شروق شمس الضحى

لمحات عن الأصل والنسب:

يقول الشاعر المسلم عن موقف الذين تصدى لهم الرسول صلى الله عليه وسلم داعيًا ومعلمًا:

لما دعوت الناس لبى عاقل                  وأصمّ منك الجاهلون نداء

أبو الخروج إليك من أوهامهم                والناس في أوهامهم سجناء

ومن العقول جداول وجلامد                   ومن النفوس حرائر وإماء

 

يحدثنا صلى الله عليه وسلم عن نسبه، وأصله فيقول: "إن الله لما خلق الخلق فرقهم فرقتين، فجعلني من خيرهم فرقة، ثم فرقهم قبائل، فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم فرقهم بيوتًا فجعلني من خيرهم بيتًا، فأنا من خيركم بيتًا، ومن أطيبكم نفسًا".

 

مما لا شك فيه أن الأنبياء، والرسل عليهم الصلاة، والسلام من أفضل البشرية نسبًا، ومن أعلاهم قدرًا ومكانةً، كما أنهم أكملهم خَلقًا وخُلقًا.

 

يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل اصطفي بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفي من بني كنانة قريشًا، واصطفي من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم" رواه مسلم عن وائلة بن الأسقع.

 

الله أعلم حيث يجعل رسالته

يقول البعض- غفر الله لهم- إن الإسلام دين مثالي لا يقدر على تطبيقه إلا الأفذاذ من الرجال، ونحن ضعاف، فاحترامًا لهذا الدين نضعه على الرف، لئلا يتعرض للامتهان.

 

وهذا كذب صريح، وهروب من شرع الله، وحجة قد تنطوي على السذج من الناس ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ (الكهف: من الآية 5).

 

فالإسلام دينٌ مُيسَّرٌ، تستريح جميع النفوس إليه ويحيا الناس- على اختلاف ألوانهم وأجناسهم- في ظلاله وصدق الله العظيم ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)﴾ (القمر).

 

فالشريعة الإسلامية كلها رحمة، ويسر على جميع عباد الله، ولقد أقام الحق تبارك وتعالى حجته عليهم بأن حمل هذا الحق، وآمن به، وسعى لتحقيقه الأمي، والمتعلم وساكن، الصحراء، والبدوي، وساكن المدينة، والمتحضر كلهم سواء، يقول سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرََ﴾ (البقرة: من الآية 185).

 

ولقد كان من سنن الله عز وجل ورحمته بنا أن المعاني المجردة، أو المثالية كما يزعمون، قد لا تستقر في أذهان أكثر الناس ما لم تقترن بواقع محسوس يوضح معالمها، ويشرح مبادئها، ويدل على إمكانية تطبيقها في الواقع وفي دنيا الناس، وشاء الله عز وجل أن يجسد في رسوله الكريم صلى الله عليه، وسلم مبادئ الإسلام وشريعته الخالدة فأقامه نموذجًا عمليًّا واقعيًّا، هو قمة في الفضائل، والكمالات التي يحتاجها البشر لتحقيق خلافة الله على هذه الأرض، والله وحده جل جلاله هو الذي يعلم أين يضع رسالته، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين، ويقال لصاحبها: أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير.

 

قال تعالى في سورة الأعراف مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)﴾ (الأعراف: 158).

 

وقد جعل الله سبحانه وتعالى رسالته حيث علم، واختار لها أكرم خلقه، وأخلصهم، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله، وخاتم النبيين الفهم الدقيق لكتاب الله، أرجو الإمعان في ما سيأتي من كلمات من رجل عظيم يقول الأستاذ المرشد حسن الهضيبي رحمه الله تحت عنوان (وبالحق نزل): ليس في الدنيا كتاب أحاط بمسائل الحياة، وربط بين شئونها، وجعل بعض هذه الشئون أسبابه لبعض، وحل مشاكلها في بساطة ويسر كالقرآن الكريم ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾ (فصلت)، فإذا قرأته، وتدبرت آياته وجدته كُلاًّ لا يقبل التجزئة، ووجب أن تُرجع ما فيه من أحكام إلى أصولها حتى يتبين لك الحق فيها، فلا تقتصر على حكم دون أن تلقي بالاً إلى ما يتعلق به من الآيات الأخرى كما فعل، ويفعل بعض المسلمين في كثير من المسائل، ولتضرب لذلك مثلاً الآية الكريمة ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾ (المائدة)، لا شك أننا إذا قرأنا هذه الآية وحدها منقطعة عن باقي القرآن، وفهمنا السرقة بمعناها المنصوص عليه قانونًا من أنها "اختلاس مال مملوك للغير" شعرنا بشيء من التردد في أن يكون الأمر كذلك، وأن يعاقب السارق بقطع يده، أو شعرنا أن العقوبة رهيبة لا تتفق رهبتها مع تفاهة السرقة في حد ذاتها، أو تفاهة المسروق أحيانًا، وهذا ما يعترض به كثير من المسلمين، والأجانب على العموم، ويبدون امتعاضًا من هذا الجزاء الصارم، وهم معذورون في ذلك لأنهم لا يعرفون من أمر الإسلام ما يدعوهم إلى الاطمئان إلى أنه حق من عند الله: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)﴾ (الإسراء).

