معتز شاهين

 

أؤمن بمقولة أن لكل طفل موهبة في مكان ما بنفسه، من خلالها يستطيع التحليق في سماء الإبداع، والمهمة هنا تكون في اكتشاف تلك الموهبة وإثرائها، وتوجيهيها نحو الخير والنافع له ولأمته (الإبداع).

 

فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن نسبة المبدعين من الأطفال من سن الولادة حتى سن الخامسة تصل إلى 90% منهم، وعندما يصل هؤلاء الأطفال إلى سن السابعة تقل تلك النسبة لتصل إلى 10%، وما أن يصلوا إلى الثامنة حتى تحط الموهبة رحالها على 0.02% منهم فقط.

 

ولنأخذ عبرة من رسولنا الكريم وكيف كان يفجر طاقات ومواهب الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- من حوله؛ ليخرجوا كل ما في جعبتهم من إبداع ساهم في نشر الإسلام وازدهاره، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم مدى قوة حفظ ونجابة "زيد بن ثابت"- رضي الله عنه-، فأمره بتعلم لغة اليهود، فأتقنها في 16 يومًا، وأدرك أن "عبد الله بن عباس"- رضي الله عنهما- يحب القرآن ومدارسته وإعمال العقل وحب اللغة، فيرشده إلى طلب العلم بطريق غير مباشرةً بدعوته "اللهم علِِّّمه تأويل القرآن" وفي رواية أخرى "اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل"، وحاله مع "خالد بن الوليد"- رضي الله عنه- وإطلاقه لقب سيف الله المسلول عليه؛ لعلمه حب خالد للجهاد.

 

وكذلك كان الحال في المجتمع الإسلامي عامةً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان المجتمع يهيئ فرصًا متكافئةً لكافة طوائف المجتمع وطبقاته، فلا فرق بين مولى وسيد، فشمل الإسلام بعدله جميع الناس وارتفع بمكانة الإنسان، وأفاد من جميع الطاقات والملكات.. فانظر إلى مكانة "نافع مولى ابن عمر"- رضي الله عنهما- والذي قال عنه البخاري: أصح الأسانيد.. مالك عن نافع عن ابن عمر (سلسلة الذهب).. وانظر إلى منزلة  "عكرمة مولى ابن عباس"- رضي الله عنهما- الذي أعتقه وأذن له بالفتيا بعد أن انتهى إليه علم التفسير عنه، وأخذ من علمه 70 أو يزيدون من أجلاء فقهاء التابعين.

 

وبالطبع تلك المهمة لا تقع على عاتق الطفل الذي لم ينل من الدنيا أي خبرة بعد تكفيه لتلك المهمة الصعبة؛ إذًا فالمسئولية هنا تقع على عاتق الوالدين؛ لاكتشاف ما عند أطفالهم من مواهب، وتوجيهها نحو الإبداع.

 

والموضوع ليس بصعب ولا مستحيل، ولكن يبدأ من الصغر.. فالمبدع لا ينزل من السماء مع المطر، ولكنه يصنع صناعة؛ وللمحاولة منا في إجادة المربين في تلك الصناعة نضع بعض الملامح المهمة لتلك الصناعة:

 

1- اختر مَن يمكنه أن يبدع:

قال تعالى: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)﴾ (طه)، فالله عز وجل قد اختار موسى- عليه السلام-؛ ليكون نبيًّا منذ صغره، وهذا اختيار مبكر لعلمه- عز وجل- بضخم حجم المسئولية الملقاة على عاتق سيدنا موسى- عليه السلام-، وقد ذكرت في بداية المقالة أن كل أبنائنا يمكن لهم أن يبدعوا، والدراسات الحديثة أثبتت أن الذكاء العادي يكفي لإنتاج الإبداع، ومن هنا يستطيع كل شخص عاقل أن يكون مبدعًا، فالإبداع هو النظر للشيء بشكل غير مألوف.

 

2- وجود منهج علمي:

وذلك بأن يطبق بشكلٍ علمي وبواسطة مربين مدربين، ولننظر إلى المنهج الإلهي الذي طُبق مع سيدنا موسى- عليه السلام- في قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طه: من الآية 39)، أي: منهج رباني محكم لا هوى فيه ولا ضلال، بل بحكمة وعلم الله سبحانه وتعالى.

 

3- التدرج في التطبيق:

مع الصبر وعدم الاستعجال، فالزمن أحيانًا يكون جزءً من العلاج، فالمنهج الرباني مع سيدنا موسى- عليه السلام- اتسم بالتدرج والواقعية، وقد تم ذلك التدرج خلال فترة زمنية طويلة وخطوات رفيقة.

