلى معاهدة الدفاع العربي المشترك، والاتفاقات الأخرى التي عُقدت بين مصر وبعض شقيقاتها من الدول العربية مثل: العراق، وسوريا، وليبيا.

 

كما قيَّدت هذه المعاهدة حجم الجيش المصري، وقسَّمت سيناء إلى مناطق أ، ب، ج، د، وجعلت لكل منطقة تسليحها التي تلتزم به مصر، ولقد رأينا وقت الاعتداء الإسرائيلي على غزة, أن مصر عجزت عن زيادة عدد قواتها المرابطة في معبر رفح بعد رفض إسرائيل ذلك.

 

تنص المادة الثانية على أن:

الحدود الدائمة بين مصر وإسرائيل هي الحدود الدولية المعترف بها دوليًّا بين مصر وفلسطين تحت الانتداب؛ لأن فلسطين كانت تحت الانتداب البريطاني، وقامت بريطانيا بتسليم فلسطين لليهود.

 

ولقد رفض وزير خارجية مصر محمود رياض التوقيع على هذه المعاهدة، وقدَّم استقالته للسادات وهو في كامب ديفيد, وعيَّن بدلاً منه إسماعيل فهمي والذي رفض أيضًا التوقيع وقدَّم استقالته, وعين بدلاً منه محمد إبراهيم كامل ورفض هو الثالث التوقيع وقدَّم استقالته.

 

وتلتزم مصر بالتزامات هذه المعاهدة وتنفذها بدقة تامة, بل لا أبالغ لو قلت إنها تزيد على ما ينبغي عليها التزامه تجاه هذه المعاهدة، بالرغم من أن إسرائيل لم تلتزم بهذه المعاهدة، كما أنها لم تحترم المواثيق الإقليمية أو الدولية.

 

ولقد رأينا صمت مصر والعرب كصمت أصحاب القبور, أثناء اعتداء الصهاينة الغاشم على غزة في حربها الأخير، وكيف قامت مصر بغلق معبر رفح الشريان الوحيد لغزة, بعد حصارها برًّا، وبحرًا، وجوًّا من قِبَلِ إسرائيل، بل وقامت بتدمير الأنفاق التي حفرها المجاهدون بعد هذا الحصار الظالم، وقامت جحافل الأمن المركزي بفضِّ كل مظاهرة يقوم بها الشعب تضامنًا مع شقيقه في غزة، رغم أنه اجتاحت المظاهرات مُدن العالم بما فيها أمريكا وأوروبا تضامنًا مع غزة.

 

ونسمع اليوم أن مصر تقوم ببناء الجدار الفولاذي العازل بينها وبين غزة, تزعم أنه لحماية الأمن القومي لمصر، وأعتقد أن كلَّ مصري لا يبخل أن يقدم حياته فداءً لحماية أمن مصر إلا الجبناء، بل وأعتقد أن الشعوب العربية كلها لا تتأخر لتقديم حياتها في سبيل أمن مصر, وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني في غزة ولكن لسنا على استعداد لتقديم حياتنا ولا حياة إخواننا في غزة حماية لأمن إسرائيل.

 

فهذا الجدار الظالم الذي يُبنى برعاية أمريكا التي أنشأت إسرائيل وحلفائها في الغرب, وتحمي بقاءها, إنما تبنيه من أجل حماية إسرائيل وليس لحماية الأمن القومي لمصر؛ ولأنه سيحكم حصار غزة لكي يجوع الشعب الفلسطيني في غزة، وتضعف المقاومة الفلسطينية فيها لكي تركع أمام إسرائيل.

 

والحقيقة أن الأمن القومي لمصر إنما يكمن في تحرير فلسطين والمسجد الأقصى من دنس اليهود، ولقد قرأنا في التاريخ القديم والحديث أن تحرير فلسطين هو أمن مصر.

 

ففي التاريخ القديم حارب رمسيس الثاني الهكسوس في فلسطين؛ وذلك لتأمين حدود مصر الشرقية.

 

ولقد حارب صلاح الدين الأيوبي الصليبيين في فلسطين وحرر المسجد الأقصى، كما حارب الملك المظفر قطز التتار والصليبيين لتحرير فلسطين، وكذلك فعل الملك الظاهر بيبرس.

 

إذن فبناء هذا الجدار الفولاذي ما هو إلا فكرة خبيثة يعجز إبليس اللعين الإتيان بمثلها، والهدف منه هو إحكام الحصار على غزة لمنع وصول الاحتياجات الضرورية إليها من الغذاء والدواء، وهذه جريمة كبرى تعاقب عليها المواثيق الدولية، فقد نصت اتفاقية جنيف الرابعة وكذلك البروتوكول الثاني المعدل لها على تجريم أي أعمال من شأنها أن تؤدي إلى منع وصول الاحتياجات الضرورية من الغذاء وخلافه إلى الأفراد المدنيين، بل إن اتفاقية جنيف تسمح للحركات التحررية بحمل السلاح بُغية تحرير الأرض طالما يخضع أفرادها لقيادة, وبها نظام, وتحمل السلاح علنًا ولها شارة معينة, وهذا كله ينطبق على المقاومة الفلسطينية.

 

وأخيرًا.. ينبغي علينا أن ندعم المقاومة الفلسطينية في غزة؛ لأنها الأمل في تحرير فلسطين والمسجد الأقصى من أيدي الصهاينة الذين يقومون الآن بحفر الأنفاق لهدم المسجد الأقصى, ولا أحد يتحرك من العرب والمسلمين، ومصر تتحرك لهدم الأنفاق, التي تُوصِل الغذاء والدواء للمحاصرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

وأقول لإخواننا في غزة: استعينوا بالله واصبروا كما قال موسى لقومه:

﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)﴾ (الأعراف).

 

ونصيحتي للنظام في مصر هي قول الله تبارك وتعالى:

﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)﴾ (البقرة).

 

﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).