في الحلقة "18" يتعرَّض وحيد حامد للعلاقة بين الإخوان والوفد، مائلاً بطبيعة الحال نحو تجميل مواقف النحاس والوفد على حساب جماعة الإخوان ومرشدها، على أساس المَثَل القائل "عدو عدوي صديقي"، بالرغم من أن جماعة الإخوان لم تتخذ موقفًا عدائيًّا مبدئيًّا من أحد، ولكنها فقط النصيحة في الإسلام إذا خُولفت مبادئه، ومن أمثلة هذا التحيُّز الظالم إبراز جزء مبتور ومنتقى من خطاب وجَّهه الأستاذ البنا إلى رئيس الوزراء في حينها مصطفى النحاس بعد حوار أجرته معه صحيفة تركية، وأبدى به إعجابًا شديدًا بأتاتورك وتحوُّلاته في تركيا، وقال إنه معجب بلا تحفُّظ بشخصه، فرد عليه الأستاذ البنا برسالة جاء فيها "في دولتكم أكبر زعيم شرقي عرف الجميع فيه سلامة الدين وصدق اليقين، وموقف الحكومة التركية الحديثة من الإسلام، وأحكامه وتعاليمه وشرائعه معروفة في العالم كله لا لبس فيه؛ فالحكومة التركية قلبت نظام الخلافة إلى الجمهورية، وحذفت القانون الإسلامي، وحكمت بالقانون السويسري مع قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 44).

 

وصرَّحت في دستورها بأنها حكومة لا دينية، وأجازت بمقتضى هذه التعاليم أن تتزوج المسلمة غير المسلم، وأن ترث المرأة مثل الرجل، واصطدمت في ذلك بقوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ (النساء: من الآية 11)، وهذا قليل من كثير من موقف الحكومة التركية من الإسلام، وأما موقفها من الشرق فقد صرَّحت في وقت من الأوقات بلسان وزير خارجيتها بأنها ليست دولة شرقية، وقد قطعت صلتها بالشرق حتى في شكل حروفه وفي أزيائه وعاداته وكل ما يتعلَّق به.." وختمت الرسالة إلى النحاس "ولقد أخذ الكثير ممن طالعوا هذا التصريح يتساءلون: هل يُفهم من هذا أن دولة النحاس باشا وهو الزعيم المسلم الرشيد يوافق على أن يكون لأمته- بعد الانتهاء من القضية السياسية- برنامج كالبرنامج الكمالي، يتولَّى كل الأوضاع فيها ويفصلها عن الشرق والشرقيين، ويسقط من يدها لواء الزعامة، وإنا نعيذ دولة الرئيس من هذا القصد الذي نعتقد أنه أبعد الناس عنه".

 

لكن طبعًا وحيد حامد لم يظهر منطق الرسالة الرفيع، ولم يتل منها سوى السطر الذي يختتم بالآية الكريمة ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 44)، وليدع المشاهد في مظنة المنطق التكفيري للشيخ البنا، وقد بتر سياق الرسالة.

 

مشهد آخر يرسم فيه وحيد حامد الشيخ البنا وهو مبتسم راضٍ عن أخبار نتائج المشاجرات بين طلبة الوفد وطلبة الإخوان، وكأنه يشحذهم لذلك، بل يتجاوز الأمر عندما يقول راضيًا: إن هذه النتائج بسبب تدريباتنا لهم؛ ليدافعوا عن أنفسهم ويصدوا الآخرين.. فمن أي كتاب أسود استمدَّ وحيد هذا الحوار؟ بينما طلبة الإخوان خلال هذه الفترة لم يمتنعوا عن المشاركة في أي عمل وطني مشترك، كالجبهة الوطنية التي شُكِّلت عام 1935م من طلبة الجامعة، وكانت أساس انتفاضة الطلبة عام 1935م، ثم الاشتراك بعد الحرب العالمية الثانية في "لجنة أعمال الشباب"، والتي ضمت الطلبة المنتمين إلى الحزب الوطني، والوفد والأحرار الدستوريين، والهيئة السعدية، والكتلة الوفدية، والإخوان المسلمين، ومصر الفتاة، وبعض المستقلين؛ لتحقيق وحدة الحركة الطلابية، وإن لم تستمر طويلاً كسابقتها، لكن أيادي طلاب الإخوان كانت ممتدة إلى الجميع في هذه الفترة.

