تميَّز الإمام حسن البنا "رحمه الله" بسعة الاطلاع، وعمق الفكرة والقدرة التنظيمية الهائلة التي شغلته عن التأليف، فلم يخرج كتبًا وتصانيف بل ربَّى الرجال وجدَّد الدين، وتُعد الرسائل أشهر ما كتبه الإمام؛ حيث جمعها إخوانه في كتاب يشهد بغزير العلم ورسوخ القدم وحسن التدبر واستيعاب لأحداث التاريخ.
وقد اعتمد البنا في رسائله على القرآن والسنة وأكثر من الاستشهاد بالآيات والأحاديث بغزارة تُحسب له، كما استأنس بالتاريخ في كثير من المواضع؛ حيث وظَّف الأحداث والإشارات التاريخية التي أوردها لتخدم المعنى الذي يريده، وندر اعتماده على السرد التاريخي، بل كان يأتي بإشارة تاريخية معينة في موضع معين لتعميق الفكرة وإبرازها للمتلقي.
ففي رسالة الإخوان تحت راية القرآن بدأ بعد حمد الله بقوله: "على ضوء الدعوة الأولى" في إشارة واضحة إلى دعوة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تدل على اتِّباعه للسنة واسترشاده بالسيرة النبوية.
ثم أوضح مهمة الإخوان وهي؛ بناء الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، والحكومة المسلمة، والدولة التي تقود الدول الإسلامية، وتضم شتات المسلمين، وتستعيد مجدهم، وترد عليهم أرضهم المفقودة وأوطانهم المسلوبة وبلادهم المغصوبة، ثم تحمل علم الجهاد ولواء الدعوة إلى الله؛ حتى تسعد العالم بتعاليم الإسلام.
وحفَّز جماعته بالحديث عن صدق إيمان الصحابة؛ "فهم الجماعة التي وقع عليها اختيار القدر لإنقاذ العالمين، وكتب لهم الفضل بذلك، فكانوا خير أمة أُخرجت للناس، لقد سمعوا المنادي ينادي للإيمان فآمنوا، ونحن نرجو أن يحبِّب الله إلينا هذا الإيمان، ويزينه في قلوبنا كما حبَّبه إليهم وزيَّنه من قبل في قلوبهم.. فالإيمان أول عدتنا".
شرح العقائد
وفي رسالة العقائد بعد أن شرح العقيدة من القرآن والسنة، ذكر شهادات تاريخية لعلماء أوروبيين في إثبات وجود الله تعالى والإقرار بكمال صفاته؛ لا تأييدًا للعقيدة، ولكن إثباتًا لاستقرارها في النفوس.
1- قال ديكارت العالم الفرنسي: (إني مع شعوري بنقص ذاتي أحس في الوقت نفسه بوجود ذات كاملة، وأراني مضطرًا للاعتقاد بأن هذا الشعور قد غرسته في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع صفات الكمال، وهي: الله)، فهو يثبت في كلامه هذا ضعف نفسه ونقصها، ووجود الله وكماله، ويعترف بأن شعوره وإحساسه هبة من الله له وفطرة فيه، ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: من الآية 30).
2- وقال إسحاق نيوتن العالم الإنجليزي الشهير، ومكتشف قانون الجاذبية: (لا تشكّوا في الخالق فإنه مما لا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قائدة هذا الوجود).
3- وقال هرشل الفلكي الإنجليزي: (كلما اتَّسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صرح العلم، وهو صرح عظمة الله وحده).
4- وقال لينيه، كما نقله عنه كاميل فلامريون الفرنسي في كتابه المسمى (الله في الطبيعة):
(إن الله الأزلي الأبدي العالم بكل شيء والمقتدر على كل شيء، قد تجلى لي ببدائع صنعه حتى صرت مندهشًا مبهوتًا، فأي قدرة وأي حكمة وأي إبداع أبدعه في مصنوعاته! سواء في أصغر الأشياء أو أكبرها! إن المنافع التي نستمدها من هذه الكائنات تشهد بعظمة رحمة الله الذي سخَّرها لنا، كما أن كمالها وتناسقها ينبئ بواسع حكمته، وكذلك حفظها عن التلاشي وتجددها يقر بجماله وعظمته).
