د. جابر قميحة

 

في مقال الأسبوع الماضي طرحت عدة أسئلة خلاصتها:

1- لماذا قام العمل في الجدار المصري في كتمان شديد، ولم يُعلن عنه إلا بعد أن كتبت عنه بتفصيل الصحف "الإسرائيلية"، ووكالات الأنباء العالمية؟!!

 

2- إذا كان هذا الجدار ضرورة لحماية حدود مصر... فلماذا تأخرت إقامته مع أنه لم يجد جديد في ساحة السياسة؟!! ألا يعد هذا- بمنطق حكامنا- تفريطًا في أرضنا المصرية؟!!

 

3- أين صُنعت هذه الصفائح الفولاذية الجبارة التي لا تؤثر فيها الألغام والقنابل، كما ذكر الخبراء المختصون؟

 

إن الواقع الأليم يقطع بأن "خامات" هذا الجدار مصنوعة في الخارج، وهناك شبه إجماع على أنها مصنوعة في الولايات المتحدة.

 

4- وتكاليف هذا الجدار الجبار الذي يُعد أضخم وأقوى جدار في التاريخ... هذه التكاليف من يتكفل بها؟

 

5- ولماذا يا حكامنا الأشاوس لم تفتحوا آذانكم للرأي العالمي- وخصوصًا الخبراء- بتجريم إقامة هذا الجدار؟

 

6- ولماذا لا تتذكرون مقولة قائد "إسرائيلي" كبير "إن "إسرائيل"- إذا ألحَّت الضرورة- قد تلجأ إلى نسف السد العالي بصواريخ خفية؛ ما يترتب عليه إغراق مصر كلها؟".

 

7- ولماذا لم تقرءوا أو تفتحوا آذانكم لتصريح باراك الذي قال فيه: "إن "إسرائيل" قد تضطر إلى القضاء على حماس في غزة العام القادم أو الذي يليه"؟

 

وطبعًا ستكون مذبحة لأهالي غزة جميعًا؛ لأنهم محصورون بين جدارين ظالمين: الجدار "الإسرائيلي" والجدار المصري.

 

8- ولماذا ينسى حكامنا ما صرَّح به بعض القادة "الإسرائيليين"- من عدة سنوات- من أنهم تخلوا عن سيناء باختيارهم؛ لأنهم في حاجة إلى قوة بشرية، وعندما يتوفر عند "إسرائيل" من القوة البشرية قرابة 3 ملايين "إسرائيلي"... ستضطر "إسرائيل" إلى استعادة سيناء وضمها إلى "إسرائيل" الأم؟

 

- كيف عرفنا نبأ الجدار؟!   

لم تصارح مصر ابتداءً شعبها، أو مؤسسة من مؤسساتها، بالشروع في بناء هذا الجدار الغاشم اللعين، إلى أن فضحت الخبيء الصحف "الإسرائيلية"، ووكالات الأنباء الغربية؛ ما اضطر حكامنا النشامى بالحديث عنه، وأخذ هذا الحديث صورة التدرج... فظهر الإعلام في عدة صور تتلخص فيما يأتي:

1- أنه جدار قُصد به حماية الحدود، ولا يقصد من ورائه الإضرار بالشعب الفلسطيني في غزة.

2- أنه جدار يُقصد به القضاء على الأنفاق التي تسمح بتهريب الإرهاب والمخدرات.

3- أنه أشغال هندسية على الحدود تقوم بها القوات المسلحة المصرية، ومثل هذه الأشغال العسكرية لا يجوز لأحد أن يتدخل فيها، أو يجعلها مادة للحديث والسخرية والاتهام. 

 

 وما ذكرناه آنفًا في إيجاز وتركيز يحتاج إلى شيء من التفصيل، نراه في السطور الآتية: 

1- صرَّح سليمان عواد‏:‏ المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية أن مصر من حقها أن تتخذ ما تشاء من إجراءات لضمان أمن وسلامة حدودها‏، أن ضمان مصر لأمن وسلامة حدودها هو مسئولية الدولة، ومن حق مصر أن تتخذ ما تشاء من إجراءات لضمان أمن وسلامة حدودها، (الأهرام) 22/12/2009م.

 

2- وأعلن صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى أن نواب الشعب يؤيدون كل الإجراءات التي تتخذها مصر لتأمين حدودها،‏ ويعتبرون أن هذه الإجراءات واجب وطني ومسئولية دستورية لحماية الأمن القومي المصري، وأشار إلى أن حدود مصر جزء من سيادتها، وهي سيف قاطع سوف يقطع من يقطعها‏,‏ ولن تكون سداحًا مداحًا لكل مغامر أو متاجر بقضايا الأمة‏.

 

ويظهر أن السيد صفوت الشريف متأثر بالهتاف المشهور سنة 1967م... سنة النكسة " في العقبة قطع الرقبة".

 

3- وقال الدكتور مفيد شهاب وزير الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية في جلسة الشورى‏:‏ إن ما تقوم به مصر من إنشاءات هندسية ضمن حدودها مع غزة هو ضرورة من ضرورات الأمن القومي.

 

4- أكدت لجنة الشئون العربية والخارجية والأمن القومي بمجلس الشورى أن ما تقوم به مصر علي حدودها الشرقية يهدف إلى منع تدفق السلاح‏،‏ وما يهدد أمن مصر‏، (الأهرام) الأربعاء 30/12/2009‏م.

 

5- ويكتب أسامة سرايا في (الأهرام) الجمعة، 25/12/2009م بأنه "ليس جدارًا، وليس عازلاً".
ولكن ما تفعله حركة حماس الآن مع مصر لن يفقدها الحماس للقضية الفلسطينية فالشائعات والحرب التي تشنها التيارات الدينية عالميًّا أو في منطقتنا ومن يحذو حذوها‏,‏ لن تؤثر على السياسة المصرية‏,‏ ولن تهز معنويات المصريين تجاه الشعب الفلسطيني‏,‏ وتجاه أهل غزة‏.‏

 

6- وكتب حسن الرشيدي رئيس تحرير "المسائية": "مصر ترفض الحصار المفروض على الأشقاء الفلسطينيين في غزة، وتقدّم كل الدعم لهم؛ ولكن عناصر حماس أساءت استغلال الأنفاق على الحدود، ليس لتهريب السلع أو المواد الغذائية، وإنما لتهريب الأسلحة والمتفجرات التي تستخدم ضد مصر وترويع الآمنين".

 

7- وكتب محمد بركات رئيس تحرير "الأخبار": "الوقت حان لتدرك أن مصر وهي تؤدي واجبها القومي وتقوم بمسئوليتها الوطنية تجاه الإخوة الفلسطينيين، وتسعى لرأب الصدع الفلسطيني؛ فإن ذلك لا يعني أن تقصر مصر في اتخاذ الإجراءات الواجبة والضرورية لضمان أمن وسلامة حدودها".

 

**********

وقد ذكرنا آنفًا أن الإعلان عن هذا الجدار جاء قطرة قطرة، أي أُعلن عنه بالتدريج؛ ولكن كان هناك نوع من الإعلان قام على المغالاة والإسراف والشطط والتهويل، كذلك الذي كتبه الدكتور عبد المنعم سعيد في مقاله بـ(الأهرام) يوم السبت 2/1/2010م تحت عنوان: (الدفاع عن مصر‏.. ‏تلك هي القضية)، ومما جاء فيه من التهويلات السطور التي نلخصها فيما يأتي:

 

1- عندما وجدت منظمة حماس أن دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة واسعة عليها- تعدد الاتجاهات السياسية وكثرة المنافسين- قررت الحركة الاستقلال بغزة في إمارة إسلامية لا يسمح فيها لأحد آخر بأن يكون له صوت أو نفوذ‏.‏

 

 2- لما كانت الحركة قد دخلت في اتفاقيات ضمنية مع "إسرائيل" لوقف القتال‏؛ فإنها منعت إطلاق صواريخ كل الفصائل‏ الإسلامية‏‏ الأخرى احترامًا لاتفاقها‏.‏

 

 3- مع موقف "إسرائيل" من رفض التفاوض المباشر مع حماس‏,‏ وموقف حماس المعروف من عدم التفاوض مع "إسرائيل‏",‏ وموقفها أيضًا من رفض المصالحة مع السلطة الوطنية الفلسطينية‏؛‏ فإن استباحة الحدود مع مصر أصبحت واحدة من المنافذ القليلة الباقية أمام الحركة‏.

 

4- جرت هذه الاستباحة بطرق وأساليب متعددة، بعضها سلمي قائم على الاجتياح السكاني‏,‏ وبعضها الآخر عنيف سقط فيه ضحايا مصريون جنود ومدنيون‏,‏ وبعضها الثالث فوق الأرض بالدعاية والتشهير‏,‏ وبعضها الرابع تحت الأرض بالأنفاق والتهريب‏.‏

**********

 

ومن التهويلات ما رددته وسائل إعلامنا المقروءة والمسموعة والمرئية؛ وخصوصًا القنوات الفضائية، ومنها:

1- عدد الأنفاق التي حفرها أهل غزة 1700 نفق، يبلغ طول بعضها ميلاً ونصف ميل.