 

ولا يزال وحيد حامد يحرص على تشويه نهج طلبة الإخوان في الجامعة، ووصفهم بالبلطجة والميل إلى العنف، وعدم القدرة على الحوار مع أن المنطق يحكم بغير ذلك؛ بسبب إقبال طلبة الأحزاب في هذه الفترة على الانضمام إلى جماعة الإخوان؛ وهو ما أقرَّ به وحيد حامد في مسلسله هذا، والطالب المثقَّف، وخاصةً في هذا العهد لا ينضم إلى جماعة ويترك حزبه خشية البلطجة أو عن طريق لي ذراعه، وهنا يرجع المؤلف إلى عدم المنطقية في إدارة أحداث مسلسله، فبدلاً من أن يُظهر الأسباب الحقيقية لتدفُّق الطلاب المثقفين على جماعة الإخوان في هذه الفترة يلجأ إلى تشويش وتشويه عقلية وأخلاق هؤلاء الطلاب، وهنا يفقد المسلسل مصداقيته، علمًا بأن النشاط الطلابي في هذه الفترة كان نشاطًا ملحميًّا تشارك فيه جميع الطلاب على مختلف توجُّهاتهم في المظاهرات التي خرجت تندد بالاحتلال الإنجليزي، خاصةً بعد أن ألغت وزارة محمد توفيق نسيم دستور 1930م، وتعلَّقت آمال الطلاب على إعادة دستور 1923م، لكن لم يصدر مرسومًا بذلك، فكان من أسباب ثورة الطلاب وبدء انتفاضة 1935م، وقيام الطلاب بتشكيل الجبهة الوطنية التي ضمَّت جميع الأطياف، وشارك طلاب الإخوان مع طلبة الوفد ومصر الفتاة والأحرار الدستوريين وسائر طلاب مصر في تلك الانتفاضة، التي توسَّطتها مظاهرة كوبري عباس الشهيرة.

 

ولم تقتصر جهود طلبة الجامعة على المظاهرات الاحتجاجية، بل نظَّموا حركتهم من خلال تكوين لجنة أطلقوا عليها اسم "اللجنة العليا للطلبة" انبثقت منها لجان أخرى؛ لتوجيه الدعاية الإعلامية إلى حركة وتعبئة الرأي العام وراءها، والاتصال بالسياسيين والأحزاب، مع الحرص الشديد على استقلال حركتهم عن الأحزاب السياسية، وراحوا يطوفون على زعماء الأحزاب السياسية يدعونهم إلى تكوين جبهة وطنية متحدة؛ لإنقاذ البلاد، ففي 21 نوفمبر أصدرت "اللجنة العليا للطلبة" بيانًا ناشدت فيه جميع الهيئات السياسية إلى الوقوف جبهة واحدة في وجه العدو الغاصب؛ للمطالبة بالاستقلال التام لمصر والسودان، والتمسُّك بدستور 1923م، فاستجاب زعماء الأحزاب- وخاصة أحزاب الأقلية- لهذه الدعوة، وجاءت الاستجابة الأولى من محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين، ثم اضطر الوفد وغيره من الأحزاب إلى قبول فكرة "الجبهة المتحدة" بعدما زادت ضغوط الحركة الطلابية، وتطورت الأحداث بعد ذلك بالشكل الذي أدَّى إلى إعادة العمل بدستور 1923م، ووصول الوفد إلى الحكم؛ وبذلك كان طلاب الجامعة قد نجحوا في تحريك الموقف السياسي بصورة إيجابية، فهل هؤلاء الطلبة الذين كانوا يُحْرِجُون الأحزاب والسياسيين، ويحركون الأحداث، بالرغم من أنف زعمائهم هم من يتكلم عنهم وحيد حامد، ويجعلهم في مثل هذه السطحية والانشغال في التنافس الممجوج بين بعضهم البعض، بينما كانت القضية الوطنية قد شغلت ضمائرهم وعقولهم فوق ما انشغل بها زعماؤهم السياسيون، والذين رضخوا جميعًا في النهاية لمطالب الطلاب بتشكيل جبهة وطنية متحدة لإنقاذ مصر، فعن أي تاريخ وأي طلاب يتكلم وحيد حامد.

