(حاجة البيوت إلى دستور ينظِّمها)

بقلم: د. رشاد لاشين

الأسرة المسلمة هي المشروع المصغَّر للأمة الإسلامية، وهي وحدة البناء والتأسيس لها، وإذا كانت الدولة والأمة لا تصلح إلا بدستور وقانون لتنظيم الشئون والعلاقات وتحقيق الرسالة والمهام فإنَّ الأسرة أولى بهذا؛ لأنها هي التي تُخرج الرجال الذين يديرون شئون الدولة والأمة.

 

كثيرة هي القواعد والنظم والآداب والإرشادات والنصائح والتعليمات والواجبات الخاصة بتربية الأبناء وإدارة شئون البيت، ولكنها تتفلَّت أو تضيع من الآباء والأمهات لأسباب عديدة، فتارةً بسبب النسيان، وتارةً بسبب غياب الأهداف، وتارةً بسبب عدم القدرة على التطبيق، وتارةً بسبب غياب المنهجية، وتارةً بسبب المعوقات، وتارةً بسبب الصدام والصراع مع الأبناء، وتارةً بسبب عدم امتلاك القدرات والتدريب الكافي الذي يمكن من حسن التطبيق والتوظيف العملي و... و... و...، وهذا ما يؤكد الحاجة إلى آلية ومنظومة عملية تمكِّن الآباء والأمهات من حسن التربية وتطبيق قواعدها بيسر وسهولة وهذا ما يسمَّى بــ: "التربية بالدستور" أو "اللائحة الداخلية للبيت" أو "قواعد التعامل في البيت" أو "قوانين البيت".

 

 الصورة غير متاحة

 د. رشاد لاشين

وهي طريقة من أنجح الطرق وأهمها في التربية، وذلك بتجميع القواعد والنظم والفوائد التربوية والاتفاق مع الأولاد على تطبيقها تدريجيًّا في جوٍّ من الشورى والود والتوافق والانسجام والتعاون والتطبيق العملي بالمكافأة والمحاسبة، ثم المراجعة والتعديل عبر محاولات للوصول للأفضل.

 

إن الأسرة التي تنشد تأسيس جيل صالح يحمل راية الإسلام لا بد أن يكون لها رؤيةٌ ورسالةٌ وأهدافٌ ومهامُّ، تطبقها عبر دستور يحدده أفرادها، يتفقون عليه، ويشاركون في تأسيسه، ويتعاونون في تطبيقه، ويتوافقون على تعديله.

 

وقد ثبت من خلال الدراسات الواقعية أن البيوت التي يوضع فيها قواعد ونظم ولو بسيطة تثمر شخصياتٍ ناجحةً منظمةً ذات رؤية وقدرة على إدارة الحياة بنجاح، وهناك بعض الدول مثل فرنسا تحرص على وضع دستور للبيت كل 5 سنوات، ويوضع من خلال نخبة من الخبراء والمتخصصين كقواعد عامة يسير عليها البيت، ثم تتم مراجعة الأمور ورصد الإيجابيات والسلبيات وإجراء التعديلات ووضع دستور جديد لـ5 سنوات جديدة، وهكذا، ونحن خير أمة أخرجت للناس، ونملك أرقى منهج تربوي في العالم ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)﴾ (البقرة).. ألا يجدر بنا أن نعد دستورًا نصلح به حياتنا ونصلح به العالم بإذن الله تعالى.

 

والبيوت التي تسير دون قواعد وأهداف ونظم تضربها الرياح كيفما شاءت، فمرة هادئة، ومرات عاصفة، لا تدري إلى أين تسير، وإليكم هذا النموذج الذي يبيِّن عرض مشكلة واقعية تتكرر كثيرًا في البيوت التي تسير بلا دستور: "مشكلة أم شهاب من فلسطين" والتي أرسلت استشارة تقول فيها:

 

[السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أرجو أن تتحمَّلوني أنا ومشكلتي؛ فأنا وأولادي كمن هم في ساحة حرب، لا يخمدها إلا سويعات النوم، وما إن يبزغ نهار يوم جديد حتى تبدأ الحرب من جديد، أنا أم لسبعة أطفال.. إنني عندما أوجه لأحد أولادي طلبًا يبدأ بالتلكؤ، وبعدها يثور ويبدأ يندب حظه العاثر- على حد تعبيره- وعندما أطلب من أحدهم شيئًا يبدأ بالصراخ: "لماذا طلبت مني أنا وليس من أخي؟!"، والآخر يقول نفس الكلام، وعندما يجنُّ جنوني وأصبح مثل حبة الحمُّص في المقلاة، ينفذون ما أطلب.. أناشدكم الله أن تعلموني كيف أجعل أولادي يتحمَّلون المسئولية نحو أشياء بسيطة وضرورية؟! فهذا ما يوتِّر علاقتنا ببعض؛ لدرجة أن ابني الكبير عندما أطلب منه شيئًا بسيطًا يبدأ يدعو على نفسه بالموت، بينما في المقابل يريدون من الأم مارد علاء الدين، يفرك خاتمه فيظهر المارد، ويقول: "شبيك لبيك، عبدك بين إيديك"، وماذا لو أن للمارد سبعة علاء الدين، فماذا سيفعل هذا المارد المسكين؟! سامحوني على الإطالة عليكم].

