الإسلام وحرية الإنسان

يتغنى البعض في هذا الزمان ويقول إننا نعيش في عصر حرية الإنسان ورعايته وكرامته، وأنه يعيش في عصر الحصول على الحقوق، ويحظى بالكرامة، وها هي هيئة الأمم المتحدة تضع حقوق الإنسان، وترفع من قدره، وتحفظ له حريته وكرامته.

 

تسمع هذه الدعاوى الباطلة وغيرها ثم تنظر حولك تبحث عن أثر لهذا الضجيج، وعن واقع يقع عليه بصرك، فلا تجد إلا النقيض وإلا العكس من ذلك تمامًا.

 

تنظر مثلاً إلى منطقة الشرق الأوسط التي تزعم أنها بلاد الحريات، ومكان كرامة الإنسان التي يتفيؤ الجميع ظلالها، فلا تجد إلا الخيال وإلا الضياع، فالإنسان هنا لا يعرف الأمان ولا يعرف الأمن ولا يعرف الاستقرار من كثرة ما يحيط به من متابعات لا يدري لها معنى، ولا يدرك لها نهاية.

 

لقد عرفت البشرية الكرامة والحرية الحقيقية، وعاشت في أمان يوم أن وقف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فوق عرفات يعلن حقوق الناس: فقال: "أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".

 

وجاء القرآن ليقول في صراحة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات)، ويقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾ (الإسراء).

 

ما بال الإنسان وقد كرمه خالقه وأثنى عليه يعيش مطاردًا لا حق له ولا وجود له؟! كأن الله عز وجل يعلن تكريم الإنسان وإعزازه ثم يطلع مخلوق تافه مستبد، فيضطهد من كرمه الله، ويسلب حريته التي خلقها الله معه، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!".

 

يقول المفسرون في معنى هذه الآية: لقد كرَّم الله هذا المخلوق البشري على كثيرٍ من خلقه، كرَّمه بخلقته على تلك الهيئة بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان، وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض.. وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض.. وكرَّمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تجمعت فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان.

 

وكرَّمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض.. القرآن الكريم، ولقد أقام الإسلام الرسالة الخاتمة للبشرية كلها العلاقات بين أبناء مجتمعه على دعامتين أصليتين:

أولاهما: رعاية الأخوة التي هي الرباط الوثيق بين بعضهم مع بعض.

والثانية: صيانة الحقوق والحرمات التي حماها الإسلام لكل فردٍ منهم من دم وعرض ومال.
وكل قول أو عمل أو سلوك فيه عدوان أو ترويع أو نقص من هاتين الدعامتين فالإسلام يحرمه تحريمًا باتًا إلى يوم القيامة.

 

ولذلك حرَّم الإسلام التجسس والغيبة وتتبع عورات الناس جاء في الحديث: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تتبعوا عورات الناس، فإن مَن تتبع عورات الناس تتبع الله عورته، ومَن تتبع الله عورته فضحه ولو في قاع بيته".

 

يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)﴾ (الحجرات).

 

هذه الآية تقيم سياجًا آخر وسورًا مانعًا لكل مَن تسول له نفسه تحت أي اسم أن يتتبع الناس وأن يؤذيهم، تُقيم سياجًا حول حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم، وهي تُعلِّم الناسَ جميعًا وعلى كافة المستويات كيف يطهرون مشاعرهم وضمائرهم.

 

وليس كل ما يهجس في ضمير إنسان- أيًّا كان- نحو الآخرين مطلوب منه أن يتابع غيره بناءً على هذا الهاجس أو الظن؛ لأنهم لو فعلوا ذلك سيتركون أنفسهم نهبًا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك.

 

والتجسس من الأمور الوضيعة التي لا يأتيها الإنسان إلا وقد هبط عن مستوى البشرية وارتكس وانتكس وخاب وضاع، وهذا العمل الدنيء يقاومه القرآن بعنف، بل يطهر القلوب من هذه الدناءات ومن هذا التدني إلى عالم الحيوان، ومن هذا السقوط والضياع.

 

أيها العرب.. أيها المسلمون.. أيها الناس أجمعون:

إن للبشرية التي خلقها الله وكرَّمها حريات وكرامات وحرمات لا يجوز بأي حالٍ من الأحوال أن تُنتهك بأي صورةٍ من الصور إلا في عالم الحيوان الذي سقط في هوة الضلال.

 

إن طبيعة المجتمع الإسلامي وخصائصه الأساسية أن يعيش الناس آمنين مطمئنين على أنفسهم وأرواحهم وبيوتهم وأعراضهم وكراماتهم وأسرارهم فلا تنتهك أبدًا.

 

وأمر مهم يجب أن يُعلم وهو: أن دعوى البعض بأنه إنما يفعل ذلك ليتتبع الجريمة وتحقيقها.. وهذا لا يصلح في النظام الإنساني والإسلامي ذريعة أو مبرر للتجسس على الناس؛ فالناس على ظواهرهم وليس لمخلوق كائنًا مَن كان تحت أي مسمى أن يتعقَّب بواطنهم أو يتابعهم أو يرهبهم، وليس لأحد كائنًا من كان أن يأخذهم إلا بما ظهر منهم.

 

وها هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في مرض الموت يخرج إلى المسجد متكئًا على عمه العباس من شدة المرض ويجلس فوق المنبر ليعلن هذه الحقائق بأعلى صوته.. تسمعه البشرية كلها ويسمعه الحكام قبل البشرية.. وليقف الجميع عند حدودهم يقول صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس من كنت جلدتُ له ظهرًا فهذا ظهري فليجلده، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليشتمه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذه، ولا يخشى الشحناء فإنها ليست من قبلي، ولا يقل أحدكم فضوح الدنيا فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة"، ويظل على ذلك صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ينادي في المسلمين جميعًا ويعلمهم ويربيهم على احترام حقوق الآخرين.. صلى الله عليك يا حبيبي يا رسول الله.. تُقيم دولةً وتنشئ أمةً وتخوض معارك، والناس آمنون على دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحرياتهم وكراماتهم.. ماذا تقول لو كنت بيننا اليوم وأنت ترى عالم الثعابين والحيات والعقارب التي ينهش بعضها بعضًا.. ماذا تقول لنا عن إخواننا في فلسطين كيف تركناهم؟ وحيل بيننا وبينهم، وانفردت بهم الكلاب المسعورة؟ والعجيب أن العالم كله يقف مع المعتدي ويعين الظالم.

 

لا بأس فالعاقبة للمتقين.. والنصر للمؤمنين ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: من الآية 47).

 

ما يقع اليوم على الشعوب المغلوبة على أمرها خطير وكبير وعار على الإنسانية- ما الذي جناه المسلمون في أفغانستان، ما الذي ارتكبوه حتى تصادر حرياتهم، وتُباح دماؤهم وأعراضهم إلا أنهم قالوا ربنا الله.. هل الذي يقول: ربي الله يعتبر متطرفًا وخارجًا على القانون؟! تُباح بلدة ويعذب في وطنه، ويقتل جهارًا نهارًا!!

 

ما الذي جناه المسلمون في كثيرٍ من الدول العربية والإسلامية حتى ينزل بهم ما نزل؟! أين هيئات حقوق الإنسان؟ وأين ذهبت؟ ما معنى أن يتسلط القوى على الضعيف ثم لا يجد مَن يرده.. عفاء على الرجولة في هذا العالم الذي فقد الطريق وضلَّ السبيل، فإذا به يتخبط.

 

أين حرية المسلمين في أوروبا وأمريكا؟ ما الذي اقترفه النقاب أو الحجاب سوى أنه علامة على حسن الخلق، وعلى أن صاحبته تُحيي مجموعةً من الأخلاق الطيبة التي جاء بها الإسلام؟! هل هذه المحجبة أو المنتقبة تستحق كل هذا التضييق في أمريكا وأوروبا؟ وتصبح خائفةً في بلاد تزعم حرية الإنسان وكرامة الإنسان ثم يتكشف الأمر عن وجوه قبيحة ونفوس دنيئة، وضلال كبير، وفجور زاد على كل الحدود، ما الذي فعلته شهيدة ألمانيا المحجبة؟ وهي ترتدي ملابسها البيضاء التي تدل على نقائها وصفائها وطهارتها؟ هذه مبررات للاحترام والتقدير.. إنما في العالم المريض الساقط المادي المخمور المتعفن تصبح الأخلاق الطاهرة الزكية موضع كراهية وحقد لأن الإنسان المريض يشعر بطعم العسل مرًّا.

 

والعجيب الذي لا ينتهي منه العجب أنهم في بلادهم يحاربون الحجاب ويحاربون العفة، ويحاربون الطهارة، ويحاربون الرقي الحقيقي للإنسان، ثم يأتون إلى بلادنا عرايا باسم السياحة ولا يقال لهم كتنبيه: أنتم في بلد إسلامي له أخلاقه وله طباعه وله حرماته.

 

إن المسلم ليصاب بالحيرة وهو يرى هذه المتناقضات وهذه العجائب وتلك الغرائب في كل شيء.

 

أيها المسلمون.. إن لنا سلاحًا لا يفل أبدًا ولا تنال منه الأيام ولا الليالي؛ سلاحنا هو الحق، والحق باقٍ خالد إلى قيام الساعة.

 

وفي النهاية ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)﴾ (الأنبياء: 18).

 

إن من سلاحنا أن نبين للناس جميعًا هذا الدين، ونكشف لهم عن فضائله، ونبلغهم كلمة الله، ورسالة السماء، والحق باق غلاّب، والباطل ذاهب لا بقاء له.

 

إن من واجب هذا الإسلام علينا جميعًا أن نكون أهلاً لحمل رسالته، وصورة طيبة لأسلافنا رضوان الله عليهم، والذين قال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾ (الأحزاب).

---------------

* من علماء الأزهر الشريف