الصورة غير متاحة

  إبراهيم المصري

صباح الإثنين الماضي كانت الأجواء السياسية اللبنانية تعاني أسوأ حالات الاحتقان، وكشأنها كل مرة؛ سواء كانت الأزمة سياسية أو اقتصادية، داخلية أم إقليمية؛ فإنها تتحول في لبنان إلى احتقان طائفي أو مذهبي، حسب نوع الأزمة والأطراف المشاركة فيها، وكان الرئيس نبيه بري دعا المجلس النيابي إلى جلسة تشريعية؛ من أجل التصويت على تعديل دستوري يقضي بمنح حق التصويت في الانتخابات لكل لبناني بلغ 18 عامًا بدلاً من 21؛ إنفاذًا لتوجه اعتمده مجلس النواب السابق في شهر مارس الماضي.

 

وبما أن هذا التعديل سوف ينعكس طائفيًّا عند إجراء الانتخابات البلدية أو أي انتخابات لاحقة؛ لأن عدد الناخبين المسيحيين (من كل المذاهب) لا يتعدى 57995 ألفًا، أي 24.30٪ من مجموع الكتلة الناخبة، وعدد الناخبين المسلمين يبلغ 180.383، أي ما نسبته 75.57٪، وهنا ظهر الانقسام في كتلتي 8 آذار و14 آذار على خلفيّة طائفية؛ ما هدَّد بانقسام سياسي، وتجلى ذلك في إصرار الرئيس نبيه بري على عقد الجلسة التشريعية لتعديل النص القديم باتجاه منح حق التصويت لمن بلغوا الثامنة عشرة، باعتبار أنهم راشدون مكلفون يملكون ذمة مالية كاملة، بينما خالف ذلك كل المسيحيين تقريبًا؛ سواء منهم من كان في 8 أو 14 آذار، ودخل العماد ميشال عون طرفًا في سجال حادّ مع الرئيس بري، حمل الأخير على أن يهدد حليفه بقول الشاعر: (ألا لا يجهلَنْ أحد علينا - فنجهل فوق جهل الجاهلينا)، وكانت الكتل النيابية مهددة بالانفراط طائفيًّا في حال مشاركة المسلمين في جلسة المجلس النيابي، ومقاطعة المسيحيين لها أو تصويتهم ضد التعديل.

 

هنا وقعت الواقعة، وجرى الإعلان صبيحة يوم الإثنين عن سقوط الطائرة الإثيوبية في البحر قبالة الساحل اللبناني وعلى متنها تسعون راكبًا معظمهم من اللبنانيين، فأعلن رئيس الحكومة تعطيل دوائر الدولة والجامعات والمدارس، كما أعلن الرئيس نبيه بري تأجيل جلسة المجلس النيابي إلى أجل غير محدد، وطُويت بذلك صفحة السجال، مؤقتًا على الأقل.

 

وهنا انشغل اللبنانيون بإشكالية جديدة، تدور حول سبب سقوط الطائرة، ومن المسئول عن ذلك، الطيار الإثيوبي، أم شركة الطيران التي تسيّر الطائرة، أم برج المراقبة في مطار بيروت؟! أضيف إلى هذا إشكاليات أخرى، تتّهم الحكومة بالتقصير في تسيير رحلات لطيران الشرق الأوسط باتجاه أقطار غرب إفريقيا؛ حيث يعيش عدد كبير من المغتربين اللبنانيين.

 

وهناك من فتح ملفات أوسع، تتعلق بهجرة اللبنانيين وتقصير الحكومات المتعاقبة في توفير أسباب العمل والرزق لليد العاملة اللبنانية.

 

وفي ظل الأجواء العاصفة التي تعرَّض لها لبنان في أيام الأسبوع الماضي عند سقوط الطائرة، فقد عجزت كل وسائل الإنقاذ عن الوصول إلى الطائرة، سواء من أجل إنقاذ أو استخراج ركابها الذين يفترض أنهم كانوا مربوطين إلى مقاعدهم بأحزمة الأمان، أو الوصول إلى جسم الطائرة من أجل استخراج الصندوق الأسود الذي يسجِّل الظروف واللحظات الأخيرة التي سبقت سقوط الطائرة؛ سواء في ذلك محادثات الطيار مع برج المراقبة أو الظروف التي واجهته، وأدت الى سقوط الطائرة، وعلى الرغم من استعانة السلطات اللبنانية بإمكانات وقدرات غير متوافرة للبنان من السفن المرابطة قبالة الساحل اللبناني لمراقبته (اليونيفيل) أو التي تمخر البحر المتوسط بشكل دائم، أمريكية أو بريطانية أو فرنسية؛ فإن عملية تعويم الطائرة واستخراج من بقي في هيكلها الرئيسي استغرق وقتًا طويلاً، لأسباب تعود في معظمها الى الأحوال الجوية العاصفة.

 

فالأمواج عالية، والرياح عاتية، والرؤية في المنطقة شبه منعدمة ليلاً أو نهارًا؛ لأنها تقع عند مصب نهر الدامور الذي يجرف الأتربة إلى البحر؛ ما جعل مياهه موحلة، لا تتوافر فيها الرؤية إلا للوسائل الحديثة التي جرى استقدامها عبر السفن الأمريكية والألمانية والتركية.

 

وككل حادث يقع في لبنان أو سواه من الأقطار؛ فإن الجرح لا بدّ أن يندمل بعد استخراج الجثث ودفنها، ولا بدّ أن يعود اللبنانيون إلى ما أثار الخلافات السياسية والطائفية قبل حادث سقوط الطائرة، وقد ساهمت مشاركة كلٍّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي، إضافة إلى الوزراء المختصين الذين شكّلوا ثلاث غرف عمليات، واحدة في القصر الجمهوري على رأسها وزير الدفاع إلياس المرّ، وثانية في مطار بيروت تولي إدارتها وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي، وثالثة في المستشفى الحكومي (مستشفى رفيق الحريري) برئاسة وزير الصحة محمد جواد خليفة، ساهم كل ذلك في امتصاص حالة الأسى والغضب التي سادت في مطار بيروت أولاً، وفي المستشفى الحكومي ثانيًا، وعلى طول الساحل جنوب بيروت في الأيام التالية؛ حيث يدور جدال طويل حول أسباب الكارثة، والتعويض على ذوي الضحايا.. لتعود القوى السياسية إلى القضايا المتراكمة أمام مجلس الوزراء.

 

بعض هذه القضايا جرى ترحيله منذ حكومة الرئيس السنيورة، كالتعيينات الإدارية والقضائية والعسكرية، وقد بات المواطن اللبناني يدرك أن الخلاف حولها يدور حول تقاسم كعكة الحكم بين أصحاب السلطة، وإن تنازع المصالح والمكاسب يجري تحويله إلى خلاف طائفي أو صراع مذهبي.

 

ويأتي أحد زعماء الكتل النيابية بالأمس ليقول إن آلية التعيينات مخالفة للقوانين، فنحن لدينا ثلاثون وزارة، وينبغي توزيع الوظائف على الوزارات، مع أنه يعرف أن آلية التعيينات ليست مخالفة للقوانين بل للمصالح، وأنه ليس لدينا ثلاثون وزارة بل ثلاثون وزيرًا، أما خفض سن الناخب اللبناني فلا علاقة له لا بالحقوق ولا بالواجبات، بل بحصص الطوائف أو حصص الأنصار والأزلام، ومع هذا فقد انبرى (الزعيم إياه) ليقول: "إن أبناء 18 سنة يحتاجون إلى تأهيل، ولا بدّ من تثقيفهم سياسيًّا؛ لأنه ممنوع عليهم الاستماع إلى المحاضرات وغيرها.."، مشبّهًا هؤلاء بالبنت التي "ما باس تمّها غير أمها.."؛ فهل يصح اتهام الشباب اللبناني بافتقاد الثقافة السياسية، مع أننا نشتكي من ذلك؛ لأن السياسة مادة أساسية في حياة اللبنانيين، رجالاً ونساءً، شيوخًا وشبابًا.

 

يأتي أخيرًا الموضوع القديم الجديد "تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية"، وقد برز مؤخرًا اقتراح في بيان أصدره منبر الوحدة الوطنية، اقترح فيه تسمية "الهيئة الوطنية لتجاوز الطائفية السياسية"، بدلاً من (إلغاء) الطائفية السياسية؛ فهل يقبل المتضرّرون من إلغاء الطائفية السياسية بـ"تجاوزها" تمهيدًا لإلغائها؟! لا أظن ذلك.

-----------

* الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان.