نشرت جريدة (الدستور) اليومية في صفحتها السابعة يوم الثلاثاء 20/7/2010م موضوعًا، يتصل بقضية الردة والمرتد، وكنا لا نريد لهذه الجريدة، التي ألفنا أنها تعالج قضايا تهمُّ الوطن والمواطن؛ ألا تنقل كلامًا عن البعض لا يصح لها أن تخوض فيه، فقد أكل الزمان عليه وشرب، حتى أصبح في عالم النسيان لبغضه وتفاهته، والخروج عن الثوابت التي أقرَّها الإسلام.

 

لقد دخل في هذه المعركة مَن يحسن ومَن لا يحسن، حتى قالوا بجرأة: إن القرآن لم يتعرض لهذه الجريمة في آياته، وقال آخرون: لم ترد عقوبة المرتد إلا في حديث واحد، ويقصدون حديثًا "من بدَّل دينه فاقتلوه"، وحاولوا أن يهونوا من هذا الحديث الصريح، وحاول فريق ثالث أن يقلِّلوا من شأن هذه الجريمة ومن خطرها على المجتمع، ولعلنا بإذن الله نستطيع في هذا المقال أن نبيِّن وجه الحق في هذا الأمر.

 

إن الحديث في هذا الموضوع وللرد على الذين وقعوا فيه نقول لهم، أولاً: نحن الإخوان المسلمين بالذات نؤمن بضرورة الدقة والاحتياط الكامل والعمق والتحرز الشديد في النظر إلى هذا الأمر؛ فإن إصدار حكم بردة مسلم عن دينه أمرٌ خطيرٌ في الإسلام، وليست كلمة تُقال على اللسان، فنحن دعاة ولسنا قضاة، ونتمنى للناس جميعًا- من قلوبنا- وندعو لهم ولأنفسنا؛ ندعو للقريب وللبعيد، وللصديق وغير الصديق، وللمسلم وغير المسلم؛ أن يستظل الجميع برسالة الإسلام وبنور القرآن، وأن يكون الجميع مع الله لا يأخذهم شيطان ولا يغرهم بالله الغرور.

 

فالإمام البنا لحبه لهذا الحق، وحبه للناس جميعًا، ولحاجتهم لهذه الرسالة كان يقول: "أتمنى أن أُبلغ هذه الدعوة- دعوة الإسلام- للطفل في بطن أمه".

 

نبدأ بتعريف الردة؛ فالردة هي: الرجوع عن الإسلام أو قطع الإسلام، وهي لعبة مارسها اليهود في أيام النبي صلى الله عليه وسلم للصدِّ عن الإسلام، قال تعالى: ﴿وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)﴾ (آل عمران).

 

وهذه طريقة ماكرة خبيثة؛ لأن إظهار الإسلام ثم الرجوع فيه يوقع الضعاف في شكٍّ وبلبلة واضطراب، وما تزال خدعة الرجوع عن الدين وأنه لا شيء فيها، وفاعله لا عقوبة عليه، تتخذ حتى اليوم بطرق مختلفة، ولقد لجئوا حديثًا إلى إحياء هذه الخدعة القديمة بشتى الطرق، فهناك ما يُسمى بالمفكرين أو المثقفين من يركب هذه الموجة الباطلة.

 

وهذا الغرض واضح وهو: خلخلة بعض النفوس عن هذه العقيدة وإباحة الخروج منها، وإهدار قيمة الإسلام وتاريخ الإسلام، كأنه لعبة تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال.

