ظهيرة يوم الأحد 13 أبريل 1975م بدأت الحرب اللبنانية بزخَّات من الرصاص أُطلقت على حافلة (باص) كانت تُقلّ مجموعةً من الفلسطينيين في طريق عودتهم من مخيم شاتيلا إلى مخيم تل الزعتر فقتلتهم جميعًا، وذلك عند مرور الباص على طريق الشياح- عين الرمانة؛ حيث أقامت المنظمات الفلسطينية وأنصارها في الحركة الوطنية اللبنانية بعد ذلك متاريس وحواجز في منطقة الشياح، بينما أقام حزب الكتائب وأنصاره سواتر ومواقع في منطقة عين الرمانة المقابلة.

 

لم تكن شرارة الحرب مفاجأة، فقد سبقها مقتل معروف سعد في صيدا، والاحتقان الذي أعقب توقيع اتفاق القاهرة بين الحكومة اللبنانية برئاسة رشيد كرامي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقبل ذلك الإحساس بالغبن لدى المسلمين في لبنان نتيجة حرمانهم من مواقع التأثير في القرار السياسي: (رئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش، وحاكمية البنك المركزي)، في معادلة تعتبر المسيحيين أكثرية، والمسلمين (من كلِّ الطوائف) أقلية.

 

وكان في الساحة اللبنانية مَن يسمي تلك الأحداث حربًا أهلية، ومن يعتبرها "حرب الآخرين على أرضنا"، بينما تأكد بعد ذلك أنها حرب صهيونية بامتياز؛ لأن المقاومة الفلسطينية نقلت إلى لبنان فصائلها وأسلحتها بعد معارك "أيلول الأسود" في الأردن؛ ولأن منظمة التحرير بسطت سيطرتها على معظم مناطق الجنوب اللبناني، ومنه إلى المناطق التي كانت تسمى وطنية أو إسلامية، من بيروت إلى الشمال والبقاع.

 

توقفت المرحلة الأولى من الحرب رسميًّا مع نهاية عام 1976م بقرار أصدرته جامعة الدول العربية، يقضي بتشكيل "قوات الردع العربية"، التي نشرت قواتها في مواقع الاقتتال، وكانت سوريةً سعوديةً ليبيّةً سودانيةً إماراتيةً، ثم انتهت إلى أن تكون سوريةً فقط بعد انسحاب القوات الأخرى، نتيجة التواصل البري والامتداد السكاني والأمني بين البلدين. وقد كانت سوريا خلال هذه المرحلة حليفًا لفصائل المقاومة الفلسطينية برئاسة عرفات، والحركة الوطنية اللبنانية بزعامة كمال جنبلاط، لكن الصورة انعكست في بعض المراحل وشهدت مصرع جنبلاط، وقيام معارك في الجبل والجنوب بين حلفاء الأمس؛ ما قلب المعادلة وجعل حلفاء الأمس أعداء الحرب.

 

في مطلع يونيو 1982م فتحت صفحة جديدة في الحرب اللبنانية، بالاجتياح الصهيوني الكبير، ووصول قوات الاحتلال إلى العاصمة بيروت، وبروز ظاهرة "المقاومة الإسلامية" بعد الوطنية والفلسطينية، وخروج قوات الاحتلال بعد أيام من بيروت، وبعد أشهر إلى صيدا، وفي فبراير عام 1985م إلى الشريط الحدودي، وفي عام 2000م إلى خلف الحدود اللبنانية.

 

وقد تخلل هذه المرحلة حروب وأحداث متوالية من قيام حركة التوحيد في طرابلس عام 1983م وحرب ياسر عرفات مع سوريا، إلى انقسام حركة فتح وحصار طرابلس عام 1985م، وبعدها حروب المخيمات وحصارها من عين الحلوة إلى الرشيدية، وحروب العلمين في بيروت بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي، وتفجير سيارة المفتي الشيخ حسن خالد، وطائرة الرئيس رشيد كرامي، وصولاً إلى توقيع اتفاق الطائف، وانتخاب رينيه معوّض رئيسًا للجمهورية، وتفجير موكبه بعد أيام، وانتخاب إلياس الهراوي.. وصولاً إلى دخول الرئيس رفيق الحريري على مسار الحياة السياسية.