 

عندما تكذب الدراما دون تجمُّل

وفي الحلقة "19" ما زال المؤلف يلمز علاقة الإخوان بملوك مصر: فؤاد وفاروق، وكأنها علاقة شخصية نفعية، مع أن الرسالة التي بعثها الشيخ حسن البنا إلى الملك فؤاد تكشف حقيقة جهود الإخوان نحو استمالة فؤاد إلى محاربة جمعيات التبشير التي كانت منتشرة ومتوحشة في هذا الوقت، حتى إنها استطاعت تنصير الكثير من الفتيات الفقيرات، وتزويجهن بمسيحيين، أما في عهد فاروق، فقد حدث أن ذهب وفد من الإخوان برئاسة الأستاذ البنا إلى السرايا الملكية، وقدَّموا عريضةً إلى الملك طالبوا فيها بإلغاء البغاء الرسمي والسري، وتحريم الخمر، ومحاربة السفور والإباحية، كما طالبوا بتحريم المقامرة، وسَن قانون يمنع الربا، كما طالبوا بالعناية بالتعليم والمساجد، وكان الإخوان يضعون آمالاً على وطنية فاروق، وإظهاره التمسك بالدين، وهكذا كانت علاقة الإخوان بالحكام، مطالبين بالإصلاح، ومتقربين بالنصح، وفي سبيل تحقيق مكاسب للأمة ودينها وتراثها الأخلاقي والمحافظة على هويتها، فهل يعاب على الإخوان نصحهم إلى الحكام واستعانتهم بهم من أجل تحقيق هذه المصالح؟ مع أن هذا المسلك هو نفس المسلك الذي سلكوه مع حزب الوفد باعتباره حزب الأغلبية الحاكم، حيث ظلُّوا بالرسائل والمقابلات والمطالبات حتى استجاب حزب الوفد لهم عام 1943م، فألغى البغاء لكنه قصر القرار على القرى، وامتنع عن إعطاء تصاريح جديدة في المدن، لكن الإخوان لم يقصِّروا بعدها، فقد تواصلوا مع رجال الإدارات؛ ليتم إلغاء البغاء إقليميًّا وإداريًّا ما استطاعوا، فقام مدير مديرية البحيرة بإلغائه في دمنهور، كما قام مدير مديرية القليوبية بإلغائه في بنها، واستمر هكذا الحال حتى دخلوا المعتقلات في عام 1948م، ولكن بمجرد خروجهم عادوا إلى ممارسة جهدهم الحميد، ومن خلال علاقتهم برجال ثورة 1952م وقبل الصدام معهم تمَّ إلغاء البغاء تمامًا في مصر بفضل جهود الإخوان ومطالبهم لرجال الحكم.

 

فلم يكن قرب الإخوان يومًا من حاكم إلا لأجل النصح، ومطالبين بتحقيق العدل والفضائل، ولو كانت تزلفًا ونفاقًا ما قُتِلَ الشهيد حسن البنا على يد رجال الحكومة، وباتفاق مع القصر، وما عاد عبد الناصر حتى يصب جام غضبه على الإخوان، فما عرف الإخوان يومًا نفاقًَا، ولا تزلفًا، ولكن محاولات لإصلاح الحكام ونظام الحكم.

 

يعود وحيد حامد في هذه الحلقة؛ ليظهر أن انتهازية شباب وطلبة الإخوان قديمة قدم الجماعة، فها هو طالب من مصر الفتاة يتهم طالبًا إخوانيًّا بأنه "روميو" يدفع للجماعة قرشًا لتعود له عشرة قروش، لكن المؤلف العليم بالغيب والأسرار لا يخبر القارئ كيف، ولم يفسر لنا كيف مكنتهم انتهازيتهم من الاندفاع نحو القناة يقاتلون الجنود البريطانيين، ويسقط منهم الشهداء حتى يُقام نصب لشهداء الطلبة في الجامعة، وكان من شهداء طلبة الإخوان الطالب عمر شاهين والطالب محمد منيسي، ولقد احتشدت مصر كلها وجميع طلابها في جنازة عمر شاهين التي سارت بالقاهرة، حتى أنها امتدت بطول 3 كيلومترات، ولكن وحيد حامد لا تهزه وطنية الأحداث التي شارك فيها طلبة الإخوان بقوة- وقد بيَّنت جانبًا آخر منها الحلقة الماضية- فتدفعه إلى احترام جهودهم الوطنية ونضالهم ودمائهم الذكية، فإذا لم يمكنه ما في قلبه من إعطائهم حقهم، والإشادة بجهادهم؛ فعلى الأقل لا يفتري عليهم بالكذب فيسكت، ولكن كما قالوا قديمًا: "إن الغرض مرض".

 

حتى الآن لم يُفصح وحيد حامد عن سبب الربط بين قضايا الفساد والرشوة التي يظهرها في المسلسل وتاريخ جماعة الإخوان المسلمين، لا توجد حتى الآن إشارات أو رموز واضحة؛ فهل هو مجرد ربط اشتراطي يستهدف وجدان المتفرج بين تفشي الفساد وانتشار أفكار الصحوة الإسلامية؟ هل يريد وحيد أن يقول أو يوحي لوجدان المتفرج أن كلاهما مرض، فبالقطع هو لا يريد أن يقول إن هناك علاقة سببية، وأن الناس يتجهون إلى الالتزام بتعاليم الإسلام نتيجة لفشل وفساد أنظمة الحكم، وهو ما يُعتبر شهادة لصالح منهج الإخوان الإصلاحي؛ حيث يرى الناس فيه سبيلاً للعافية والبراء، على أي حال سننتظر حتى تكشف نوايا وحيد حامد عن نفسها.

 

"الجماعة".. والحاج محمد هتلر

تظهر الحلقة "20" تعاظم العلاقة بين علي باشا ماهر وقد أصبح رئيسًا للوزراء والشيخ حسن البنا، ويحاول المسلسل أن ينحي فكرة أن علي ماهر كان يستغل جماعة الإخوان المسلمين للإضرار بحزب الوفد، ولانتقاص شعبيته، كما يحاول الإيعاز في تسطيح شديد أن فاروق وعلي ماهر كانا يشجعان التقدم الألماني ضد الإنجليز، وكان يشاركهم في هذا حسن البنا، ويحتجون بمقال كتبه عباس العقاد؛ ليفسره المسلسل أن الإخوان هم المقصودون بالجماعات الفاشية التي تهلل لانتصار هتلر.

 

والحقيقة أن هذا الكلام فيه تضليل وسطحية شديدة، فلم يكتب الإمام البنا مرة مشجعًا النهج الألماني في احتلال البلاد، ولم ينادِِ أبدًا بالتعاون مع ألمانيا، ولم يتصل بعلي ماهر أو بفاروق بهذا الخصوص، بل إن فاروق وعلي ماهر ما كانا يستطيعان الجهر برأيهما هذا، إن صح، أما مقال عباس العقاد فكان يقصد به شيوع مشاعر تأييد هتلر بين أفراد الشعب المصري، ويحذِّر الناس من كون ألمانيا وإيطاليا تتبنى نُظُمًا فاشية ضد الديمقراطية الحديثة، والتي كانت تتمتع بها مصر في هذا الحين.

 

إذن فما سر العلاقة غير المسبوقة بين الشيخ حسن البنا ورئيس وزراء مصر؟ فلقد كانت هناك صلة وتشاور ونصح في فترة وزارة علي ماهر، وسبب ذلك ما عرف عن علي ماهر برغبته- وهو السياسي المحنك- بتوسيع نفوذ مصر إلى المحيط العربي والإسلامي، كما عُرف عنه خصومته للاحتلال البريطاني، كما رَفَضَ بشدة دخول الحرب في صف الجيش البريطاني بالرغم من إلحاح بريطانيا على حكومة مصر، وكذلك عُرف عنه اهتمامه بقضية فلسطين، على عكس النحاس باشا.

 

من المواقف الوطنية لوزارة علي ماهر في هذه الفترة أن اللواء محمد صالح حرب وزير الحربية في وزارة علي ماهر 1939- 1940م أخذ على عاتقه مهمة تطوير الجيش المصري وتحديثه، والتصدي لنفوذ البعثة العسكرية البريطانية، وتثبيت أقدام العناصر الوطنية فيه، إضافة إلى محاولته مع رئيس الوزراء علي ماهر تجنيب مصر ويلات الحرب العالمية الثانية، وهي السياسة التي أدت إلى صدام تلك الوزارة مع الإنجليز، وهو الموقف الذي لم يستطع الوفد بعد ذلك الثبات عليه، ولقد عرف الإخوان المسلمون ذلك عن علي ماهر ورجاله ووزارته، وكان من مواقفهم المشهودة خروجهم لاستقبال علي ماهر عقب عودته من لندن بعد مشاركته في مؤتمر المائدة المستديرة بخصوص قضية فلسطين؛ تشجيعًا له على جهوده الحميمة في صالح الشعب الفلسطيني.

 

ومن هنا كان احتفاء الإخوان بعلي باشا ماهر لالتقائهم على هدف واحد، ولعل المقال الذي كتبه صالح عشماوي "رئيس التحرير" في افتتاحية مجلة (النذير) عندما جاء بوزارته الجديدة عام 1939م يفسِّر بوضوح حدود العلاقة وحدود التعاون على الأهداف الكبرى، وبعيدًا عن التسطيح فيما يخص الاجتماع على خصومة الوفد أو تشجيع ألمانيا، فقد كانت الجماعة تتعاون مع الجميع بما فيهم الوفد، كما بينتُ في الحلقة السابقة، وهذه المقالة الافتتاحية للنذير تزيل الكثير من اللبس الذي نثرته الحلقة العشرون من المسلسل، وقد جاء في المقالة في العدد 27 بتاريخ 6 رجب سنة 1358هـ، بقلم الأستاذ صالح عشماوي رئيس تحريرها بعنوان: "وزارة جديدة وموقف قديم" جاء فيها:

 

".. واليوم تقبض على أزمة الأمور وزارة جديدة على رأسها رفعة علي ماهر باشا، يعاونه فيها وزراء سعديون وآخرون مستقلون، واعتذر الأحرار الدستوريون عن الاشتراك في الوزارة مع وعدهم بتأييدها والتعاون معها، وقد يتبادر إلى ذهن القارئ هذا السؤال: ما موقف الإخوان المسلمين من الوزارة الجديدة؟ وقبل أن نجيب على هذا السؤال نود أن نمهِّد بالحقيقة الثابتة، وهي أن الإخوان المسلمين ليسوا حزبًا من الأحزاب، يؤيد أو يعارض تبعًا لمصلحة حزبية أو جريًا وراء منفعة شخصية، ولكن الإخوان المسلمين دعوة إسلامية محمدية، اتخذت من الله غايتها، ومن الرسول صلوات الله عليه وسلامه قدوتها، ومن القرآن دستورها، ولها برنامج واضح الحدود، ظاهر المعالم، يرمي إلى تجديد الإسلام في القرن الرابع عشر، وصبغ الحياة المصرية بالصبغة الإسلامية، وهيمنة تعاليم القرآن على جميع مظاهر الحياة من تشريع، واجتماع، وسياسة، واقتصاد، كما يرمي إلى تحرير كل شبر في الأرض فيه نفس يردد "لا إله إلا الله محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم، وأخيرًا نَشْرُ الإسلام، ورفع راية القرآن في كل مكان، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله؛ هذا برنامج ضخم لا يدانيه برنامج من برامج الأحزاب إن كان لها برامج ومناهج، وهو في نظر الكثيرين لون من ألوان الخيال، وضرب من ضروب الخيال، ولكنا نؤمن به، ونثق في أنفسنا، معتمدين على تأييد الله.

