المتابع للمشهد العام الآن في مصر يُصاب بالحزن والأسى والأسف لما آلت إليه حال المحروسة.

 

تركنا كل مقومات الزعامة، وأهملنا القضايا التي تمس الأمن القومي في كثيرٍ من الجوانب وآخرها: قضية دارفور، وانفصال الجنوب، والوضع في غزة، بل المحيط الجغرافي كله الذي لو نظرت فيه لن تجد لنا مع أي دولة علاقة وفق إستراتيجية واضحة المعالم مدروسة الخطوات، ولنا في السودان عظة وعبرة! السودان الذي يعدُّ في عرف الجغرافيا قارةً متراميةَ الأطراف متناقضة الثقافات والإثنيات، وهي بالنسبة لمصر التاريخ والجغرافيا والعمق والمستقبل إذا جاز التعبير.

 

به من الثروات والإمكانات الطبيعية التي إن استثمرناها جيدًا لأغنتنا عن كل ما هو خارجي من أرض وماء وثروة حيوانية ومراعٍ شاسعة واستثمارات في كل المجالات واعدة، ولكننا تركناها إلى توشكى وأخواتها، وظهر في القضية الأخيرة مع دول المنبع، لم يكن معنا إلا الموقف السوداني، واستيقظنا أخيرًا على تقسيم السودان وانفصال الجنوب، وكأننا لم نسمع عنها إلا منذ أيام وليس من سنين ماضية.

 

كل العلاقات مع الأشقاء حتى السعودية التي كانت سندًا لنا في كل القضايا سمعنا عن أزمة صامتة لا ندري أبعادها، سوريا أحد أضلاع المثلث، قد نختلف مع السلطة في منهجها وأسلوب حكمها لشعبها، لكن نشيد بها لأنها وضعت لنفسها مكانةً وثبتت عليها، وكانت في موقع دول الممانعة حتى رأينا الآن الكل يخطب ودها ففتحت مع تركيا الحدود، ودخل السوري إلى تركيا دون تأشيرة، وجاءها الرئيس الروسي وصدَّق على برنامج نووي سلمي سوف تقوم بإنشائه، واحتضنت المقاومة فكانت لها بمثابة الورقة الضاغطة في كثير من الأحيان، وأبرزت قارتها للعالمين ووضعت بجهودها حركة حماس على طريق الاعتراف الدولي بلقاء رئيس ثاني دولة في العالم على أرض سوريا.

 

ولو نظرت إلى من حول الرئيس السوري لرأيت امرأةً وهي وزيرة شئون المتقدمين ومستشارة الرئيس تتحدث سياسةً على أعلى مستوى من الفهم والإجادة في كل أحاديثها وكتاباتها، ولم تذكر كلمة واحدة كالتي اعتدنا عليها في إدارة شئوننا، وهي بناءً على توجهات السيد الرئيس بل بناءً على سياسة سوريا.. حتى رئيس وزرائها عطري يتكلم عن إستراتيجية بلاده وعلاقته مع دول العالم بحصافة وإستراتيجية واضحة.. الشيء الذي لم نعتده من رئيس وزرائنا الذي لا يتحدث إلا في المرور ورغيف العيش والطوارئ.

 

سوريا التي صدَّرت لنا القمح في مقابل ماء النيل، وهو الأرز.. سوريا التي أقامت معارض من أثاث وملابس على مدار العام في مصر حتى نالت ثقة المصريين.

 

وليبيا التي عقدت مع تركيا الاتفاقيات، فأصبح بموجبها الدخول والخروج بين البلدين بلا تأشيرة ونحن الجوار والأهل العلاقات كل يوم في شأن، وأسأل عن حال العمالة المصرية في ليبيا من سن القوانين قاصمة لظهرها من أجل أن تفتح الأبواب لدول أخرى ما السبب لا ندري.

 

وهذه إثيوبيا التي تتعامل كأنها إمبراطورية وضعت لنفسها مكانةً في شرق إفريقيا كلها، وانظر ماذا فعلت في موضوع المياه.