 

بالقصص نربي أبناءنا على احترام النظم والقوانين

السير بالقواعد والنظم والدستور في البيت يحتاج إلى تهيئة وتدريب وتعليم وتعويد وتدرُّج في التطبيق، وإحساس بفائدة العمل بالقوانين في جوٍّ من الارتباط بالهدف والحب والحرص والاهتمام، وقبل أن نتطرَّق إلى نص الدستور وفنون تطبيقه وكيفية وضع القواعد في البيت ومساعدة الأبناء على تنفيذها نقدِّم لكم قصةً تعلِّم الأبناء حب القوانين واحترامها:

 

ميمون والقانون:

ميمون قرد يعيش مع أخته وأمه وأبيه فوق واحدة من أشجار الغابة، وكان في الغابة قوانين اسمها قوانين الغابة؛ فهل تعرفون ما تلك القوانين؟ (الأعمال التي يجب أن تنجزوها على نحو صحيح، وإلا فإنكم ستعاقبون) وهل تعرفون شيئًا عن العقوبة؟ (يحدث لكم شيء ما محزن إذا انتهكتم القانون).

 

كان في الغابة قانونان يقضي أولهما بالتشبُّث بالشجرة بواسطة اليد أو القدم أو الذيل، وما عقوبة انتهاك هذا القانون؟ (السقوط!).

 

ويقضى القانون الآخر بأنك إذا رأيت أسدًا قادمًا فعليك أن تتسلق الشجرة بسرعة، وما عقوبة انتهاك هذا القانون؟ (احتمال التعرض للافتراس!).

 

وكان هناك قانونان في الشجرة الخاصة بأسرة ميمون، يقضي أحدهما بعدم مغادرة الشجرة بدون إذن، فما سبب وضع هذا القانون؟ (لكي لا يضيع ميمون)، ولماذا لا تريد له أمه وأبوه أن يضيع؟ (لأنهما يحبانه)، وما عقوبة مغادرة الشجرة بدون إذن؟! (ضربة بذيل الأم)، ولماذا تفعل الأم ذلك؟ (لكي لا يغادر الشجرة مرةً أخرى بدون إذن)، ولماذا لا تريد لصغيرها أن يكرر ذلك ثانيةً؟ (لأنها تحبه ولا تريد أن تفقده).

 

وكان القانون الآخر في أسرة القردة هذه يقضي بعدم إلقاء قشور الموز على أغصان شجرة الأسرة، فما سبب وضع هذا القانون؟ (لكي لا ينزلق أحدها ويسقط عن الشجرة)، ولماذا قرَّرت أسرة القردة أن يكون لها مثل هذا القانون؟ (لأن أعضاءها يحبون بعضهم ولا يريدون لأحدهم أن يصاب بأذى)، وما العقوبة التي يتلقاها من ينتهك هذا القانون؟ (ضربه بالذيل)، ولماذا تفعل الأم ذلك؟ (لأنها تحب طفلها ولا تريد له أن يكرر ذلك التصرف).

 

وأحيانًا كانت هناك قوانين يمكن لميمون أن يتصرف بموجبها، وأحيانًا لم تكن تلك القوانين موجودة، فكان يمكنه أن يقرر بنفسه.

 

استيقظ ميمون في الصباح، فتمطَّط وتثاءب، وسمح له بمغادرة الغصن، فهل كان هناك قانون يعمل بموجبه؟ (نعم، عليه أن يتشبث، وإلا فإنه سيسقط)؛ وينظر إلى قبعته، الحمراء والخضراء، فهل كان هناك قانون حول القبعة التي يجب أن يرتديها؟ (لا، يمكنه أن يختار أي قبعة يشاء)، ويختار القبعة الحمراء.

 

وبعد ذلك أراد أن يهبط من الشجرة ليبحث عن موزة لطعام الفطور، فهل كان هناك قانون يعمل بموجبه؟ (نعم، يسأل أمه لكي تعرف مكانه وبذلك لن يضيع).

 

ووجد موزةً كبيرةً وأخرى صغيرة، فهل كان هناك قانون يفرض عليه الاختيار بينهما؟ (لا، يمكنه أن يختار الموزة التي يريدها)، ويختار ميمون الموزة الكبيرة؛ لأنه كان يشعر بجوع شديد.

 

وبينما هو في طريقة إلى شجرته رأى أسدًا، فهل كان هناك قانون يعمل بموجبه؟ (نعم، يتسلق إحدى الأشجار بسرعة لكي لا يفترسه الأسد).

 

ويتسلَّق ميمون إحدى الأشجار، وبعد ابتعاد الأسد يعود إلى شجرته الخاصة، ولكن على أي غصن يجب أن يجلس لكي يأكل الموزة؟ هل كان هناك قانون خاص بذلك؟ (لا، يمكنه أن يختار الغصن الذي يريده).

 

ويقشر ميمون الموزة، فهل كان هناك قانون يتعلق بالقشر؟ (نعم، يجب ألا يتركه على أحد الأغصان).

 

وهكذا قضى ميمون يومًا مفرحًا وآمنًا؛ فمعرفة القوانين والعمل بموجبها مسألة ممتعة وآمنة، ومن الممتع أيضًا أن يقوم أحدنا بحسم الأمور عندما لا يجد قانونًا يحكمها [المصدر: كتاب (كيف تعلِّمون أطفالكم تحمُّل المسئولية)، ليندا ير وريشادرد ير.

 

وإلى اللقاء في المرة القادمة بإذن الله تعالى نعرض نصًّا مقترحًا لــ: "دستور البيت المسلم".