 

إن القوانين الوضعية لا تستقصي حالة السارق وفق السرقة، ولا تستقصي أثر الحكم فيه، وفي أهله، وولده، بل تعاقبه مطلقًا جاهلاً كان أم عالمًا، فقيرًا، أم غنيًّا، بل ربما كان علمه، وغناه من أسباب تغليظ العقاب، والأمر ليس كذلك في دين الله.

 

إن الله عز وجل أراد أن تنشأ العفة من داخل النفس أولاً فينصرف الإنسان عن المعاصي، وهو في خلوته لا يطلع عليه أحد من الناس، ويشعر بأن ربه معه أينما كان مطلع على أعماله، لا تخفى عليه منه خافية ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (المجادلة: من الآية 7)، وقد ذكر الله تعالى عقاب السرقة مرة واحدة، ولكنه كرر النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وصوّره في صورة مؤثرة ترد من تحدثه نفسه بأن يمد يده إلى مال غيره، دون حاجة إلى التخويف بالعقاب الدنيوي ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)﴾ (النساء: 10)، ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)﴾ (البقرة).

 

ونؤكد للأحباب جميعًا أنه من المحال إدراك حقائق الإسلام؛ عقيدةً وشريعةً وسلوكًا ما لم يقترب المسلم من رسوله صلى الله عليه وسلم، ويصاحبه بوجدانه، ومشاعره، من أول حياته إلى نهايتها، وما لم ينفصم كل جانب من جوانبها في جميع أحواله، وما لم يتعمق في سيرته صلى الله عليه وسلم، ويعيشها، ويحيا في ظلالها المباركة الكريمة.

 

أيها الأحباب:

كما أنه من البديهي ألا يكون أمام المسلم مثال غير رسول الله صلى الله عليه، وسلم فهو المعين الذي لا ينضب، والعطاء الذي لا ينتهي، وصدق الله العظيم ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ (الأحزاب).

 

أيها الأحباب:

إن أنبياء الله عز وجل، وإن كانوا بشرًا من البشر لكن الله يصطفيهم، ويختارهم، وهم أفضل أهل الأرض قاطبة؛ أبرهم قلوبًا، وأصدقهم لهجة، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلفًا، هم أمناء الله على وحيه، وهم الأسوة والقدوة، سرهم وعلانيتهم سواء.

 

وقد تم بمولده، وبعثته صلى الله عليه وسلم البناء، وكمل صرح الرسالات جاء في الحديث الصحيح "إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويتعجبون له، ويقولون هلا وضت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" رواه البخاري، ومسلم.

 

ونختم بما قاله الشاعر المسلم في مخاطبته لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، والوقوف على بابه، وما أحوجنا إلى ذلك:

يا سيدي يا رسول الله أنت لنا                يوم القيامة حقًّا عن بارينا

فاشفع لزمرتنا يا سيدي كرمًا              إن الشفاعة يوم الحشر تغنينا

وأشهد بأنا ظلمنا يوم محنتنا                 ويوم أغلق بالعدوان نادينا

ويوم حورب في الأوطان مبدأنا             واستشهد المرشد البنا مربينا

إنا كذلك ذقنا الكأس قاتلة                   يا سيدي وكما أوذيت أوذينا

 

والله أكبر ولله الحمد، والحمد لله رب العالمين..

------------

* من علماء الأزهر الشريف