 

نعود إلى طرح السؤال الأساس: هل هي حرب أهلية لبنانية؟ لا بالتأكيد؛ لأن الجانب الإقليمي والدور الصهيوني فيها واضح جليّ، بالمقابل هل هي- كما يقولون- حرب الآخرين على أرضنا؟ لا كذلك؛ لأن أيَّ حرب لا بدّ لها من مبررات وأدوات، وما لم تتوافر هذه المبررات والأدوات فلا يمكن لأي حرب أن تقوم، يُضاف إلى ذلك التمويل والحوافز الدينية أو المذهبية أو القومية؛ لذلك فإنه لا بدّ أن يصل اللبنانيون، بكل أطيافهم الدينية والمذهبية، والسياسية والقومية إلى أن يتعلموا دروسًا من هذه الحرب الطويلة العالية الكلفة، فقد جرى تدمير البلد عدّة مرات، وتهجير أهله من منازلهم ومدنهم وقراهم ومخيّماتهم عدّة مرات كذلك، وتكبدوا حوالي مائتي ألف قتيل، وتشردوا في كل أقطار الأرض، وتأكد لهم أن "لبنان" الحرّ المستقل، هو الخيار الوحيد المتاح لجميع اللبنانيين. ونتيجة الانهيار العربي والتردي السياسي في المنطقة، فقد تراجعت الرؤى القومية، عربية وسورية، وبات الخيار اللبناني هو الوحيد الذي يجد له أصداءً لدى التيارات الشبابية، مسلمة كانت أو مسيحية، وباتت التوجهات الوحدوية طرحًا تاريخيًّا لا يجد له أي رصيد في الشارع العربي واللبناني على وجه الخصوص.

 

هذا لا يعني بأي حال أن تنكفئ القوى الحيّة في المجتمع، لا سيما الإسلامية فيه، من الاهتمام بالقضايا الكبرى إلى التقوقع داخل الإطار العنصري أو المذهبي؛ لأن أمامنا قضايا كبرى بالغة الأهمية لا يمكن معالجتها إلا بتنسيق الجهود وتكامل القوى ورصِّ الصفوف، وأبرزها القضية الفلسطينية، ونحن نرى العالم من حولنا يتجه إلى الوحدات الكبرى سعيًا وراء المصالح والمنافع، فأوروبا التي لا يجمع بين أقطارها لغة ولا قومية ولا دين، نراها تنشئ الاتحاد الأوروبي، وترفع الحدود والحوجز فيما بينها، وكذلك تفعل دول أمريكا الوسطى والجنوبية، وعددٌ من الدول الآسيوية.

 

ونحن في لبنان، صحيح أننا نحرص على سيادتنا وحرّيتنا واستقلالنا، لكن هذا لا يعني انقطاعًا عن العالم العربي، وتقوقعًا حول قضايا داخلية وانتماءات وزعامات عفا عليها الزمن، وإذا كانت الحرب اللبنانية الطويلة لا تزال تعشش في عقول أو مخيّلات بعض اللبنانيين، فإن عليهم أن يدركوا أن صاحب المصلحة الأول والأخير لا يمكن أن يكون لبنانيًّا؛ لأن تاريخنا الحديث يؤكد أن هذه الحرب لم تحقق مصلحة ولا تقدمًا ولا تفوّقًا لأيّ من القوى أو الأحزاب أو الطوائف اللبنانية، وأن الكيان الصهيوني هو المستفيد الوحيد منها، فلبنان بلد تعددي، في الدين والسياسة، وهو نقيض الكيان الصهيوني الذي يقيم كيانًا عنصريًّا ضيقًا لا يشاركه فيه أحد؛ لذلك فإنه معنيّ بإضعاف النموذج اللبناني الحر التعددي أو إزالته لو استطاع، وتبقى القضية الفلسطينية هي الجامع الأكبر للبنانيين مع العرب جميعًا من أجل مواجهة المشروع الصهيوني الذي يريد بناء الكيان العنصري النقيض للجميع، مسلمين ومسيحيين، وما يجري هذه الأيام في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي القدس الشريف، من تواطؤ وتآمر لإزالة المعالم المسيحية والإسلامية، خير شاهد على ذلك.

-----------

* الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان.