الصورة غير متاحة

 أ. د. حلمي محمد القاعود

عقب موافقة مجلس وزراء الجامعة العربية مؤخرًا على المفاوضات غير المباشرة بين السلطة الفلسطينية المحدودة في رام الله والغزاة النازيين اليهود لمدة أربعة شهور، في فرصة أخيرة ليتخذ العرب بعدها موقفًا حازمًا؛ شنَّت القوات الغازية هجومًا شاملاً على المسجد الأقصى، وقامت باقتحامه من جميع الجهات، وفتحت أبوابه جميعها ليدخل منها الغزاة، وشرحت (الأهرام) في عددها الصادر بتاريخ 6/3/2010 م، الموقف كما يلي:

قامت قوات الغزو النازي اليهودي بتصعيد خطير ضد المقدسات الإسلامية‏؛ واقتحمت ساحة المسجد الأقصى، عقب صلاة الجمعة 5/3/2010م، وأغلقت أبوابه للمرة الثانية خلال‏ 5‏ أيام.

 

كما أطلقت الأعيرة المطاطية، والقنابل المسيلة للدموع على المصلين،‏‏ فأصابت‏71‏ فلسطينيًّا‏، بينهم نساء وأطفال،‏ وشهدت ساحة المسجد مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال‏،‏ وامتدت إلى منطقة باب حطة في البلدة القديمة المجاورة للمسجد الأقصى‏.‏

 

وقال شهود العيان من ساحة المسجد الأقصى لوكالة (رويترز) إن القوات الصهيونية أغلقت جميع أبواب ومداخل المسجد، وحشدت المئات من أفرادها على باب المغاربة‏,‏ وانتشرت بكثافة في ساحة الحرم القدسي‏,‏ وحاصرت المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة‏,‏ واستمرت المواجهات ‏3‏ ساعات قبل أن يعود الهدوء إلى الموقف‏,‏ بعد انسحاب جزء من عناصر الشرطة الصهيونية إلى باب المغاربة‏,‏ في حين بقيت أعداد كبيرة منها داخل ساحة المسجد‏,‏ ووفقًا لروايات شهود العيان‏,‏ فقد بدأت المصادمات بعد تنظيم المصلين مسيرةً سلميةً داخل ساحة المسجد الأقصى؛ للتنديد بقرار بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء اليهودي ضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح إلى قائمة المواقع الأثرية "لإسرائيلية".‏

 

ورشق المصلون جنود الاحتلال بالحجارة‏, ‏فردوا عليهم بإطلاق الأعيرة المطاطية، والقنابل المسيلة للدموع‏,‏ وسط حالة من الهلع والرعب التي انتابت المصلين من النساء والأطفال‏.

 

وفي محاولة لتفسير ما حدث قال شموليك بن روبي الناطق باسم شرطة الاحتلال في القدس: إن قوات الغزو تدخلت في ساحة المسجد، بعد أن قام متظاهرون فلسطينيون برشق اليهود الموجودين عند حائط البراق بالحجارة‏,‏ مشيرًا إلى أن عددًا من قوات الاحتلال أُصيبوا في المواجهات‏.‏

 

وقال عدنان الحسيني محافظ القدس: إنه يبدو أن هناك نيةً مبيتةً لدى هذه القوات لاقتحام المسجد الأقصى، وهي تتحمل مسئولية تداعيات ما يجري‏.‏

 

وعندما جاء جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي؛ ليفتتح المفاوضات المباشرة بين السلطة والعدو، فإن الغزاة أعلنوا عن البدء في تنفيذ بناء 1600 وحدة سكنية استيطانية في الضفة الغربية والقدس، وكان اللافت أن نائب الرئيس الأمريكي يتحدث عن أمن الكيان الصهيوني بقوة فائقة وحماسة شديدة، في الوقت الذي استنكر فيه إعلان إقامة المغتصبات بنوع ملحوظ من الحنان والرقة الذي لا يتناسب مع الجريمة اليهودية.

 

كبير المفاوضين الفلسطينيين كان غاضبًا، ومع تدفقه التعبيري في ذكر أخطاء وخطايا العدو، فإن ما تمخضت عنه تصريحاته المثيرة للضحك والبكاء في آن: هو قوله لا للاحتلال! وماذا بعد لا وألف لا؟

 

تنادى القوم من هنا وهناك بضرورة إجراء اجتماعات عاجلة للجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولم يقولوا هذه المرة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن؟ الشيوعي السابق ياسر عبد ربه القريب من رئيس السلطة في رام الله قال: إن عدة دول عربية أبلغت أمريكا انسحابها من الموافقة على المفاوضات غير المباشرة!

 

العالم العربي لم يتحرك على أي مستوى رسميٍّ أو شعبيٍّ، بعض الجامعات المصرية حاول طلابها التظاهر ضد ما يجري في فلسطين المحتلة، وإعلان رفضهم لاقتحام المسجد الأقصى والاستيطان، ولكن الأمن المركزي كان أقوى منهم وأكثر عددًا.. بينما هذا الأمن يترك ملايين الشعب المصري يتظاهر دون محاذير إذا كسب الفريق القومي كأسَ إفريقيا!

 

يتساءل كثير من الطيبين: لماذا يفعل بنا اليهود الغزاة دون أن نقدر على مواجهتهم والتصدي لهم ولو بالمظاهرات؟

 

إن حاكمًا عربيًّا أعلن قبل أيام الجهاد ضد سويسرا، وفرض عليها حظرًا اقتصاديًّا؛ لأنها وضعته وأسرته على قائمة الممنوعين من الدخول إلى أراضيها، وكانت غضبته "المضرية" التي تظهر على شاشات التلفزة تكشف عن استعداد قوي لمواجهة سويسرا وغزوها ومحوها من الوجود.. فلماذا لم يفعل ذلك مع الغزاة النازيين اليهود في فلسطين؟

 

دول عربية عديدة أوقفت صفقات سلاح ضخمة مع دول استعمارية كبرى أكبر من العدو النازي اليهودي لأسباب تافهة، تتعلق بتلقي بعض مواطنيها رشاوى أو بانحرافاتهم الشخصية.. ولكن المسجد الأقصى لا يلقى نصف هذا الاهتمام ولا ربعه.. لماذا؟

 

السبب بسيط جدًّا، أشار إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، حين قال: "ما ترك قوم الجهاد قط إلا ذلوا"! والحكومات العربية والإسلامية تركت جهاد عدوها، وتفرغت لجهاد شعوبها، وكأنها موكلة من خصوم الإسلام والمسلمين بمقاتلة أبنائها، وقهرهم وإذلالهم وهزيمتهم داخليًّا، وقد نجحت في ذلك نجاحًا عظيمًا وكبيرًا، فالمواطن العربي المسلم خاصة صار من أتعس الناس على ظهر الأرض، وأكثرهم ذلاًّ ومهانةً، ولا يحظى بالأمان أو الكرامة، فضلاً عن الحرية!

 

من لا يصدقني فليقرأ ما قاله شالوم كوهين سفير كيان القتلة اليهود في القاهرة الذي ترك منصبه قبل فترة لصحيفة (يديعوت) 1/3/2010، وأشار إليه فهمي هويدي، والسفير يصف العلاقة بين زعماء القتلة والمسئولين المصريين والحوار الناجح بين الطرفين، ثم ما يقوله عن الثقة المتبادلة، وعن ثقة كبار الوزراء المصريين- التي يعبِّرون عنها في الغرف المغلقة- في جدية نوايا نتنياهو السفاح الحالي الحاكم، وإن كانوا لا يُعربون عن ذلك في العلن، ويشير سفير القتلة إلى أن العلاقات الشخصية بين الطرفين تجاوزته لدرجة أنه في إحدى المرات لم يعلم بزيارة رئيس وزرائه للقاهرة إلا حين تلقى مكتبه اتصالاً من الرئاسة يسأل: كيف يحب رئيس حكومة "إسرائيل" تناول وجبة السمك، وإذا دُهش لذلك، فإنه أجاب: بأنه يفضل السمك البحري، ولا يتناول فواكه البحر؛ لأنه متمسك بالأكل الحلال (في الديانة اليهودية)!

 

أما عن الأحوال الداخلية في أمة محمد الحالية، فحدِّث عن الفساد ولا حرج، وهو فساد ينخر في العظام بعد أن تجاوز اللحم، انظر على سبيل المثال ما يحدث في السلطة الفلسطينية المحدودة في رام الله، وكيف أن قيادة سياسية- كما يقول فايز أبوشمالة- تُهزم أمام رجل واحد اسمه "فهمي شبانة" بالضربة القاضية، وتستسلم له، وتخضع لشروطه، وتلتزم بأوامره بإقالة رفيق الحسيني، وتخشى مما لديه من معلومات، إنها قيادة سياسية غير مؤهلة لقيادة شعب فلسطين، وهي قيادة ضعيفة، ومرتبكة، ومرعوبة، وجاهزة للتنازل في المفاوضات أمام القاتل "نتنياهو" وأمام الوحش "ليبرمان" عما هو أكبر بكثير؛ ما تنازلت عنه أمام الفرد "فهمي شبانة"!

 

إن الشعوب حين تكون مهزومةً من الداخل، والفساد يجرف أعماقها، لا تستطيع أن تواجه عدوها مهما كان صغيرًا أو ضعيفًا؛ لأن الهزيمة الداخلية أقوى من كل الجيوش التي تملكها لمحاربة الأعداء!

 

هل نشير في هذا الصدد إلى مجموعات صغيرة تواجه أعتى قوى الشر في العالم، هل أتاكم نبأ طالبان التي مرغت أنف أمريكا والناتو في التراب؟ إنهم غير فاسدين وغير مهزومين من الداخل؛ ولذا ينتصرون، ويطهرون أنفسهم من الخونة والعملاء باستمرار!