 

والإسلام لا يُكره أحدًا على الدخول فيه؛ قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: من الآية 256)، وتاريخ الإسلام كله لم تثبت فيه حالة واحدة أن المسلمين إلى اليوم أمسكوا بإنسان وأكرهوه على الدخول في الدين؛ لماذا؟ لأن عقيدة الإسلام أكرم وأعظم من أن يُكره أحد عليها، فلا بد لمن يريد أن يدخل في الإسلام من قناعة كاملة به، وحرية تامة في الدخول إليه أو عدم الدخول؛ لكن من دخل الإسلام واعتنقه وآمن به، لا يُباح له أبدًا أن يتركه وإلا كان هذا العمل هو نوع من الهزل، والإسلام يبرأ من الهزل والهازلين، ومن التلاعب والمتلاعبين، ومن تحويله إلى مسرح، إنه يقبل الداخلين إليه بحريتهم من أوسع الأبواب ويربيهم ويعلمهم، ويصنع عقيدتهم؛ لكن أن يجيز لهم التلاعب فهو خيانة، وهي هنا تعتبر الردة خيانة عظمى لله ولرسوله وللمؤمنين وللمجتمع الإسلامي كله.

 

إن عقيدة الإسلام ليست ثوبًا يلبسه الإنسان أو يخلعه، ويلقي به حين يريد، حسب هواه؛ إن عقيدة الإسلام هي الحياة بكل معانيها، فمن انسلخ منها وخرج عليها فلا بد أن يُعاقب ولا بد أن يُحاسب.

 

لقد أجمع المسلمون على عقوبة المرتد، وفيها وردت جملة من الأحاديث الصحيحة عن عددٍ من الصحابة، روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بدَّل دينه فاقتلوه" (رواه الجماعة إلا مسلمًا)، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبراني بإسناد حسن، وعن معاوية بن حيدة بإسناد رجاله ثقات، وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (رواه الجماعة).

 

وعدد الصحابة الذين جاءوا في كتب السنة، وقد قاموا بمعاقبة المرتد لا حصر لهم، وفي القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧)﴾ (البقرة).

 

وماذا يقول المثقفون الذين يتهاونون في مثل هذه المواقف مع المرتد، ماذا يفعل المسلمون في صدر الإسلام الأول حيثما كانوا- على رأيكم- يتركونهم يتلاعبون بالأمة كلها ويتلاعبون بالإسلام؟ أم الواجب والفرض أن يردوهم عن هذا الغي، وأن يعود السلام والحريات إلى الجزيرة العربية التي يجب ألا ترتفع فيها راية سوى راية الإسلام، وراية التوحيد.

 

لا يجتمع دينان بجزيرة العرب

لقد قال أبو بكر في عزم وإصرار وهو يدفع في وجه عمر: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام.. والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة.. والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، وجلس في المدينة يخط على الرمال خطوطًا حدّد فيها كل أماكن المرتدين، وعيّن القواد، وأمرهم بقيادة الجيوش، وأمر كل واحدٍ منهم إذا انتهى من القبيلة الفلانية أن ينضمَّ إلى قائد آخر في القبيلة التي تقترب منه وحدَّدها تحديدًا دقيقًَا.. وانطلقت الجيوش باسم الله، ترفع راية التوحيد، وتُعلن في قوة وصبر وفي عزمٍ "لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم".

 

(لا يجتمع في الجزيرة العربية دينان).. بل هو دين واحد.. دين الإسلام.. وملة واحدة هي ملة التوحيد.. ودستور واحد هو دستور القرآن.. وشاء الله عزَّ وجلَّ أن يكلِّل هؤلاء القادة بالنصر، وعادت المياه إلى مجاريها كما يقولون، واستقرَّ الأمر لله ولرسوله ولصالح هذا الدين بفضل الله أولاً، وغيرتهم وفهمهم الصحيح لدينهم، وللردِّ على كلِّ مَن يتجرَّأ على الله ورسوله.