5- وقال هوبرت سبنسر الإنجليزي في هذا المعنى في رسالته في التربية: (العلم يناقض الخرافات، ولكنه لا يناقض الدين، يوجد في شيء كثير من العلم الطبيعي الشائع روح الزندقة، ولكن العلم الذي تجاوز المعلومات السطحية، ورسب في أعماق الحقائق، براء من هذه الروح، العلم الطبيعي لا ينافي الدين، والتوجه للعلم الطبيعي عبادة صامتة واعتراف صامت بنفاسة الأشياء التي تعاين وتدرس، ثم بقدرة خالقها، فليس ذلك التوجه تسبيحًا شفهيًّا، بل هو تسبيح عملي، وليس باحترام مُدّعى، إنما هو احترام أثمرته تضحية الوقت والتفكير والعمل، وهذا العلم لا يسلك طريق الاستبداد في تفهيم الناس استحالة إدراك السبب الأول وهو الله، ولكنه ينهج بنا النهج الأوضح في تفهيمنا الاستحالة، بإبلاغنا جميع أنواع الحدود التي لا يُستطاع اجتيازها، ثم يقف بنا في رفق وهوادة عند هذه النهاية، وهو بعد ذلك يرينا بكيفيةٍ لا تعادل صغر العقل الإنساني إزاء ذلك الذي يفوت العقل...)، ثم أخذ يضرب الأمثلة على ما يقول فقال: (إن العالم الذي يرى قطرة الماء فيعلم أنها تتركب من الأكسجين والهيدروجين بنسبة خاصة؛ بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئًا آخر غير الماء، يعتقد عظمة الخالق وقدرته وحكمته وعلمه الواسع بأشد وأعظم وأقوى من غير العالم الطبيعي الذي لا يرى فيها إلا أنها قطرة ماء فحسب، وكذلك العالم الذي يرى قطعة البرَد فيرى تحت مجهره ما فيها من جمال الهندسة ودقة التقسيم، لا شك أنه يشعر بجمال الخالق ودقيق حكمه أكبر من ذلك الذي لا يعلم عنها إلا أنها مطر تجمَّد من شدة البرد).
وفي ذلك دليل قاطع على سعة اطلاعه "رحمه الله"، وزيادة معرفته التاريخية، واستخدام التاريخ في إثبات رؤيته.
صفات الله تعالى
وعند الحديث عن صفات الله تعالى بعد أن شرح المسألة وبيَّن مواضع الخلاف، نجده يقوم بترجيح مذهب السلف قائلاً: (ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع؛ حسمًا لمادة التأويل والتعطيل، وقال: وقد لجأ أشد الناس تمسكًا برأي السلف، رضوان الله عليهم، إلى التأويل في عدة مواطن، وهو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، من ذلك تأويله لحديث: "الحجر الأسود يمين الله في أرضه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن".
ثم ختم البحث بقوله: "وخلاصة هذا البحث أن السلف والخلف قد اتفقا على أن المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق، وهو تأويل في الجملة، واتفقا كذلك على أن كل تأويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز، فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع، وهو هين كما ترى، وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم، وأهم ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف، وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، والله حسبنا ونعم الوكيل)..
وبذلك يكون البنا قد حسم الخلاف في العقيدة عن طريق البحث في المواقف التاريخية لعلماء السلف.
تبسيط علم الحديث
وأما عن علم الحديث فكتب البنا عن الرواية والإسناد، وميَّز بين الإسناد والمتن، ثم أوضح أن الإسناد من خصائص الأمة الإسلامية، قائلاً: ولم يؤثر عن أمة من الأمم العناية برواة أخبارها وكتبها، ومأثورات أنبيائها كما عرف ذلك عن هذه الأمة الإسلامية التي عنيت بهذه الناحية أتم العناية، حتى إن اهتمامها بالأسانيد والرواة لم يقف عند حد العلوم الشرعية، بل تعداها إلى العلوم الأدبية والأخبار التاريخية وغيرها، وإن كان في الحديث النبوي وما إليه أدق وأوضح.
ثم دلَّل على جودة الحفظ وسرعته ودقته وكثرته عند أئمة الحديث: "ولقد اشتهر الكثير منهم حتى كانوا أعاجيب الدنيا في هذه المعاني؛ ومنهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الذي رُوي عنه في ذلك الغرائب المدهشة منذ كان غلامًا حتى لقي ربه، وقال حامد بن إسماعيل وآخر: (كان البخاري يختلف معنا إلى السماع وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام فكنا نقول له، فقال: إنكما قد أكثرتما علي فاعرضا عليَّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه. ثم قال: أترون أني أختلف هدرًا وأضيع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد).
وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت سليم بن مجاهد يقول: (كنت عند محمد بن سلام البيكندي فقال لي: لو جئت قبل لرأيت صبيًّا يحفظ سبعين ألف حديث، قال: فخرجت في طلبه فلقيته، فقلت: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟
فقال: نعم وأكثر، ولا أجيئك بحديث عن الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه حفظًا من كتاب الله أو سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم").