2- هذه الأنفاق لم يستخدمها الغزاويون إلا لتهريب المخدرات والإرهاب إلى مصر، ومن جهة أخرى تهريب ممنوعات إلى داخل غزة منها فتيات لممارسة الدعارة(؟؟!!!). 

 

 التعليل الأول (تهريب المخدرات والإرهاب) يماثل ما تتذرع به الحكومة المباركية للإبقاء على قانون الطوارئ، ومده عدة مرات، وبذلك رأت حكومة الحزب الوطني أن سيادة "السيادة المصرية"، وحماية مصر لا تكون إلا بجدارين هما:

 

1- جدار فولاذي على حدودنا.

2- وجدار معنوي يمثل سيفًا مسلطًا على أعناق المصريين جميعًا اسمه "قانون الطوارئ".
ومن التهويلات كذلك ما كتبه كلٌّ من أيمن السيسي وأحمد موسى في (الأهرام)، اعتمادًا على معاينة كل منهما لما سمياه "الإنشاءات الهندسية" (؟؟!!!) على الحدود بيننا وبين غزة.  

*********

 

ولكن الله سبحانه وتعالى قيض لمصر كتابًا أحرارًا فضلاء، كشفوا الحقيقة التي تدمغ الحكام بالعار والتضليل والكذب والخداع، ومن هؤلاء الكاتب الحر الأستاذ فهمي هويدي في سلسلة مقالات فضح فيها بناء جدار العار والسقوط والخيانة، ومنها مقاله: (الجدار حماية لأمن الصهاينة).

 

ومما جاء في خاتمته:

* إزاء الحفاوة "الإسرائيلية" بالموافقة المصرية على بناء الجدار؛ هل يمكن القول إن تطابقًا حدث في الرؤية بين الأمن الوطني "الإسرائيلي" والأمن القومي المصري؟

 

* لا خلاف حول حق مصر في الدفاع عن أراضيها والحفاظ على أمنها؛ لكن ألا يستحق المساس بالأرض أو تهديد الأمن إجماعًا وطنيًّا؛ بحيث يعرض على مجلس الشعب على الأقل، بدلاً من أن يُحاط الشعب المصري علمًا به من إحدى الصحف "الإسرائيلية"؟

 

حين يفكر المرء في إجابة تلك الأسئلة فسوف يدرك أن إقامة الجدار لا علاقة لها بأمن مصر، وإنما هي في حقيقتها استجابة لدواعي أمن "إسرائيل"، فرضتها السياسة الأمريكية وقامت بتنفيذها تحت أعيننا، ولكننا أغمضنا وسكتنا، إلى أن قامت الصحافة الإسرائيلية بكشف المستور وفضح المسكوت عنه.

***********

وممن كشف مخالفة بناء الجدار للقانون الدولي الدكتور الشافعي بشير في مقال له بعنوان: 
(خيبة جدار الصلب المصري!).

 

جاء في مطلعه:

الجدار يضع النظام المصري تحت مسئولية دولية وقانونية؛ لأنه ساعد "إسرائيل" في حصارها على غزة بالمخالفة للمادة (59) من اتفاقية جنيف، جدار الصلب الذي يبنيه نظام الحكم عند حدودنا مع غزة؛ تنفيذًا لإملاءات أمريكية وأهداف "إسرائيلية".. يمكن تلخيصه في عبارة موجزة بأنه خيبة كبرى لمصر والمصريين؛ فثمة مخالفة لنص المادة 59 من اتفاقية "جنيف" الرابعة لعام 1949م، ونص المادة (54) من البروتوكول الملحق بها الذي أقره المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في "جنيف" في 10 يونيو 1977م، والذي شاركت فيه مصر.. ويحسن تذكيرها بنص تلك المادة التي تقول:

1- يُحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب.

2- يُحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين ومثالها المواد الغذائية.. مهما كان الباعث.. سواء بقصد تجويع المدنيين، أم لحملهم على النزوح، أم لأي باعث آخر.

 

فما باعث مصر من تشديد الحصار بجدار الصلب على الشعب العربي المسلم من جانب بلد الأربعة آلاف مئذنة ومنارة الأزهر الشريف.. البلد الذي يُقال عنه إنه الشعب الأكبر للشعوب العربية والقيادة والريادة للأمة العربية والإسلامية؟!

***********

ومن هؤلاء الدكتور عبد الله الأشعل وقد جاء في مقاله:

من الناحية القانونية، يجب التأكيد على أن المرجعيات القانونية لتكييف الجدار المصري هي اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م واتفاقية الأمم المتحدة لإبادة الجنس لعام 1948م، وما يقرره نظام روما من أحكام حول أنواع الجرائم وأركانها، والذي ألقى الضوء بشكل أكبر على ما تضمنته اتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم الدولة المحتلة، كما تلزم الدول الأطراف خاصة المرتبطة بشكل مباشر بالإقليم المحتل في حالة مصر وغزة، بل إن هذه الاتفاقية تعطي القضاء المصري اختصاصًا عالميًّا مثل باقي السلطات القضائية في الدول الأطراف، ولذلك لا محل للاحتجاج بحرمان القضاء من هذه السلطة بذريعة أعمال السيادة، أو أن هذا العمل يعتبر من أسرار الدولة العليا.

 

وعندما يتعلق الأمر بغزة التي يحدها شمالاً البحر المحاصر، وعلى طول حدودها الشرقية والجنوبية "إسرائيل" التي تحمل مشروعًا صهيونيًّا، هدفه القضاء على الشعب الفلسطيني والتربص الدائم بغزة وإعلانه إقليمًّا معاديًا، تجيز فيه كل ما يحظره القانون الدولي؛ فإن الحد الغربي لغزة وهو مصر يصبح هو محط الأمل من الناحية النفسية، ليس فقط لإنقاذ غزة من الوحش الصهيوني؛ ولكن لإمداد غزة بكل ما يلزم من ضرورات البقاء وهي في الظروف العادية مسألة اقتصادية إذا حسنت النوايا وهي مصدر للربح بالنسبة للجانب المصري.

 

ولكن لأسباب كثيرة لا داعي لإقحامها في هذا السياق رأت مصر أن تقيم عازلاً صلبًا بينها وبين هؤلاء "الأعداء" الذين يتربصون بها الدوائر، ويغيرون عليها من حين لآخر، ويسببون لها الإحراج مع "إسرائيل"، ومصر تظن أن هذا القرار مصدره الشعور المصري الخالص دون إملاء من أحد بهذه المخاطر.

 

أما بالنسبة لمصر، وبسبب وضعها كمنفذ وحيد على الجانب الآخر لغزة، فقد رتَّب القانون الدولي عليها التزامات أقسى؛ وهي ضرورة فتح معبر رفح وكافة منافذ الحدود الأخرى للإنقاذ.

 

فالهدف هو الإمعان في خنق سكان غزة، ومعاقبتهم لذنب لم يرتكبوه وإرهابهم إلى حد الموت لقاء تمسكهم بنظام أحبوه أو كرهوه، اختاروه أو فُرض عليهم ليس لأحد التدخل فيه مهما كان رأيه فيه من الناحية السياسية، فالهدف السياسي لا قيمة له؛ لأن القانون يعول على النية الإجرامية وهي إبادة السكان بقطع النظر عن الدوافع.

***********

 

ومن حق التاريخ علينا أن نذكِّر القارئ بأن غزة لم يكن بينها وبين مصر حدود فاصلة قبل نكسة 1967م؛ لأن منطقة غزة كلها كانت واقعة تحت مسئولية الجيش المصري، وتسبب الحكم العسكري الفاسد في عهد عبد الناصر بإعلامه الساقط في سقوط غزة في يد "الإسرائيليين".  

 

وكان الواقع المر أقوى منا بكثير؛ بسبب الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها القيادة، ولم تعرضها الدولة في صورتها الحقيقية. 

(من تحقيق: أشرف أبو الهول، (الأهرام) 18/ 6/ 2009م).

وبإعلامنا احتل اليهود غزة بلا قتال

كتب الصحفي أشرف أبو الهول ".... وهنا سألتهم (شيوخ العشائر والمخاتير والأعيان من سكان جنوب قطاع غزة) عن طبيعة القتال الذي جرى أثناء الاجتياح "الإسرائيلي" لقــطاع غزة"؛ فأجابوا جميعًا في نفس واحد "لم يكن هناك قتال"، ولم أفهم الإجابة، وتصورت أن الفدائيين الفلسطينيين ربما قاتلوا "الإسرائيليين" خارج القطاع، ولما انهزموا دخل "الإسرائيليون" القطاع، وهنا كانت الصدمة: لا لم يخرجوا، ولم يقاتلوا، فالإسرائيليون دخلوا أولاً، وسيطروا، وقتلوا من قتلوا، واعتقلوا من اعتقلوا، ولم يقاتل إلا من نجا من تلك المذبحة، وفر إلى خارج القطاع ليحارب، ولكن بعد أن كانت الحرب قد انتهت فعليًّا، وحملت اسم النكسة.

 

لكن لماذا سقطت غزة بلا قتال؟ أجاب من ذكرتهم آنفًا: أوهمتنا الإذاعة المصرية أن الجيوش العربية حققت انتصارات ساحقة، وأنها على مشارف تل أبيب، والجنود "الإسرائيليون" بين قتلى ومستسلمين، واستغل الإسرائيليون هذا الوضع، فأرسلوا دباباتهم إلى القطاع من اتجاه العريش وهي ترفع الأعلام العربية، وبخاصة العراقية، ويظهر من أبراج بعضها جنود يتكلمون اللهجة العراقية، وبالتالي ظننا جميعًا أن هذه قوات عراقية صديقة جاءت للمشاركة في حرب النصر والتحرير؛ ففرحنا جميعًا... ولم نعرف الحقيقة إلا بعد أن كانت الدبابات "الإسرائيلية" قد انتشرت في كل القطاع تقريبًا...".

**********

 

وأخيرًا: أنظر إلى الجدار الملعون، وأقرأ مقال الأستاذ فهمي هويدي "الجدار حماية لأمن "إسرائيل""... فيشداني إلى بيتين لشاعر القطرين خليل مطران في قصيدة عصف فيها "بالملك خوفو" باني الهرم الأكبر، ونص البيتين: 

             شاد فأعلى وبنى فوطدا                 لا للعلا ولا له بل للعِــدا 

            مستعبد أمته في يومــه                مستعبد بنيه للعادي غدا

 

ومعنى البيتين أن الملك بنى البناء الأسطوري العالي على أساس بنياني راسخ عميق، فهو بنى الهرم، وأعلاه إلى أقصى حد، ورسَّخ قواعده، ولم يكن هذا البناء لتحقيق الرفعة والشرف والمجد، لا لأمته ولا له، بل كأنه بناه لمصلحة الأعداء، والرفع من شأنهم؛ وذلك لأنه استعبد أمته وسخَّرها في إقامة هذا البنيان، فجعل منها أمة مستعبدة، وبذلك مهَّد السبل لأن يستعبد الأعداء أبناء الوطن في المستقبل.

 

كان هذا ما قاله شاعر القطرين عن خوفو والهرم، وكأنه يتحدث عن حاكمنا المستبد بنا، وعن بناء الجدار المصري؛ فالمنتفع الأول والأخير من هذا الجدار هو "إسرائيل"، والمحروق المطحون بهذا الجدار هم فلسطينيو غزة، وعلى هذا أجمع خبراء السياسة والعلوم الهندسية على المستويات الإقليمية والعالمية.

 

ومن عجب أن تغلق الحدود بيننا وبين غزة بهذا الجدار الأصم اللعين، وفي الوقت نفسه نترك الحدود بيننا وبين "إسرائيل" مفتوحة تمامًا من ناحية منطقة طابا.

**********

 

وهناك "فرضية" قد تبدو خيالية في وقتنا الحاضر، وهي:

أن يقوم السودان بغلق حدوده الشمالية بجدار مماثل باسم سيادته الوطنية على أراضيه، أو تقوم ليبيا كذلك بنفس العمل، وعندها الدوافع أقوى وأوضح، فمن حدودها مع مصر تتدفق العمالة المنفلتة بصورة غير قانونية، ويتدفق المهاجرون غير الشرعيين لركوب البحر من منطقة ليبية للهجرة إلى إيطاليا وغيرها، ونحن نعلم أن البحر قد ابتلع مئات من شبابنا الذي عجز عن الحياة في مصر تحت وطأة الفقر والاستبداد، وآخر الأحداث على الحدود الليبية كان مصرع 14 مصريًّا برصاص مجهول، فحاجة ليبيا لمثل هذا "الجدار" تكاد تكون أقوى من حاجة مصر لجدارها الفولاذي اللعين.

 

**********

ونقول لحكامنا الأشاوس.. اتقوا الله يا هؤلاء؛ فشعبنا أصبح عاجزًا تائهًا ضائعًا، يعيش تحت خط الفقر، والأزمات المتعددة المتنوعة تتراكم عليه كل يوم تحت وطأة الظلم والاستبداد.

 

واذكروا قوله تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾ (العنكبوت).

 

واذكروا قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)﴾ (يونس).

------------

* [email protected]