تأمَّل الإمام البنا كتاب ربنا وتدبر آياته، درس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح دراسة المتفقه في دينه، ومر بمراحل من التفكير والتصورات، بدأت بسيطة في فترة شبابه ودراسته، ثم نضجت الفكرة فبدأ يدعو إليها وسخَّر جميع إمكاناته العقلية والنفسية والبدنية والمادية لتحقيقها، ووقف طويلاً سائلاً نفسه لماذا خُلقنا؟ وكيف نحقِّق رسالتنا في الوجود؟

 

فوجد الإجابة في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦ ).

 

ودرس ومحَّص فوجد أن العبادة معنى شامل لمناحي الحياة الإيمانية، والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، والتعليمية وجميع أنشطته في الحياة ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ..﴾ (الأنعام)، ولا تقبل هذه العبادة إلا بصحة الاعتقاد وصدق الاتباع.

 

وهذه العبادة تكسب المسلم مكارم الأخلاق؛ فيصبح من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وهذه الصفات الأخلاقية لا تتحقق إلا بالتربية وليس بالقراءة التحصيلية فحسب، ولا بالتعلم المجرد فحسب، ولكن بالإضافة إلى ذلك لا بد من تزكية النفس ومجاهدتها ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)﴾ (العنكبوت).

 

وهذه المجاهدة تبدأ من داخل نفسك بين وازع الدين ووازع الهوى، وأنت الذي تحسم هذه المعركة بتوفيق من الله ومجاهدة نفسك ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (١٠)﴾ (الشمس)، ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١٥)﴾ (الزمر).

 

إن رسالة الإسلام رسالة تربية قبل أن تكون رسالة تشريع وتنظيم ورسالة عقائد ومبادئ، قبل أن تكون رسالة قتال وجهاد ورسالة قيم وأخلاق، قبل أن تكون رسالة اتساع وانتشار، ومجالها: النفس والقلب والعقل.

 

نفس نسويها.. وعقل نرتبه ترتيبًا إسلاميًّا.. وقلب نطهره ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)﴾ (الأنفال).

 

من هنا كانت أهم مهمة في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي: التزكية، حتى إن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين دعا ربه، وقال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)﴾ (البقرة)، وأخَّر التزكية وهي التربية في دعائه.

 

واستجاب المولى لدعائه لكنه رتَّب الآية ترتيبًا ربانيًّا، فقدَّم التزكية على التعلم لأهميتها فقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاَ مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٢﴾ (الجمعة).

 

إن المتأمل في ترتيب نزول القرآن يجد أول آية نزلت هي "اقرأ".. لم يقف المولى عند حد القراءة، ولكن قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾ (العلق)، إنها القراءة التكوينية التي تربيك وتؤدبك وتطهر قلبك وتوجه عقلك، ومع هذه القراءة كان لا بد من زادٍ تتزود به يعينك على لأواء الطريق فكان هذا الزاد: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢)﴾ (المزمل)، ثم جاءت الحركة المنضبطة بعد ذلك ﴿قُمْ فَأَنذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤)﴾ (المدثر)، فتصبح الحركة بعد التربية منضبطة تمنحك صفات ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ (الفرقان: من الآية 63).

 

فحق للإمام البنا أن يقول: كونوا عبادًا قبل أن تكونوا قوادًا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة، فإذا بنا بهذا القرب إلى الله إخوانًا متحابين ألَّف الله بين قلوبنا، ووحَّد صفنا، وتحققت أخوتنا مصداقًا لقول ربنا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾ (مريم).

 

يقول الإمام البنا: إن سرَّ قوتكم في أخوتكم؛ ولذلك كان الهدف الأساسي هو بناء الفرد، ليستعيد الشخصية الإسلامية الأخلاقية التي اقتدناها، يقول الإمام البنا: إذا وجد الرجل الصالح تهيَّأت له كل أسباب النجاح؛ ذلك لأن أداة التغيير في المجتمع هو الفرد المصلح، ومن صحَّت بدايته صحَّت نهايته.

 

ولذلك يقول الإمام البنا: إن غاية الإخوان المسلمين: تكوين جيل رباني يصطبغ بصبغة الإسلام ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: 138)، ثم يؤثر في مجتمعه بهذه الصبغة ولتحقيق ذلك: لا بد من تغيير العرف العام، وتربية أنصار لهذه الدعوة، فالعبرة عند الإمام البنا هو الكيف وليس الكم، التجميع دون التربية والتنظيم.

 

وكان يؤكد دائمًا أن تحقيق الأهداف الكبرى إنما بتقدم الصفوف ليكون القدوة، ويتميزون دون غيرهم فهم:

 

1- يؤمنون بالفكرة حتى تكون واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

 

2- يدعون إليها لكسب النصير.

 

3- يتحملون الإيذاء في سبيلها "فالمسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".

 

4- يضحون بكل غالٍ وثمين لا يبالون بسخط الناس، ولكن همهم تحقيق معية الله والوصول إلى رضاه.

 

فيصدقون في بيعتهم لأن ﴿اللَّـهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)﴾ (التوبة).

 

وهذا كله نتاج تربية طويلة وشاقة نتجت رجالاهم ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّـهِ﴾ (التوبة: من الآية 112) فحق لهم أن يبشرهم الله بالنصر لأنهم أصبحوا أهلاً له ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة: من الآية 112).

 

إن النصر يجريه الله على أيدي مثل هؤلاء الرجال الذين تحلو بهذه الأخلاق، فالقرى تسود بالأخلاق وتهلك بسوئها، وصدق الله القائل: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾ (الطلاق).

 

كم من جماعاتٍ وتجمعاتٍ كثر عددها وأهملت التربية الإيمانية والأخلاقية كمنهج حياة لصناعة الرجال حتى خاضت الجهاد دون إعداد إيماني وتربوي فاندثرت وذابت وضاعت هويتها، وكم منهم من جماعات أسرعت للوصول إلى الحكم فتنازلت عن ثوابت عديدة، وأصبح الثابت عندها من المتغيرات تجتهد فيه، وتتنازل عن بعضه بحسن نية، ولكنه لم يصب المنهج الصحيح فتعثرت خطواته وزلت القدم بعد ثبوتها، فلا مناصَ من أن يسلك سبيل الدعوة والتربية، كما دعا إلى ذلك الإمام البنا حين قال موضحًا ذلك: إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه- على الأقل- إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور:

- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.

- ووفاء ثابت لا يعدو عليه سكون ولا غدر.

- وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.

- ومعرفة بالمبدأ وإيمان به.

- وتقدير له يعصم من الخطأ فيه، والانحراف عنه والمساومة عليه، والانخداع بغيره.

 

إنه السبيل الذي لا خيرةَ لنا فيه

---------------

* نائب المرشد العام للإخوان المسلمين