ومن ذلك الحادثة المشهورة التي يرويها ابن عدي فيقول: (سمعت عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد، فاجتمع أصحاب الحديث، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا لإسناد هذا، وإسناد هذا لمتن هذا"، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فقام وسأله عن حديث؛ فقال: ألا أعرفه، فسأله عن آخر. فقال: لا أعرفه، حتى فرغ من العشرة، وفعل مثل ذلك مع من بقي من المشايخ، لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه.
حتى إذا فرغوا، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فإسناده كذا وكذا، والثاني كذا وكذا، والثالث إلى آخر العشرة، فردّ كل متن إلى إسناده، وفعل بالثاني مثل ذلك إلى أن فرغ.. فأقر له الناس بالحفظ والتقدم)، لقد أكد البنا صدق كتاب صحيح البخاري بما رواه من تاريخه وسعة حفظه.
الدعاء
وفي رسالة مناجاة تحدَّث عن الدعاء، وبعد أن أوضح فكرته من القرآن والسنة أورد من الدعاء المأثور عن السلف رضوان الله عليهم وحالهم في دعائهم حتى يُقتدى بهم، فذكر ما ورد عن ضرار الصدائي في وصف علي رضي الله عنه إذ يقول: يستوحش من الدنيا وزخرفها، ويأنس بالليل ووحشته، وأشهد لقد رأيته وقد أرخى الليل سدوله وغابت نجومه واقفًا في محرابه قابضًا على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: (يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرضتّ، أم إليّ تشوّقت، هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وحسابك عسير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق).
وما روي أن عمر رضي الله عنه كان يمر بالآية من ورده بالليل فيتأثر بها، ويحسب في المرضى..
وأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان إذا هدأت العيون، قام فيسمع له بالقرآن دوي كدوي النحل... وكان ذلك دأب الصحابة جميعًا رضوان الله عليهم. وسئل الحسن: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره.
وقال الربيع: بتّ في منزل الشافعي رضي الله عنه ليالي كثيرة، فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرًا، وكان ذلك دأب الأئمة رضوان الله عليهم كذلك.. وتلا مالك بن دينار في ورده قول الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾ (الجاثية)، فأخذ يردِّدها حتى أصبح.. وقال المغيرة بن حبيب رافقت مالك بن دينار ليلة فقام إلى الصلاة فقبض على لحيته فخنقته العبرة فجعل يقول: اللهم حرّم شيبة مالك على النار، إلهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار فأي الرجلين مالك وأي الدارين دار مالك؟ فلم يزل ذلك قوله حتى طلع الفجر.
ورُؤي الجنيد بعد موته، فقيل له ما فعل الله بك يا أبا القاسم؟ فقال: (بليت الرسوم، وغابت العلوم، وانمحت العبارات، وطاحت الإشارات وما نفعنا إلا ركيعات، كنا نركعها في جوف الليل).
ومن وصايا لقمان لابنه: (يا بني.. لا يكونن الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم).
ولقد كانوا رضوان الله عليهم يجدون في كثرة القيام وحلاوة المناجاة أنسًا وراحةً تنسيهم عناء الأجسام وتعب الأقدام.. قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: (أهل الليل في ليلهم أروح من أهل اللهو في لهوهم، ولولا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولو عوَّض الله أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدون من اللذة لكان ذلك أكثر من هذه الأعمال).
وقال بعضهم: (ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم الآخرة إلا ما يجده أهل القيام في قلوبهم من حلاوة المناجاة).. وقال محمد بن المنكدر رضي الله عنه: (ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في الجماعة)... وقال بعض الصالحين: (منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء إلا طلوع الفجر)... وقال بعضهم: (إن الله تعالى ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها نورًا، فترد الفوائد على قلوبهم، ثم تنتشر منها إلى قلوب الغافلين).
ومن وصف عليّ كرم الله وجهه للمتقين: (أما الليل فصافون أقدامهم تالون لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم ويستثيرون دواء دائهم، إذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعًا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقًا، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وأطراف أقدامهم، لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون).
ثم قال كذلك كانوا- أيها الأخ- فاسلك سبيلهم وانهج نهجهم أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.
ولكي يؤلف القلوب أورد أدعية مأثورة من مناجاة ابن عطاء الله السكندري والسيد أحمد الرفاعي والسيد أحمد بن إدريس وأبي الحسن الشاذلي، والإمام الشافعي رضي الله عنه.
إنه الوعي بالتاريخ، وحسن توظيفه في بناء الجماعة، وتربية الأفراد، ومناقشة المخالفين، ونشر الفكرة، وإثبات سلفية دعوة الإخوان.
---------------------
* باحث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر- [email protected]