 

ثم تأملوا ما قالته منار الشوربجي عن أربعين مدينة حول العالم احتفلت الأيام الماضية بـ"أسبوع الأبارتيد الإسرائيلي"؛ فمنذ عام ٢٠٠٥م ينظم أصحاب الضمائر الحية في كل مكان، في الأسبوع الأول من مارس، فعاليات مختلفة، هدفها كسر جدار الصمت عمَّا يجري في فلسطين ومواجهة زيف الدعاية "الإسرائيلية"، التي تهدف لتبييض وجه الاحتلال، وتبرير الجرائم "الإسرائيلية" باسم "الدفاع عن النفس"، لكن أسبوع الأبارتيد "الإسرائيلي" شهد هذا العام حدثًا مهمًّا، إذ تم خلاله تسليط الضوء على بيان صدر باسم المسيحيين الفلسطينيين.

 

وأهمية البيان الموجه للمجتمع الدولي، وبالذات لأصحاب الإيمان المسيحي في العالم الغربي، أنه دعا لما هو أبعد ما يدعو له النشطاء كل عام منذ ٢٠٠٥م، فأسبوع الأبارتيد "الإسرائيلي" هو إحدى فعاليات الحركة الدولية لمقاطعة "إسرائيل"؛ وهي حركة عالمية متنامية هدفها نزع الشرعية عن الاحتلال، وإجبار "إسرائيل" عبر المقاطعة على إنهاء سياستها الاستعمارية والعنصرية، تمامًا كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، إلا أن بيان المسيحيين الفلسطينيين يطالب بما هو أبعد من ذلك، فهو دعا إلى فرض "عقوبات اقتصادية" شاملة على "إسرائيل"، أي نقل مطالب الحركة لنقطة أعلى.

 

ثم تأملوا في المقابل الممازحة التي جرت في مجلس الجامعة العربية على مستوى الوزراء، وأشار إليها مؤمن الهباء؛ مع ذكر نماذج للمقاومة لم نسمع عنها:

في هذه "الممازحة" قال أبو مازن للوزراء: "أنا ملتزم بقراركم.. إذا وافقتم سنذهب إلى المفاوضات وسنعطيهم فرصة! وإذا رفضتم سألتزم بقرار رفضكم ولن أذهب.. وإذا كان هناك بديل فأتوني به.. وإذا كان البديل هو الحرب فأعدكم بأن أكون في المقدمة"، وهنا رد رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم مازحًا: "إحنا يا أبو مازن بنحارب بالفلوس فقط".. وعلق أحمد أبو الغيط مازحًا أيضًا: "يذهب للحرب من لم يوقع اتفاق سلام مع "إسرائيل"".

 

أما الجانب الآخر من المفارقة، فقد جاء في مقال جهاد الخازن على الصفحة الأخيرة من (الحياة).. حيث حشد نماذج جديدة من المقاومة التي لم نسمع عنها.. والتي تنتشر في العديد من الدول ضد الفاشية "الإسرائيلية".. ومن تلك النماذج:

* تشارك جامعات عالمية في 40 بلدًا حول العالم في "أسبوع العنصرية "الإسرائيلي"" الذي يشمل محاضرات وأفلامًا وتظاهرات ونشاطًا إعلاميًّا واسعًا.. وسوف يفتتح الأسبوع بثلاثة محاضرين "إسرائيليين" من دعاة السلام هم: الاقتصادي شير هيفر، وعالم السلالات جيف هالبر، والسينمائي شير كارمل بولاك.

 

* أعلن 500 فنان في مونتريال بكندا، تضمهم جمعية "تضامن"؛ الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله ضد العنصرية "الإسرائيلية"، وتأييدهم لحملة مقاطعة "إسرائيل"، وعدم الاستثمار فيها، وفرض عقوبات عليها، وقد أصدرت الجمعية بيانًا يتحدث عن النكبة والاحتلال، وسرقة البيوت، وانتهاك القوانين الدولية.

 

* أصدرت الكنائس المسيحية الأمريكية "الكنيسة المنهجية" و"الكنيسة المشيخية".. وغيرهما؛ بيانًا طالبت فيه أتباعها بعدم الاستثمار في "إسرائيل"، ومقاطعة بضائعها.

 

* أعلن مجلس الكنائس العالمي في جنيف الذي يضم 100 كنيسة حملةً مماثلةً على "إسرائيل".

 

والسؤال الآن.. متى ينتصر العرب والمسلمون على الهزيمة الداخلية؛ ليواجهوا ما يجري للأماكن المقدسة في فلسطين، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك، وجرائم الاغتصاب الشريرة للأرض الفلسطينية؟

 

والجواب فيما أتصور يعلمه الجميع، وإن كان بعض الناس يتجاهل السؤال والإجابة معًا!

--------------

* [email protected]