الحمد لله المتفرد بالجلال، المحمود على كل حال، المعبود بالغدو والآصال، والصلاة والسلام على محمد وصحبه وآله وبعد، فقد أكرمنا سبحانه وتعالى بنعمة الإيمان، ومَنّ علينا بنعمة الإسلام، وأرسل فينا خير رسول أُرسل، وأنزل لنا خير كتاب أنزل، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر، وقد أعزنا الله بالدعوة إليه والعمل لدينه في زمن قل فيه العاملون وكثر فيه القاعدون عن نصرة الدين والدعوة إليه بإحسان، ونعمة الدعوة فضل من الله واصطفاء منه سبحانه لبعض عباده رغم أنها واجب على الجميع كل في ميدانه ومجاله امتثالاً لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾ (يوسف).

 

ولأن الدعوة إلى الله شرف وعز لنا، فقد نقلنا الله بسببها من دائرة السكون والهزل إلى ميدان الحركة والجد، ومن دائرة الانشغال بالنفس إلى ميدان الاهتمام بالغير من غير إهمال للنفس، ومن دائرة السلبية والعجز إلى ميدان الإيجابية والبذل، ومن دائرة الهمل إلى ميدان العطاء والأثر، فبارك الله بها الأعمار والأوقات، ورفع بها الدرجات، وأعطى بها الأجر، وأحسن بها الذكر.

 

ما أروع الحياة في كنف الله

إن الحياة الحقيقية ما كانت في كنف الله وطاعته والعمل لدعوته والتضحية في سبيله وفي السعي لقضاء حاجات عباده، أما من حرم هذه النعم وعاش بعيدًا عن ربه منشغلاً بنفسه غير نافع لغيره فهو في عداد الأموات، وإن كان يأكل ويشرب ويمشي بين الناس، قال تعالى: ﴿أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾ (الأنعام).

 

بل إن عباد الله الصالحين العاملين الذين ضحوا من أجل دعوتهم ودينهم تمتد حياتهم بعد موتهم، في الوقت الذي يحيا فيه أناس يأكلون ويشربون، ولكن لا أثر لحياتهم فيمن حولهم، والسبب في امتداد حياة المجاهدين العاملين هو ما قدموه مخلصين لله فيه، وما بذلوه يرجون من ورائه الأجر لا الذكر فيحيي الله أعمالهم وتظل آثارهم الطيبة تتحدث عنهم، وتبقى أخلاقهم وأعمالهم ومواقفهم يقتدي بها الناس فيؤجرون بذلك وكأنهم أحياء يعملون الصالحات وينالون الحسنات.

 ورحم الله من قال:

الناس صنفان موتي في حياتهم                وآخرون ببطن الأرض أحياء

 

 من أصناف الناس في الحياة:

(1) صنف يعيش لنفسه:

هو صنف من الناس يولد بميلاده لكنه يموت بموته، قد يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض؛ لكنه طول حياته لا ينشغل إلا بنفسه ولا يهتم بما يدور حوله، حريصًا على كل شيء يخصه، تجده سعيدًا فرحًا لأن خيرًا عاد عليه، وتراه مهمومًا حزينًا لأن مصابًا ألمَّ به، هذا الصنف من الناس تنقضي حياته بمجرد موته؛ لأن أثره الإيجابي فيمن حوله محدود، لا يمتلك رصيدًا في قلوب الناس، لأنه لم يشاركهم أحوالهم ولم يحسن التواصل معهم، ولذلك سرعان ما ينسى، فلا أثر له ولا ذكر له.

 

والمسلم الحق مطالب أن يحسن معاملة الناس والتواصل معهم، والتحرك بالخير بينهم، بل مأمور بحسن التعامل مع جميع الخلق حتى مع الحيوانات، ألم تدخل امرأة مؤمنة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض؟ ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" (أخرجه الشيخان).

 

والمسلم الحق هو من تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، بمعنى أن يكون لهذه العبادة وغيرها أثر في حركته بين الناس وعلاقاته معهم وإلا قد لا تُقبل صلاته وعبادته إذا لم يستقم سلوكه، يقول الله تعالى في حديث قدسي: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصرًّا على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي، وأستحفظه بملائكتي، أجعل له في الظلمة نورًا وفي الجهالة حلمًا، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة" (رواه ابن عباس).

 

(2) صنف يعيش لغيره:

هو صنف من الناس لم يهمل نفسه ويهتم بشئون الآخرين، ولكنه مع انشغاله بنفسه اهتمَّ كثيرًا بمن حوله، ولذلك يولد بميلاده لكنه لا يموت بموته، لأن أفعاله وأعماله الصالحة التي أخلص فيها لله أحسنت ذكراه في العالمين، ويتقدم هذا الصنف من الناس أنبياء الله ورسله ومن سار على نهجهم من المصلحين والدعاة إلى يوم القيامة. فجميع الأنبياء والرسل بعثهم الله من أجل تبليغ دعوة الله إلى الناس، وإرشادهم إلى طريق الهداية والصلاح، فقوبلوا بتعنت من أقوامهم فصبروا على أذاهم من أجل صلاحهم وهدايتهم، فمنهم من سجن من أجل قومه ومنهم من عذب وشرد، بل منهم من قتل وهو يدعو قومه إلى الله.

