وقفت في صف الصلاة لأداء فريضة العصر قبل صلاة الجنازة على شيخنا الجليل الأستاذ الدكتور أحمد العسال بجوار شيوخ أفنوا أعمارهم في رحاب تلك الدعوة المباركة، دعوة الإخوان المسلمين؛ في صحبة ذلك الجسد الفاني الذي صاحبوه شابًّا طالبًّا، وعاصروه عالمًا مجتهدًا، وعرفوه مجاهدًا قويًّا في الحق، وجاءوا لوداعه في آخر لحظاته في الدنيا، قرأت وردي في الصلاة كعادتي، فكان قدر الله أن أقرأ الآيات الكريمات من سورة إبراهيم:

﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)﴾.

 

استبشرت خيرًا، وحمدت الله في تدبري لهذه الآيات التي انطبقت على الموقف الذي أحيا فيه.

 

ها هو رجل نحسبه من العلماء المجاهدين، الصابرين الثابتين، المتواضعين اللينين، الزاهدين الورعين، يودِّع الدنيا بعد حياة حافلة في طلب العلم، وبذل العلم، ورعاية الطلاب والعلماء من أقاصي الدنيا إلى أقاصيها، أسَّس ودرَّس وعلَّم الآلاف على مدار حياته في مصر والسعودية وباكستان وغيرها من بلاد الله، علَّمهم العلم والعمل والجهاد.

 

ها هو ابن دعوة الإخوان المسلمين الذي عرفها أثناء طلبه للعلم في معهد طنطا الثانوي الأزهري مع رفيق عمره وصاحب دربه الشيخ القرضاوي، الذي أمَّنا في صلاة الجنازة، وهو لا يملك دموعه، وأصر رغم مرضه وضعف صحته على المشاركة في حمل النعش إلى باب مسجد الحصري بمدينة 6 أكتوبر، ها هو يودعنا دون أن نسعد بلقاء طويل كعادتنا معه في بيت جاره وصاحبه أ. د. سيد دسوقي أستاذ الطيران، وبرفقة طيبة تتلمذنا عليهم في مختلف صنوف العلم ودروب الحياة، حضر منهم الجنازة الدكتور أحمد حمدي العالم الزاهد والخبير الإستراتيجي مع د. سيد محمد العوَّا، وغاب منهم المستشار البشري، والمفكر الكبير د. محمد عمارة، والصحفي القدير فهمي هويدي، والأخ الحبيب د. محمد حبيب، وشاركنا الجنازة المرشد السابق أ. عاكف والأخ الحبيب د. أبو الفتوح.

 

وفي وقوفنا على القبر بمقابر الجمعية الشرعية لعموم المسلمين في مدافن مدينة 6 أكتوبر في يوم قائظ شديد الحر، رطوبته قاسية، إذا بنسمات لطيفة تهب علينا ونحن في انتظار الدفن، تلهج ألسنتنا بالدعاء للفقيد الراحل، فازداد استبشاري باستجابة الله لدعائنا.

 

خرج أحمد العسال من الدنيا، ولا خصوم له إلا الذين يحادُّون الله ورسوله، ويتكبرون على شريعة الله التي أوقف حياته لخدمتها والدفاع عنها والمطالبة بتطبيقها، خرج من الدنيا زاهدًا ورعًا منفقًا لماله كما كان ينفق علمه، لا يبخل على أحد ولا على دعوته، فلطالما رأيته في مكتب المرشد وهو يستر بذله لله، ولا يتأخر في تقديم ولائه لدعوة الإسلام.

 

كان أحد إخواننا عندما علم بنبأ الوفاة طالبنا بالكتابة عن "العسال"؛ لأن الشباب لا يعرف هؤلاء الرموز، فإذا بي واقف على القبر بجوار عدد قليل من الشيوخ ومئات الشباب من محافظات عديدة، الجيزة والمنوفية وأكتوبر والقاهرة والغربية والبحيرة وغيرها، جاءوا جميعًا لوداع الفقيد الجليل، وألقى على القبر موعظة الأخ العزيز د. قطب عبد الحميد قطب، وختمها بدعاء مؤثر، اكتفينا جميعًا بكلمته عن مآثر الفقيد، ولم يملك أحد رفاقه القدامى الذي سمعت صوته، ولم أر صورته إلا أن يودعه بشعارات الجماعة التي وهب حياته لدعوتها الإسلامية الشاملة، ويودعه بقول لا إله إلا الله عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله.

 

طالبت رفاق الفقيد العزيز بالكتابة عنه أيضًا: د. سيد دسوقي، د. حسن الشافعي، ولا شك أن العلامة القرضاوي سيكتب، وكذلك العوَّا وغيرهم.

 

صدقت يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء..".

 

ها نحن في أسبوع واحد تقريبًا، تفقد الأمة الإسلامية عالمًا بارزًا من شيوخ أهل السنة الذين أفنوا عمرهم في خدمة الشريعة والعلم هو شيخنا العسال، ومرجعًا من مراجع الشيعة العرب، عمل طوال حياته للتقريب بين السنة والشيعة ولوحدة الأمة الإسلامية، والتصدي لبعض الخرافات ولدعم الجهاد ضد الاحتلال الصهيوني والاستكبار والهيمنة الأمريكية هو العلاّمة "محمد حسين فضل الله".

 

والأمل في شباب العلماء كبير، هؤلاء الذين ازدحم بهم المؤتمر الأخير لاتحاد علماء المسلمين في إسطنبول بتركيا.

 

رحمة الله عليك يا د. أحمد العسال، لقد تركت من ورائك وأمامك علمًا نافعًا، سيظل يُنتفع به إلى أمدٍ بعيد، وتلاميذًا من الدعاة والعلماء يدعون لك، إن كنت لم تترك ولدًا من صلبك يدعو لك فنحن جميعًا أولادك، لن ننساك في دعائنا، وقد تواصيت أنا وزوجتي على أن يكون له نصيب من دعائنا لوالدينا، رحمه الله رحمة واسعة، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأفسح له في قبره مد بصره، وملأه عليه خضرًا ونورًا, وتقبل عمله وعلمه وجهاده، وعوَّضنا عنه خيرًا.