 

ولكن نحن لم يبقِ لنا إلا أبو مازن وعصابته التي تؤمر فتطيع نحن نعرف أنه لا يملك شرعيته التي أصبغناها عليه نحن، وانظر ماذا يفعل هو وحزبه في رام الله من هدمٍ للقضية وتضييع لمعالمها، وأسسها التاريخية؛ من أجل العم سام القابع في القدس الغربية!

 

من أجل الحفاظ على الكيان الصهيوني المغتصب الذي لم يقدم لنا حسن نية مرة! ولم يلتزم بأي اتفاق سلام أو معاهدة على مرِّ العصور، ومع ذلك نتشبث بصداقته وبالسلام معه.

 

ومن ناحيةٍ أخرى، جَيَشنا الشعب عن بكرة أبيه ضد دولة شقيقة بسبب مباراة كرة قدم، وخسرنا معها علاقات أخوة وتاريخ من أجل ماذا؟ (لعب)!! أُهين المصري داخل مصر فهان على الغير، وهذه الدول الرئيسية وسفارتها وصلفها في المعاملة حتى مع رجال الأعمال.. فبحث المصري عن مخرج فوجد البحر الهادر فغرق فيه.. حتى الصيادين جابوا بحار العالم بحثًا عن الرزق فاختطفوا وحوكموا، ونحن أصحاب أطول شواطئ على أكبر بحرين ونهر وبحيرات؛ فماذا نحن فاعلون بهذا المصري الذي هان على بلده فهان في أعين الآخرين؟ بعد أن كان المصري هو المدرس والمعلم والطبيب والقاضي الذي وضع دساتير كثيرٍ من دول الجوار وقوانينها وكأنها لعنة ترتد عليه فيخرج هو من مكانه ليسلمها إلى آخر أجنبي!!.

 

أهذا هو تحلل الدولة الذي عرفتها العولمة.. أن يتحلل الراسي وهو السلطة بمعناها، وتتحلل القواعد بالمنازعات الطائفية والإثنيات؛ هل هو شيء آخر بديل تفكيك الدولة، كما حدث في الصومال ثم العراق وأفغانستان الدور على السودان؛ لكن دون جيوش ولا ذخيرة.. هل هي الدولة الرخوة التي سمَّاها الأستاذ جلال أمين أم هي السياسة التي حرمونا منها؟ وعندهم هم وحدهم الحل السحري الذي سوف يأتي مع القادم الجديد، ولكن نحن المستعجلون على الحل، وسوف يعم الرخاء المرجو منذ عقود والمنظر الغائب منذ الثورة ثم الانفتاح ولم يأتِ.

 

أما نحن مثلاً كما قال يومًا رئيس وزرائنا إننا فاقدي الأهلية السياسية؟ فعوملنا على هذا المنهج السلطوي التسلطي حتى نبلغ سن الرشد على أيديهم وحدهم، ونسوا أن الدنيا أصبحت مثل القرية الواحدة، وأصبح الجميع عرايا أمام العولمة المتوحشة الميديا المتغلغلة حتى غرف النوم.. ألم يعلموا أن إسلامنا قال: "وطنوا أنفسكم".

 

فهل بعد هذا الحل لأم الدنيا أن تقوم من كبوتها، وتصحو من غفوتها؛ بضمِّ أبنائها المخلصين وفتح باب الحريات المغلقة لتداول سلمي للسلطة يخرج منه طاقات كامنة لأبناء أعظم حضارة وأنصع تاريخ؟!

 

مصر الحضارة.. مصر النيل.. مصر الأزهر والتسامح والأخوة.. مصر التي كانت وراء صلاح الدين وقطز.. مصر الأمل الذي لا يموت.. مصر المكانة التي سوف تقود مصر التي إن خنقها الظالمون انتفضت للحياة كيوم البعث والنشور.

 

فلن تعدمي يا مصر يومًا أبناءك المخلصين، ولن يطول ليلك ففجرك قد انشقَّ في أفق العالمين لأنك في خاطري يا مصر.