عدت من أسطول الحرية، ظهر الثلاثاء 1 يونيو 2010م، وقضيت عدة أيام في لقاءات فضائية وجماهيرية، حرصت على المشاركة فيها حتى يبقى الحدث حيًّا في قلوب الأمة؛ لاستكمال السير في مشروع كسر الحصار عن غزة.

 

صباح الأربعاء 2 يونيو، وبدافع من ضرورة توظيف (حالة ما بعد العدوان الصهيوني على أسطول الحرية، وكذا الإعلان المصري الرسمي عن فتح معبر رفح لأجل غير مسمى)؛ أخطرنا السيد رئيس مجلس الشعب بعزمنا على تسيير قافلة برلمانية مصرية تحمل مواد البناء من إسمنت وحديد للدخول بها برًّا عبر معبر رفح (المصري المفتوح!) في مساندة للأشقاء في غزة ضد الحصار الظالم، وفي رد فعل مصري شعبي ضد العدوان الصهيوني على أسطول الحرية, لم يصلنا رد من السيد رئيس المجلس- كالعادة- بالرفض ولا بالإيجاب, ومن ثم أعلنا عن تحركنا بالقافلة انطلاقًا من حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية بأحقية المواطنين في حمل المساعدات، وتوصيلها للمحاصرين في غزة، وعدم أحقية السلطات الأمنية في منع المواطنين من ذلك.

 

تحرَّكنا صباح الإثنين 7 يونيو 2010م من أمام مقر الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين، وتشكَّل الوفد من 9 من النواب وأكثر من 20 إعلاميًّا ينتمون لمختلف الصحف والفضائيات المصرية التي حرصنا على مرافقتهم لنا؛ ليطلع الرأي العام المصري بشكلٍ مباشر على حقيقة الموقف على معبر رفح وحقيقة الأوضاع في غزة.

 

مررنا من بوابة الإسماعيلية بسلام، فحمدنا الله إذ إن هذه المحطة سبق أن توقفت وانتهت عندها القافلة الأولى للحملة الشعبية المصرية لفك الحصار؛ لكن فرحتنا لم تتم إذ أُوقفت القافلة عند مدخل كوبري السلام فوق قناة السويس، وكأن مرور المصريين إلى شرق القناة يحتاج لإذن وتصريح من السلطات المعنية, بعد ساعةٍ أُذِن لنا بالمرور؛ لكننا أُوقفنا مرةً ثانيةً عند مدخل محافظة شمال سيناء، وطالت وقفتنا، وحدثت مشادة شديدة بين السادة النواب والمسئولين الأمنيين الذين أوقفوا مسيرة القافلة بلا تفسير ولا تبرير إلا انتظار التعليمات من أصحاب القرار.

 

قرَّر النواب الإعلان عن اعتصامهم؛ احتجاجًا على منعهم من السير في الأراضي المصرية!!, أخيرًا جاء الإذن بالسماح لنا بالمرور والدخول إلى شمال سيناء!!!, طبعًا كنا نتوقع هذه التوقيفات، ومن ثَمَّ فقد رتَّبنا أن تأخذ شاحنات الإسمنت والحديد مسارًا آخر لنلتقي بها فقط في العريش، ونكمل السير سويًّا إلى رفح؛ لكن ما إن ظهرت شاحنات الإسمنت والحديد حتى تكهربت الأجواء، وجاءت قافلة الشرطة فاعترضت طريقنا ومنعتنا بالقوة من التقدم في اتجاه رفح, وتمَّ سحب رخص سائقي الشاحنات، وتم اقتيادهم وتهديدهم وإجبارهم على العودة إلى العريش وتفريغ الحمولات وإلا فالاعتقال والحبس, بذلنا ما في وسعنا في محاولة استنقاذ الشاحنات، وبصعوبة بالغة تمكَّنا من استنقاذ السائقين من الحبس واستخلاص الحمولات من المصادرة والاستيلاء عليها.