 

وعلى هذا الدرب سار صحابة رسول الله، فأحسن الله ذكرهم في العالمين؛ فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه كان قبل إسلامه يرعى بضع غنمات لسيده في البادية، فهو مملوك لسيده مع ما يرعى من أغنام، وبالتالي ماذا إن مات وهو يرعى الأغنام؟ هل كنا سنعرفه؟ بل ما وزنه في حسابات سيده؟ وما وزنه في تاريخ البشرية إذا مات في هذه الحالة؟ ولكنه بإسلامه وصبره وجهاده وتضحيته في سبيل دعوته خلد الله ذكره في العالمين، فتسأل الآن ونحن في القرن الخامس عشر الهجري طفلاً صغيرًا في إحدى جزر إندونيسيا، هل تعرف بلالاً؟ يقول نعم! هو مؤذن النبي، وتسأل عجوزًا مسلمًا في أدغال إفريقيا، هل تعرف بلالاً؟ يقول أجل! هو ذاك العبد الحبشي الذي كان يعذبه سيده فيقول أحدٌ أحدٌ، وتسأل طفلة في أحد نجوع مصر وتقول لها: هل تعرفين بلالاً؟ فترد عليك نعم! هو كذا وكذا.... والسؤال: من الذي خلد ذكره وأبقى أثره في العالمين؟ إنه جهاده وتضحيته، إنها حياته التي لم يعشها لنفسه، بل عاشها لدعوته ودينه ونصرة نبيه، وهذا ما كان عليه صحابة رسول الله والتابعون وتابعوهم بإحسان، فكانوا مصابيح للهدى في كل زمان ومكان.

 

وعلى درب العمل لدين الله يسير الدعاة العاملون، فهذا الإمام البنا وهو ابن الثانية والعشرين يفكر في أمر دعوته ودينه، ينشغل بحال أمته، ويؤسس لحركة تسعى إلى التمكين لدينه وتحقيق الأستاذية للإسلام والمسلمين في هذه الحياة (لتكون كلمة الله هي العليا)، وينذر لذلك حياته فيجوب القرى والنجوع والبلدان، يدعو للإسلام ويربي الناس عليه حتى أنه قال: (وددت أن أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه)، فبسبب إخلاصه وجهاده وتضحيته (ولا نزكي على الله أحدًا) انتشر الخير في الدنيا مع هذه الحركة، وأصبح رجالها في ربوع الأرض يدعون إلى الإسلام بشموله ووسطيته، ومع هذا الفتح تربى الناس على أفكاره ومنهجه، فأحسن الله ذكره في العاملين.

 

ورحم الله الشهيد سيد قطب حين قال: (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة..).

 

أهل الدعوة يكرهون السكون والعجز

وهكذا يكون الدعاة والعاملون، تراهم يكرهون السكون والعجز، يحرصون على العلاقة بربهم ومنها ينطلقون بين عباده ينشرون الخير بينهم، يفرحون لفرح الناس ويحزنون لحزنهم، أفضل أيامهم يومًا أطاعوا الله فيه بصلاة مقبولة، وتضحية مبذولة، وعون مشكور، واقتراب نصر مأمول، وحاجة عبد من عباد الله يقضيها، وراية في ميدان للدعوة يعليها.........

 

 يقول الشيخ محمد عبد الله الخطيب: (إن الأخ الصادق يجب أن يشعر بأن دعوته حية في أعصابه، متوهجة في ضميره، تجرى في دمائه، وتنقله من الراحة والدعة إلى الحركة والعمل، وتشغله بها عن نفسه وولده وماله، وهذا هو الأخ المؤمن الذي تحس إيمانه بدعوته في النظرة والحركة والإشارة وفي البسمة التي تختلط بماء الوجه، وهو الأخ الذي ينفذ كلامه إلى قلوب الناس فيحرك عواطفهم إلى ما يريد من أمر الدعوة) مفاهيم تربوية ج4 ص 58.
 يقول الإمام الشافعي: 

 إني رأيت وقوف الماء يفسده               إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب

والأسد لولا فراق الأرض ما افترست       والسهم لولا فراق القوس لم يصب

 والشمس لو وقفت في الفلك دائمة          لملها الناس من عجم ومن عـــرب

 

ندعو الله أن يجعلنا من عباده الصالحين ومن جنده المخلصين العاملين، وأن يجعلنا من عباده الذين يذكرون بالخير بعد موتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه... والحمد لله رب العالمين.