تحاول جماعة الإخوان المسلمين بناء مشروعها بالتدرج، من أسفل إلى أعلى، وتبدأ بالإصلاح الاجتماعي، وبناء المجتمع القوي، وتنتقل إلى المجال السياسي، حتى تنشر فكرتها في المجال الرسمي، وتبني قاعدة لها، تؤسس لمرحلة إصلاح النظام السياسي، ثم استكمال بناء الدولة.

 

 ولكن المجال السياسي له طبيعة خاصة، فهو المجال الذي تتبلور فيه المعركة بين الجماعة وخصومها، أو بين الجماعة وخصوم المشروع الإسلامي عامة، لذا يظل المجال السياسي هو مجال المواجهة، وربما الصراع المفتوح.

 

 فإذا كانت الجماعة تدرك أن  الإصلاح السياسي ضرورة لاستكمال مشروعها، فإن خصوم المشروع الإسلامي يدركون أيضًا أن بناء هذا المشروع في المجال السياسي، يمهد لقيام الدولة الإسلامية، المستندة بالكامل للمرجعية الإسلامية، وهو ما يجعل العمل في المجال السياسي، يمثل النقطة الأكثر التهابًا في عملية الإصلاح.

 

والحادث أن تمدد الجماعة في المجال الاجتماعي يساعدها على تحقيق قدر مناسب من الحضور السياسي، ما يجعل النظام الحاكم يتمادى في الضغط على الجماعة في المجال الاجتماعي أيضًا، لأنه يدرك أن القاعدة الشعبية للجماعة، والتي تتشكل من عملها الدعوي والاجتماعي، سوف تصبح القاعدة الجماهيرية المساندة لها في العمل السياسي، والتي تمكنها من فرض الإصلاح السياسي في نهاية الأمر.

 

وكلما أدرك النظام أن الجماعة تضغط عليه في المجال السياسي، يعود للضغط عليها في المجال الاجتماعي، حتى يبعد المعركة من المجال السياسي، ويعود بها إلى المجال الاجتماعي، ثم يحاول محاصرة الجماعة حتى في المجال الديني، وهو بهذا يدفع الجماعة إلى المجال الاجتماعي، حتى تعيد بناء قاعدتها المجتمعية الأساسية.

 

والجماعة تمارس إستراتيجية الكر والفر في المجال السياسي، فهي تدخل إلى العمل العام وتكثف نشاطها، ثم تخفف منه أحيانًا، وتعود لتركيز نشاطها مرة أخرى، تبعًا للظروف والمتغيرات.

 

هذا ما يجعل المواجهة في المجال السياسي مفتوحة ومستمرة، وليس لها نهاية واضحة؛ لأنها تمثل المرحلة الأصعب في أية عملية إصلاح سلمي ومتدرج.

 

 فعندما يصل قطار الإصلاح إلى المجال السياسي، يكون بصدد بلوغ محطة مهمة من محطاته النهائية، فكيف تواجه جماعة الإخوان هذا التحدي؟

 

رفض التراجع السياسي

أهم ما يميز إستراتيجية جماعة الإخوان المسلمين في المجال السياسي، أنها تربط بين التقدم بخطوات محسوبة، مع عدم التراجع عن ما تم تحقيقه من حضور سياسي، فالملاحظ أن الجماعة تتجنب الدخول في المجال السياسي بقوة، ما قد يترتب عليه اضطرار الجماعة إلى التراجع بقوة أيضًا.

 

 فهي لم تحاول تحدي النظام المصري الحاكم، بالمواجهة المباشرة والشاملة، ولم تحاول الوصول إلى مقعد الحكم، وتحاول حصر دورها تحت شعار مشاركة لا مغالبة، وهي بهذا تريد القول: بأنها لا تطلب القيادة، بل تطلب المشاركة في المجال السياسي، وليس في الحكم.

 

وبهذا تحاول الجماعة تحقيق قدر من التواجد والفاعلية، بحيث لا تضطر إلى التراجع عما حققته، وفي نفس الوقت، تحاول الحفاظ على ما تحقق والبناء عليه، وهي بهذا تريد إنجاز خطوات محسوبة ومتدرجة، ولكن ثابتة، وغير قابلة للهدم.

 

والأمر لا يتعلق بما تحققه الجماعة من مقاعد برلمانية، ولكن يرتبط أكثر بما تحققه من تواجد شعبي، وقدرة على حشد الجماهير.

 

ولكن النظام الحاكم من الجهة المقابلة يحاول تحجيم جماعة الإخوان المسلمين، بتقليل المقاعد التي تحصل عليها، وذلك من خلال التزوير والتدخل في الانتخابات.

 

والناظر لما يحدث مع جماعات الإخوان المسلمين في البلاد العربية، يجد نفس التوجه، فكل الأنظمة تحاول تقليل الحصاد السياسي لجماعة الإخوان، خاصة بعدما تبرز باعتبارها القوة الأولى للمعارضة، أو كواحدة من أهم قوى المعارضة، ولكن إستراتيجية تغيير قوانين الانتخاب والتدخل في الانتخابات، لا تغير من حقيقة القاعدة الشعبية المساندة للجماعة، ولا تؤثر بالفعل على مركزها السياسي والاجتماعي، كحركة اجتماعية سياسية، لها وزن مقدر في المجتمع.

 

وجماعة الإخوان المسلمين في المقابل، تحاول الحفاظ على تواجدها وحضورها، رغم ما يحدث في الانتخابات؛ لذا نجدها تتمدد في المجال العام بطرق مختلفة، حسب الظروف المحيطة، بما يحقق لها استمرار تواجدها كقوة اجتماعية أساسية، رغم ما تقوم به الأنظمة الحاكمة من محاولة تقليص تواجد الجماعة الرسمي.

 

تأجيل الوصول للسلطة

هناك العديد من المداخل لفهم موقف جماعة الإخوان المسلمين من قضية الوصول للسلطة، خاصة في البلاد العربية والإسلامية التي تحظى فيها بحضور واسع، فالملاحظ أن الجماعة تعتبر نفسها حركة إصلاحية، فهي لا تبغي الوصول للسلطة، مثل الأحزاب السياسية، والتي تعتبر الوصول للسلطة هو غايتها الأساسية، ولكن جماعة الإخوان المسلمين تركز أساسًا على الإصلاح السياسي، وأهمية تغيير النظم السياسية؛ لتعبر عن المجتمعات تعبيرًا صحيحًا، وهي تعتبر أن مشروعها قابل للتحقق بوصولها للسلطة أو عدم وصولها للسلطة، فالمهم بالنسبة لها هو تحقق المشروع.

 

ولكن هناك جانبًا آخر لا يقل أهمية عن الجانب السابق، فالجماعة تعتبر طلب السلطة، أو طلب الوصول للسلطة، هو من المراحل النهائية، وليس من المراحل التأسيسية؛ لأن وصول الجماعة للسلطة عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة في بلد ما، خاصة إذا كان مصر، قد يكون مقدمة لوصول الجماعة للحكم في عدد من البلاد، بما يؤدي إلى حدوث تغيير واسع في الأوضاع السياسية في المنطقة.

 

وهنا نجد الجماعة تلتزم الحذر، حيث تتجنب حدوث تطور واسع لدورها السياسي في أي بلد عربي أو إسلامي، في وقت لا تستطيع فيه الحفاظ على ما تحققه من مكتسبات سياسية، وبما يضطرها في النهاية إلى التراجع، وهو ما تخشاه الجماعة.

 

لذا يصبح تأجيل الوصول للسلطة، له العديد من المبررات، ومنها أيضًا تخير الوقت المناسب إقليميًّا ودوليًّا، حتى لا تصل الجماعة للحكم في لحظة غير مناسبة، بما يدخلها في مواجهات مفتوحة على المستوى الدولي، فلا تستطيع الحفاظ على ما حققته، أو يفرض عليها القبول بأوضاع ومواقف تعارض مشروعها بما يؤثر سلبًا عليها، وتلك هي المشكلة الأساسية في إستراتيجية جماعة الإخوان المسلمين السياسية، فهي تحاول تحقيق إنجازات متراكمة، حتى تتجنب الإنجازات المهدرة؛ ما يجعلها تلتزم الحذر في حركتها في المجال السياسي، عكس حركتها في المجال الاجتماعي.

 

المشاركة في السلطة

واجهت جماعة الإخوان المسلمين في بعض الدول اختبار المشاركة في الحكم، لم يحدث هذا في مصر، لأن مصر لها وضع مركزي، ومجرد المشاركة في الحكم قد تكون بداية لتغيرات واسعة في مصر والمنطقة، ولكن بعض الحكومات العربية والإسلامية سمحت بقدر من المشاركة لجماعة الإخوان المسلمين في الحكومة، مثل ما حدث في الجزائر والأردن مثلاً.

 

ولكن تلك التجربة أثبتت الوقائع أنها من أصعب التجارب، فقد حاولت الجماعة استخدام إستراتيجية التعاون في المساحة المتفق عليها، مع الحكومات القائمة، ولكن الحكم القائم على فرض نفسه بالقوة، لا يقبل شركاء مستقلين، بل يقبل فقط الشريك التابع؛ لذا حاولت الأنظمة استقطاب الجماعة بالكامل، أو حصارها، حتى لا تصبح شريكًا مستقلاً في الحكم.

 

وأصبحت المشاركة في الحكم مسار اختلاف داخلي، فالبعض يرى أنها تفيد حركة الجماعة، وتساعدها على تحقيق المزيد من التواجد السياسي، وتكسر حالة المواجهة بينها وبين النظم الحاكمة، والبعض رأى أنها لا تحقق تغييرًا واسعًا أو حتى محدودًا في مسار الحكم، بما يجعل الجماعة أو حزبها شريكًا غير قادر على تحقيق التغيير والإصلاح، رغم أنه يصبح مسئولاً عن ما يحدث من النظام الحاكم، ولو نسبيًّا.   

 

لهذا أصبحت الجماعة تدفع ثمنًا للمشاركة في حكم قائم، رغم أنها لا تعتبر نفسها شريكًا له، بل مجرد مشارك في العملية السياسية، تحاول تحقيق الإصلاح التدريجي.

 

وكان نهج الجماعة الذي يسمح بالمشاركة في بعض الحكومات، يراد منه تحسين العلاقة بين النظام الحاكم والجماعة، وفتح الباب أمام التفاعل السياسي التدريجي، وتحسين العلاقة بين الدولة والحركات الإسلامية، ولكن هذا النهج لا يتوافق مع مواقف الأنظمة الحاكمة، والتي تقرب الجماعة عندما تواجه بتحديات واسعة، كما حدث في الجزائر مثلاً، ولكنها لا ترغب في تحقيق مشاركة حقيقية معها؛ لأنها تدرك أن تلك المشاركة سوف تفتح الباب أمام الجماعة لتوسيع القاعدة المؤيدة لمشروعها.

 

والملاحظ أن العديد من المشكلات التي تعرضت لها بعض جماعات الإخوان المسلمين، دارت حول الخلاف في موضوع المشاركة في الحكومات القائمة، والعلاقة مع نظم الحكم والدولة.

 

وحقيقة تلك الخلافات ترتبط بالتوقعات التي يراها كل فريق، فهي ليست خلافات حول إستراتيجية العمل، بقدر ما هي خلاف حول المتوقع كنتيجة لما تتخذه الجماعة من قرارات، وهنا تظهر مشكلة المشاركة المتتالية المتدرجة في العمل السياسي.

 

الاقتراب المتدرج

تحاول جماعة الإخوان المسلمين التركيز على منهج الإصلاح المتدرج، ولكن هذا المنهج يؤدي إلى تشكل مراحل بينية، تظهر فيها الجماعة كفاعل حاضر في المجال السياسي، ولكنه غير قادر على تحقيق إصلاحات في المجال السياسي.

 

والجماعة تتجنب دور المعارض الذي يريد إزاحة النظام الحاكم والجلوس محله، وتقدم نفسها كجماعة تحمل مشروعًا، أكثر من كونها تحاول تحقيق المشروع بالوصول للسلطة فقط.

 

وهنا تبرز أهمية إظهار الجماعة وتأكيدها على مشروعها، وعلى المسافة الفاصلة بينها وبين النظم الحاكمة القائمة، وهذا التأكيد يؤثر على نظم الحكم القائمة، ويجعلها أكثر قلقًا؛ لأنها لا تستطيع سحب الجماعة إلى أرضيتها، فتظل الجماعة محافظة على هويتها وهوية مشروعها، ما يميزها عن غيرها من التيارات والنخب، ويميزها أيضًا عن نظم الحكم القائمة.

 

ومن الواضح أن جماعة الإخوان المسلمين تحاول الموازنة بين ما يطلب منها من مرونة، وبين التمسك بهوية مشروعها، حتى تستطيع إنجاز الممكن دون تفريط في الغايات الأساسية.

 

ومن المفارقات أن مخاوف الأنظمة الحاكمة من الحركة الإسلامية، هي التي ترفع عنها الكثير من الحرج، وتؤكد مشروعها في مواجهة المشروع العلماني القائم، كما أن الأحداث المتلاحقة التي تمر بها الأمة، تفتح الباب أمام بروز الاختلاف الواسع بين التوجهات السياسية غير الإسلامية والمشروع الإسلامي.

 

ولكن تبقى لحظات الاقتراب المتتالي من العمل السياسي، تمثل أصعب اللحظات التي تحاول فيها الجماعة الحفاظ على مشروعها، وفي نفس الوقت الحفاظ على التمدد التدريجي لعملها السياسي.

 

سياسة الإصلاح

الواضح في حركة جماعة الإخوان المسلمين، أنها ترى أولوية للعملية الإصلاحية بكل شروطها الموضوعية، باعتبارها الحل المناسب لبناء المشروع الحضاري الإسلامي؛ لذا فهي تبني في المجال الاجتماعي نواة المجتمع الإسلامي، كما تبني في المجال السياسي التيار الذي يحمل المشروع الإسلامي.

 

وكل خطوات الجماعة يمكن تفسيرها في نهج الاقتراب المتتالي، والذي يقوم على تحقيق الإنجازات المتتالية والمتدرجة.

 

ويلاحظ أن الجماعة تحاول التمدد بقدر ما لها من شعبية، وأيضًا بقدر ما لهذه الشعبية من قدرة على الحركة والفاعلية.

 

 كما أن الجماعة تحسب حساب قدراتها وما تستطيع القيام به، من خلال حساب قدرة وقوة المجتمع، وهي بهذا ترى أن منهجها يقوم على بناء المجتمع القادر على بناء المشروع الإسلامي، وأن دورها يتركز في بناء المجتمع، ثم قيادة المجتمع في المجال السياسي وغيره من المجالات.

 

فالمنهج الإصلاحي يرتكز على القوة البشرية أساسًا، بحيث تصبح تلك القوة هي العامل الفاعل في حركته، والتي تحدد ما يمكن للحركة الإصلاحية القيام به، وما لا يمكنها القيام به، لذا سنجد جماعة الإخوان تتحرك بقدر حضورها الشعبي، وبقدر ما تسمح به الأوضاع الإقليمية والدولية، وتحاول تحقيق إنجازات متتالية بدون تراجع، وهو ما يجعل الجماعة ترى أنها تتقدم بالفعل إلى الأمام، رغم تأخر مرحلة التحقق الكامل للإصلاح الحضاري الشامل.