 

أكملنا السير في اتجاه رفح المصرية ولكن دون شاحنات الإسمنت والحديد, دخلنا إلى المعبر، وطلبنا المرور إلى غزة؛ حيث إننا برلمانيون مصريون، وقد أخطرنا رئيس البرلمان بتحركنا، وعلى الجانب الآخر ينتظرنا مسئولون فلسطينيون لاستقبالنا, فاعتذر المسئولون في المعبر، وقالوا لا يوجد تنسيق لدخولكم!!!, اتصلت بمدير مكتب د. سرور وأخبرته بوجود النواب التسعة على المعبر وعزمهم على المبيت والبقاء بالمعبر حتى يؤذن لهم بالدخول.

 

بقينا الليلة في العريش وفي الصباح توجَّهنا إلى المعبر, تقدَّمتُ للضابط المسئول بجوازات السفر، وخاطبته رسميًّا، مطالبًا إياه في حالة رفض الدخول لغزة أن يرد علينا برفض كتابي لنتعامل معه سياسيًّا, ففوجئتُ به يؤكد أن الموقف قد تغيَّر، وأن هناك موافقة على دخولكم جميعًا (طبعًا من غير الشاحنات), أدركنا على الفور أن هناك حاجةً رسميةً مصريةً للتغطية على خبر منع الشاحنات من الدخول بخبر دخول أول وفد برلماني مصري إلى غزة, وكنا ندرك كذلك حاجة الأشقاء في غزة إلى محاولات فك الحصار السياسي عنهم بدخول وفود برلمانية تلتقي أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني وأعضاء الحكومة (المقصودين بالحصار), أخيرًا دخلنا إلى رفح الفلسطينية التي حاولنا الدخول إليها العديد من المرات قبل ذلك (أثناء الحرب على غزة وبعدها)، فلم نفلح في الدخول سوى هذه المرة, كانت الفرحة تملأ قلوبنا جميعًا، زادها استقبال كريم من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني الذين حضروا لاستقبالنا، وعلى رأسهم د. أحمد بحر (نائب رئيس المجلس التشريعي).

 

عقدنا مؤتمرًا صحفيًّا، ثم انطلقنا في الطريق إلى قلب غزة، مرورًا بمئات المشاهد من آثار العدوان والدمار والهدم التي خلفتها الحرب الوحشية على غزة في يناير 2009م, كنا حريصين على استغلال كل لحظة، وكذلك الإخوة في غزة الذين حرصوا خلال الأربع والعشرين ساعة التي قضيناها بينهم على إطلاعنا على حقيقة الأوضاع, زرنا مؤسسات رعاية الجرحى والمعوقين (بسبب الحرب), وزرنا وزارة شئون الأسرى، والتقينا أسر الأسرى, وزرنا بقايا عائلة السموني الذين حصدت أرواح أكثرهم الصواريخ الصهيونية, وزرنا مركز توثيق جرائم الحرب, وزرنا مواقع الوزارات والمدارس والكليات التي هدمتها الحرب, وعقدنا أكثر من لقاء بالمجلس التشريعي الذي تهدَّم مبناه بالقصف الصاروخي عليه, والتقينا الإخوة الوزراء، وعلى رأسهم الأستاذ إسماعيل هنية رئيس الوزراء، وأطلعونا على الكثير من الحقائق والأرقام المتعلقة بأثر الحصار على الحياة الفلسطينية في كل المجالات.

 

معلمان بارزان تستطيع أن تراهما جنبًا إلى جنب بوضوح في كل لحظة وفي كل مشهد طوال وجودك في غزة (الأول: هو حجم المعاناة والآلام والظلم والمكابدة التي وقعت ولا تزال تقع على هذا الشعب بلا جريرة, والثاني: هو حجم الصمود والإصرار والتحدي والقدرة على استمرار مسيرة الحياة رغم كل الصعوبات والتهديدات), الأول يملأ قلبك تعاطفًا مع هؤلاء المظلومين؛ لكن الثاني يجعلك تكبر هؤلاء الذين يقفون كالجبل الأشم بعزة وإباء، لا يرهبهم موت ولا جرح ولا أسر، ولا توهنهم ضغوط ولا فاقة ولا حاجة؛ مما يجعلك في النهاية تفخر أنك تجلس مع أمثال هؤلاء الذين يعطون من أنفسهم القدوة والأمل والثقة في زمن الهزيمة والانكسار والانكفاء.

 

تلتقي الجرحى والمعوقين الذين فقدوا سواعدهم وسيقانهم في الحرب, وتلتقي أمهات وزوجات وأبناء الأسرى الذين غيَّبتهم السجون الصهيونية سنين طويلة, فتسمع من هؤلاء وأولئك ما يُدمي قلبك لواقعٍ مرٍّ أليم يكابدونه؛ لكنك ترى وتسمع منهم أيضًا من قوة العزيمة وشدة الإصرار ومن تمسك بالحقوق والثوابت ما يجعلك توقن أن هؤلاء لا بد أن يسطروا صفحات حتمًا ستغيِّر التاريخ ولو وقفت أمامهم الدنيا جميعًا.

 

تقف أمام الطفلة (ألمظ السموني ذات السنوات العشر) تقص عليك كيف جمع الجنود الصهاينة عائلتها في بيت واحد، ثم أطلقوا الصواريخ على البيت، لتفيق هي بعد وقت فتجد نفسها بين الجثث والأشلاء والدماء, فتقوم وتهرول لمسيرة كيلومترات تصرخ في طلب الصليب الأحمر لعله يأتي لينقذ أحدًا, ثم تعود فلا تجد بين الأحياء أبًا ولا أمًّا ولا أخًا ولا أختًا ولا بنت عم ولا بنت خال؛ لكنها بعد أن تدمي قلبك وتستصرخك أن تفعل شيئًا لهذه الطفولة البريئة المعذبة، تؤكد لك وللحضور أنها أبدًا لن ترضخ، ولن تستكين لكل هذه الضغوط، ولن تعترف بتلك الدولة العنصرية المجرمة، وأنها ستبقى تقاوم لتستعيد حقوقها في أرضها وبيتها ويلتئم شمل من بقي من أهلها (اللاجئين والمشردين).

 

زرنا الجامعة الإسلامية بغزة تلك التي دكَّت مبانيها الطائرات والصواريخ الصهيونية عن عمد وتخطيط واستهداف لمباني المعامل والمختبرات؛ لكنك حين تعاين وتستمع وتتابع الأداء العلمي والبحثي والتدريسي داخل الجامعة تدرك أن جيلاً يتم إعداده لغد ومستقبل، بينما جامعات أخرى في أوطاننا غير المحتلة ولا محاصرة يتخرج منها الطلاب كما دخلوا إليها.

 

ترى الكسارات الضخمة تتعامل مع الجدران والحوائط المهدمة من مخلفات الحرب فتفتتها وتحيلها إلى موادها الأولى من زلط ورمل وحديد؛ ليعاد استخدامها في تحدٍّ للحصار الظالم الذي منع دخول هذه المواد من بعد الحرب إلى اليوم.. إنها ملحمة الصمود يسطِّرها الصغار مع الكبار في غزة.

 

أسطول الحرية 2

عدنا من غزة مساء الأربعاء 9 يونيو, وفي صباح الخميس سافرتُ إلى بيروت لحضور اجتماع اللجنة الدولية لكسر الحصار, والتقيتُ على شوقٍ عددًا من المشاركين معنا في أسطول الحرية من مختلف الأقطار.

 

بدأ د. سليم الحص رئيس اللجنة الاجتماع ببيان اللجنة حول أسطول الحرية، ثم استعرضت اللجنة عددًا من شهادات المشاركين في الأسطول, ثم استمعت اللجنة لعدد من المشروعات لقوافل جديدة لكسر الحصار برًّا وبحرًا شبه جاهزة للتحرك, كما استمعت اللجنة لدراسة مقدمة عن مشروع لكسر الحصار جوًّا من خلال طائرات صغيرة, بدا جليًّا أن هناك حالة إنسانية دولية لدعم جهود كسر الحصار ازدادت بشكل ضخم بعد العدوان على أسطول الحرية.

 

تدارست اللجنة المشروعات المختلفة، وأكدت ضرورة التنسيق بينها لتوظيف الحالة الموجودة لصالح كسر الحصار, كما رفضت اللجنة البيانات الدولية الرسمية التي تحاول الالتفاف على الموقف الإنساني الشعبي المطالب بإنهاء الحصار بحديث عن تخفيف الحصار من خلال آليات جديدة "تشرعن" الحصار وتستبقيه بصورة معدلة لا تحرك الغضب والسخط الشعبي.

 

إنها غزة توقظ ضمائر الأحرار في العالم فيتحركون لأجلها, ملحمة إنسانية راقية تكتب بكل اللغات والأجناس والألوان والأديان.

 

الشهيد علي حيدر بنجي

شرفت بصحبته ورافقته 4 أيام على ظهر سفينة "مرمرة" قبل أن يقضي شهيدًا فجر يوم 31 مايو 2010م إثر مجزرة الاعتداء على أسطول الحرية, ما إن تراه إلا أن تحبه وترتبط به كأنك تعرفه منذ طفولتك, كردي مسلم عاش عاشقًا لتحرير فلسطين حتى لقي ربه شهيدًا في الطريق إليها.

 

هو الشاب علي حيدر بنجي 39 عامًا, من محافظة ديار بكر شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية, درس بالأزهر الشريف بالقاهرة مطلع التسعينيات، ثم عاد إلى ديار بكر وعمل مدرسًا ثم عمل بالأعمال الحرة، وتزوَّج ورُزِق بـ4 أولاد, وجاء مع زوجته وعديد من الإخوة من بلدته للمشاركة في أسطول الحرية, شرفت بالقرب منه طيلة أيام الرحلة، وكان نموذجًا نادرًا في خدمة إخوانه ومساعدتهم، كنت تجده في كل موقف تحتاج فيه للمساعدة, سعدت بمجالسته والحديث إليه عقب الصلوات وفي جلسات الذكر والدعاء؛ لوجود مذاق خاص وقت السمر, كثيرًا ما كان يسعفنا في الحوار وبالترجمة بيننا وبين الإخوة الأتراك المسئولين عن القافلة، حين كنا نتناقش في بعض الأمور؛ لكني والله لا أنسى تلك الحالة التي التقيته عليها في صلاة العشاء والفجر في الليلة الأخيرة قبل مقتله, فوقفت أتأمل نور وجهه كأنه البدر يتلألأ أو كأنه يستعد لعرس يزف إليه بعد قليل, بقيت لا أعرف سر هذا النور الذي علا وجهه إلى أن سألني عدد من الإخوة الأكراد قبيل وصولنا إلى ميناء أسدود، وكانوا يعلمون معرفتي به وحبي له (هل رأيت علي حيدر؟ هل علمت عنه شيئًا؟ يبدو أنه ضمن الشهداء إذ لم نعثر له على أثر).

 

وبينما كنا جلوسًا مقيدين على السفينة ممنوعين من الحركة، وكانت جثث بعض الشهداء قريبة منا مغطاة لا نعرف من وراءها, رأيت إحدى الأخوات تجلس إلى جوار جثة زوجها تبكيه في صمت وإباء وسط أسلحة الجنود الصهاينة, لم أكن أعلم وقتها أن تلك الجثة هي جثة أخي الحبيب علي حيدر، وأن هذه الأخت الذي تجلس إلى جواره هي زوجته, حتى شاءت الأقدار أن سافرت إلى بيروت لحضور مؤتمر جامعة الجنان في الذكرى الأولى لوفاة الداعية الأستاذ فتحي يكن فشرفت بالجلوس إلى جوار الأخ الكريم د. علي القرة داغي (أمين عام اتحاد علماء المسلمين) وهو الكردي الأصل, فقصصت عليه خبر أخي علي حيدر فأخبرني أن زوجته كانت معه، وعرفت أنها تلك التي كانت إلى جواره بعد مقتله, وأنها (كما إخوانه المقربون منه) حكت عن حياته حبًّا وعشقًا للشهادة فداءً لفلسطين, لقد اطَّلع الله على ما في قلب علي حيدر فاختاره ضمن شهداء فلسطين (ليكون إلى جوار عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وسعيد صيام ونزار ريان), بل لعله الآن بصحبة صلاح الدين الأيوبي (الكردي العاشق لتراب فلسطين مثله), رحم الله أخي علي حيدر وتقبله في الشهداء وأكرمنا بصحبته ورفقته في الفردوس الأعلى.

 

إنها غزة الصمود تسطر بأهلها وبعشاقها صفحات العزة والشرف والكرامة, إنها مدرسة صناعة الحياة كما هي مدرسة صناعة الموت.

---------

ملحوظة: أعتذر للقراء عن تأخر نشر هذا المقال عن توقيت أحداثه لظروف شخصية.