 

لا بدَّ للعلماء والفقهاء والغيورين على دينهم وإسلامهم من وقفة صادقة تردُّ هذه الموجات المتتابعة التي لا تكفّ عن نشر مثل هذه الأهواء.. فهي تشكِّك بعض المسلمين في دينهم وإسلامهم، وتقودهم على مجاوزة حدود الله عزَّ وجلَّ، ولا بد لمواقع القنوات التليفزيونية أن تهتم بهذا الأمر وبأمثاله لبيان الوجه الصبوح للإسلام، وكشف الذين يحاولون إلقاء الغبار عليه.. وعندهم من العلماء والفقهاء والإمكانات التي تعينهم على تحقيق هذا الأمر، ولهم جمهور كبير يستمع إليهم ويتأثر بهم، ويستجيب لهم؛ فصار في حقهم هذا الأمر بمثابة الفرض الذي يجب أن يؤدَّى، والأمانة التي يجب أن تُحترم، والواجب الذي لا يصح التخلّي عنه.

 

كيف يُعامل المرتد؟

أولاً: وضع الإسلام نظامًا محكمًا لمعاقبة المرتد:

1) أن يعرض على محكمة تناقشه في هذه الأمور.

2) يُعرض على العلماء، يبيِّنون له خطر ما وقع فيه، ويرغِّبونه في العودة إلى ما كان عليه، ويذكِّرونه بمصيره إذا استمرَّ على ذلك، ومن عظمة الإسلام أنه لا يؤاخذ الناس على ما في نفوسهم وما يدور في عقولهم؛ لأنه لا سلطان على العقول والقلوب إلا لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست، أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم" (البخاري).

3) إذا اعتقد المسلم اعتقادًا منافيًا للإسلام أيًّا كان هذا الاعتقاد فهو لا يخرجه عن الإسلام إلا إذا أخرجه من سريرته في قول أو عمل، فإذا لم يخرجه من سريرته فهو مسلم ظاهرًا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة فأمره إلى الله.

 

يقول الشيخ القرضاوي- حفظه الله- حول هذا الموضوع: إنما يُعاقب المرتد المجاهر، وبخاصة الداعية للردة، حمايةً لهُوية المجتمع وحفاظًا على أسسه ووحدته، ولا يوجد مجتمع في الدنيا إلا وعنده أساسيات لا يسمح بالنيل منها؛ مثل: الهُوية والانتماء والولاء، فلا يقبل أي عمل لتغيير هوية المجتمع، أو تحويل ولائه لأعدائه وما شابه ذلك.

 

4) يرى بعض الفقهاء: بعد البيان له والتصحيح وإظهار الرحمة والشفقة عليه إن مات على غير الإسلام، فأصر على موقفه أن يحبس لعل الله ينير بصيرته ويرده إلى الطريق.

 

ليست المسألة إذًا هينة أو سهلة أو كلمة يقولها الإنسان على آخر كما يظن البعض؛ بل لا بد من التبين الكامل والدقة الكاملة، وهذه جوانب لا تعهد لرأي فرد أو لنظرته بحال من الأحوال.

 

وأخيرًا.. نقول ردًّا على الذين- من جانب آخر- يهونون من هذا الأمور وكأنه لعبة- كما قلنا- فيقولون إن عقوبة الردة لم ترد في القرآن الكريم، وأن ما ورد في السنة هو "خبر آحاد"، وقد بيَّنا في هذا المقال أن عقوبة الردة وردت في القرآن وفي السنة وفي عمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أقام حد الردة على كثير ممن أصروا على مواقفهم، فلا حجة أبدًا لهؤلاء في طمس معالم هذا الحق.

 

يجب أن تظل هذه الحدود قائمة ومحترمة، ولا نشجِّع أحدًا على أن يتجرَّأ على الله ورسوله، وأن يتنكر لدينه ولإسلامه، نحن نريد لكل مسلم أن يكون إنسانًا مؤمنًا بالله إيمانًا عميقًا، متخلقًا بأخلاق الإسلام، محبًّا لربه، من أهل الجنة، بعيدًا عن كل ما يشينه، وهذه الحقائق بعيدة كل البعد عن الذين يشجِّعون البعض؛ خاصةً الشباب، على التهاون في دينهم أو التفريط في إسلامهم.. والله يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل.

-----------

* من علماء الأزهر الشريف