 

فموقفنا إذًا من وزارة علي باشا ماهر هو موقفنا من أية وزارة، موقف قديم لا يتغير بتغير الوزارات، ولا يتبدل بتبدل الوزراء، فمن أيَّد الفكرة الإسلامية وعمل لها واستقام في نفسه وفي بيته، وتمسك بتعاليم القرآن في حياته الخاصة والعامة؛ كنا له مؤيدين مشجعين، ومن عارض الدعوة الإسلامية، ولم يعمل لها بل وقف في سبيلها أو حاول التنكيل بها كنَّا له أعداءً وخصومًا، ونحن في كلتا الحالتين إنما نؤيد ونعارض ونحب ونكره في الله.

 

وتحيط بعلي ماهر باشا هالةٌ كبيرةٌ من الدعاية الطيبة، وتسبقه آمال حلوة وأمانٍ عذبة في الإصلاح والإنقاذ، والمفروض في المسلم أن يُحسن النية بأخيه، وليس ما يمنعنا أن نحسن النية بعلي باشا ماهر ووزرائه، ولكن علَّمتنا التجارب ألا نثق بوعود ولا نصدق في أقوال ولا نُسرف في آمال، ليكن علي باشا ماهر كما يقولون وفوق ما يقولون، ولتنتج وزارته من الإصلاح ما يتوقعون وأكثر مما يتوقعون، فلن نجدد موقفنا ولن نصدر حكمنا إلا على أعمال لا أقوال، وأغلب ظني أن رجلاً كعلي باشا ماهر عُرف بالسرعة في العمل والجرأة في الإصلاح سيجبرنا قريبًا على الكلام له أو عليه.. "فلنؤمل خيرًا ولننتظر فلن يطول بنا الانتظار".

 

وهكذا حددت المقالة التي كُتبت في استقبال وزارة علي ماهر أن الإخوان حريصون على أهدافهم الكبرى في سبيل خدمة قضايا الإسلام وأمتهم، وأنه على قدر تعاون الآخرين معهم على خدمة هذه الأمة ودينها على قدر احتفائهم بهم، وذلك دون أن يستغل الجماعة أحد لأهداف دنيوية أو دون أن ينتقصوا هم من أحد لأهداف غير ربانية، يحكمهم في ذلك المبادئ الإسلامية الأساسية والتي وضعها الإمام البنا ومنها:

1- البعد عن مواطن الخلاف.

2- البعد عن هيمنة الأعيان والكبراء.

3- البعد عن الأحزاب والهيئات.

 

وهي أول ثلاث خصائص من سبع وصف بها الشيخ حسن البنا خصائص دعوة الإخوان في رسالة المؤتمر الخامس، فقد كان حريصًا على صفاء الدعوة ونقائها وترفعها عن الخلافات الحزبية، ولكنها دعوة إسلامية تدور مع مصلحة الدين حيثما دارت، لا تحابي أحدًا إلا في وضع النافع له، ولا تصادم أحدًا إلا إذا كان مصادمًا للدين مخاصمًا للأمة، أما حكاية ألمانيا وهتلر فهو تسطيح واستخفاف لم يعد غريبًا على هذا المسلسل الدعائي المنغمس في عدائيته للجماعة ومؤسسها.