 

4- الصغير ليس بصغير:

وإن كان ولدك صغيرًا في السن، فيجب أن يكون كبيرًا في نظرك وإلا استصغره الآخرون. فالطفل إذا ظلَّ والديه يرددون أمامه "أنت ما زلت صغيرًا" سيكبر ليكوّن جيلاً  كبارًا في الأعمار صغارًا في الهمم، وقد أجاز علماء الحديث لطفل الخامسة رواية أحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم- واستشهدوا بالحديث الذي رواه البخاري في باب (متى يصح سماع الصغير)، عن محمود بن الربيع قال: "عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين، من دلو"، لذا على الوالدين الاهتمام بإشراك الأطفال في أحدايث الكبار- بما يناسب تفكيرهم واهتماماتهم- ولا نقلل من شأنهم، ونجيب على استفساراتهم، وننصت لهم باهتمام.

 

5- مرِّن دماغ أبنائك:

فالعقل مثله مثل البدن، يحتاج إلى تدريبات حتى يحافظ على لياقته، وعلى الوالدين محاولة جعل البيئة التي تحيط بالأبناء بيئة محفِّزة على الذكاء واستخدام القدرات، ويكون ذلك إما بالقراءة، أو بعقد دورات متعددة الاتجاهات (رياضية- عقلية- ثقافية)، كما يتم تمرين الدماغ بالألغاز عن طريق الأسئلة المحيّرة التي يعشقها الكبار قبل الصغار مع عمل حافز مادي، ولو بسيط؛ ليشجعهم على الاستمرار في التفكير.

 

6- نعلِّم أبناءنا كل شهر طريقةً جديدةً للإبداع:

وطرق الإبداع كثيرة جدًّا، فمنها (المحاكاة، العصف الذهني، عكس المشكلة..)، كما يمكن استخدام برنامج (الكورت) للتفكير لـ"إدوارد ديبونو"(1)، وهو برنامج مصمَّم لتعليم الأطفال استخدام بعض أدوات التفكير، ويمكن للطفل أن يتعلم أداةً واحدةً جديدة للتفكير كل شهر، ويمكن استخدام هذا البرنامج مع الأطفال من سن المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة.

 

7- في بيتنا مكتبة:

فالقراءة هي أساس أي إبداع، فالطفل منذ سنته الأولى يظهر اهتمامه بالكتب التي تحتوي على صور ملفتة للنظر وألوان زاهية، ثم يتطور الأمر معه، وتبدأ الكلمات تتداخل مع الصور؛ لكي توصلنا في النهاية لحب الطفل وشغفه بالقراءة، ومهما وصل سن الطفل يمكننا ربطه بالقراءة بوسائل عدة؛ وذلك بتوفير الكتب التي تلبي حاجاته القرائية، وقدراته العقلية.

 

8- الاحتفال بإبداع أطفالنا:

فيجب على الوالدين وضع أهداف يجب على الأبناء أن يصلوا إليها، مثل استخدام طريقة من طرق التفكير التي تعلَّموها في حل مشكلة عائلية، يتم بعد ذلك عمل حفلة ولو بسيطة للاحتفال بوصول الأبناء لهذا الحل بمفردهم، ما يحفزهم على التفكير واستخدام ما تعلموه.

 

ومن خلال تلك الملامح نستطيع بناء جيل مبدع مرتبط بالله- عز وجل-، يعمل على خدمة دينه ورقي أمته، ولا يعاني من مشاكل الإبداع المعروفة، فلقد أثبتت الكثير من الدراسات الحديثة أن نسبة غير قليلة من المبدعين قد عانوا من مشاكل نفسية واضطرابات عقلية ونفسية، فقد ذكر الباحث "كارلسون" في دراسته؛ لسير عدد من المبدعين أنه وجد أعراض مرض الذهان لدى 30% من الروائيين، و 35% من الشعراء والرسَّاميين العظام، و 25% من الرياضيين، و40% من عظماء الفلاسفة، ونقل "أوسشي" عن دراسة لسير حياة 47 كاتبًا بريطانيًّا مشهورًا، أن 38% منهم قد عُولجوا من الهوس الاكتئابي المتكرر، ولكي لا يقع المبدعون والموهوبون من أبنائنا في مثل هذه المشاكل؛ لا بد أن نربطهم بالله تعالى؛ ليكونوا ربانيين؛ لأن المبدع الرباني قلَّما يتعرض لمثل هذه الهزات النفسية العنيفة، والدليل على ذلك أن تاريخ أمتنا مليء بمئات المبدعين الذين اتصلوا بالله تعالى حبًا وإيمانًا، فامتلأت حياتهم بالهدوء النفسي والسكينة القلبية، وهذا هو غاية التربية التي نأمل أن نُوفق إليها مع أبنائنا.

-------------------

(*) كاتب وباحث تربوي مصري.

(1) لمزيد من التفاصيل حول برنامج (الكورت) يرجى الاطلاع.. برنامج الكورت لتعليم التفكير (دليل البرنامج) إدوار ديبونو.. ترجمة وتعديل د. نادية هديل.