 

"الجماعة".. فاشل دراميًّا وفاسد فنيًّا

في الحلقة "21" تتواصل دون حذر من ملل أو شفقة على عقلية المشاهد نفس الاتهامات السابقة للجماعة ومؤسسها بأنها صنيعة الاحتلال، وأنها كانت مطية لبعض السياسيين من قِبَل بعضهم، وأن مؤسسها قادها باستبداد وديكتاتورية من أجل زعامة تاريخية لنفسه غير مسبوقة، وأنه في سبيل ذلك استعان بالدعم الخارجي، وعمل ضد الوطنيين داخل بلده، فمرة أخرى يحتفي المسلسل بظهور انشقاقات داخل الجماعة صُوِّرَت بحجم ضخم اعتراضًا على اقتحام الشيخ مجال السياسة دون رغبة من الجماعة أو إحاطة لهم، وهنا يضع المؤلف على لسان الشيخ جملة: "إن العلماء دون دخول السياسة لا لزوم لهم".. ثم يستدرك: "لا سلطة لهم"، وكأن الأمر كان مقترنًا عنده دومًا بالسلطة والجاه.

 

ثم في مقابلة مختلقة تمامًا بين البنا ومدير المخابرات البريطانية، يعرض الأخير على الأول الدعم المالي الضخم والأول يطلب مهلة للتفكير، ثم يعود لأصحابه شاحب الوجه، مخبرًا أحدهم في خوف وتوجس بأن الإنجليز انتبهوا للجماعة ولن يتركوها، وكأن البنا كان يتخيل أن تحظى الجماعة بمودة الإنجليز أو أنه لم يتوقع عدوانهم وخصومتهم قبل هذه الساعة، ثم يبدو الانزعاج على الشيخ حسن البنا بصورة كبيرة أيضًا عندما يعلم أن وزارة حسين سري تشكلت، وكأنه كان يرى أن بقاءه واستمراره رهنًا بالحكومات التي كانت تساعده، أي أن دعوته كانت دعوة أعانه عليها قوم آخرون، وأمدوه بالدعم والتمويل والتشجيع، وهو لا يدري أن بريطانيا كانت وراء كل ذلك، وهو ما ندركه من قول مدير المخابرات البريطاني للشيخ عن علمه بما يصله من السعودية، وتعمد إظهار صورة الشيخ البنا منزعجًا أو خائفًا أو متوترًا عند التغييرات الوزارية أو عندما يعاتبه أحد الداعمين في رأي المؤلف، كمشهد عتاب علي باشا ماهر له عقب مظاهرات الوفد، يكون الغرض الأساسي منه الإيحاء بأن البنا يعتمد بصورة أساسية على سلطة الآخرين ودعمهم.

 

الحقيقة أن ما سبق مع غيره من العديد من الأخطاء المنطقية والواقعية والتاريخية في المسلسل يقود المسلسل نحو فشل درامي ذريع، تمثَّل مبدئيًّا في انصراف المشاهدين عنه لعدم مصداقيته ولدعائيته المفرطة، وبالإضافة إلى ذلك فإن المسلسل كعمل أدبي فني إبداعي قد سقط سقوطًا ذريعًا، فلا توجد حبكة ولا خيوط متشابكة، ولا نمو للشخصيات، ولا كشف تنويري، ولا معالجة درامية من خلال الأحداث، بل لغة خطابية دعائية تدوي فيها أيديولوجية المؤلف مع تسطيح شديد ومباشرة بارزة في معالجة القضايا.

 

والحقيقة أن وحيد حامد قد جافى كل أسس الكتابة الأدبية التي ارتقى لها الفكر الإنساني، وارتد إلى مسرح الأقنعة اليوناني؛ حيث الشرير يرتدي قناع الشر، ويمد يديه كمخالب وحش ضارٍ تجاه خصومه، بينما الخير يرتدي قناع الخير طوال الوقت، ويمشي بخطى هادئة بريئة، هنا كانت مثالية رجال أمن الدولة وملائكيتهم مقابل توتر وجه الشيخ البنا، وعصبية يديه وحركاتهما الممثلة للاستحواذ والهيمنة مقابل فظاظة ووحشية شخصية المرشد المعاصر، وغلظة صوته وفظاظة لغته.

 

ومع أن جميع نظريات الأدب الحديثة، إما تخفض حضور المؤلف في عمله إلى الحد الأدنى، أو تسمح له بالوجود الرمزي في إحدى الشخصيات، وإما في الأغلب تذهب مذهب "بارت" في النقد الأدبي الذي ينادي بموت المؤلف، وأن العمل الأدبي هو استيعاب المؤلف لما حوله من بيئة وثقافة وتاريخ وأشخاص ومشاعر عامة وخاصة ثم يذاذ نقله كما هو عبر شخصياته.

 

لكن وحيد حامد يضرب كل نظريات الأدب في مقتل في مسلسل الجماعة، فوحيد حامد بأيديولوجيته ومشاعره واتجاهاته وآرائه حاضر بقوة ووضوح منذ الجملة الأولى في العمل، وليس ذلك في شخصية واحدة أو اثنتين بل في كلِّ شخصيات العمل، فكلها تهاجم بطل العمل وتنتقده، وتكشف عيوبه وتفضح أمراضه وأسراره وخفاياه في شكل لا يمكن أن نصفه بأنه فني أو أدبي، حتى بطل العمل يعمل ضد شخصيته بإشاراته وإيحاءاته والعديد من كلماته وتعليقاته، وبملامح وجهة التي تفضح خفايا مريبة أو توتر نفسي أو خوف أو فزع، وبخاصة عندما يواجهه الآخرون باتهاماتهم أو شكوكهم.

 

لا توجد شخصية محايدة داخل العمل تتعاطف معه؛ ولكن لا بد أن تقذفه بحجر حتى أتباعه ممن حوله يظهرهم العمل، وكأن المعترضين منهم سواء تكلموا أو صمتوا أو الخارجين عليه؛ هم أكثر وأبرز من غيرهم.

 

فشيخه في الكتاب يصفه بالغرور والقسوة والغلظة تارةً، ويصفه بالرغبة في الزعامة تارةً أخرى، وشيخ المسجد الصغير يصفه بقلة التهذيب وضعف الأدب، ووالد أحد أصدقائه يصفه بالتشدد والعنف، وعند الشيخ الدجوي يصفه الشيوخ هناك بالتهور والاندفاع، وأنه مريض بالهوس بل يُتهم أيضًا بالطفيلية، ووكيل النيابة شكك في مصداقيته، والمستشار المتقاعد يتهم جماعته بالانتهازية والمتاجرة في آلام الناس، وتهمة الانتهازية تصبح قاسمًا مشتركًا مع أكثر من شخصية تصف شباب الجماعة، ثم ترميه أحداث المسلسل بالنفعية والتعامل مع الشيطان، فهو صنيعة بريطانيا، ولسان حال المذهب الوهابي السعودي، ورجله في مصر ثم هو مع ماهر والملك؛ ليضرب الوفد، فالنحاس يتهمه بالرغبة في تحطيم الجميع، طبعًا لصالح نفسه.

 

وهكذا فإن هذا العمل الدرامي بهذا الشكل يتحوَّل إلى دعائية فجة، وخطاب عدائي مباشر ينفي عنه صفة الفن أو الأدب أو الدراما، حسب كلِّ القواعد المعمول بها، فالمؤلف يطل برأسه من وجه كل شخصية في العمل، وكل الشخصيات تتكلم بلسانه حتى شخصية الشيخ البنا نفسه.

 

يقول الدكتور صلاح فضل "أستاذ الأدب": النص الأدبي لا يأخذ مصداقيته من محاكاته الدقيقة للواقع, كما لا يأخذها من نسق فكري سابق عليه؛ إنه يأخذها من انسجامه مع نفسه وتناميه وفق قوانينه التي تشكل بها"، ووحيد حامد هنا لم ينقل واقعًا تاريخيًّا بضبط شديد، وهذا جيد لكنه فعل الأسوأ، لقد بنى عملاً أدبيًّا (سيناريو) وفنيًّا (مسلسل) على أساس نسق فكري أيديولوجي سابق خاص به، ولم يسمح لعمله أن يتنامى أو أن يتشكل في شكل متناسق ومنطقي بل حوَّل المسلسل إلى خطاب عدائي تجاه شخص البنا وجماعته، مع علم وحيد حامد بما يذهب إليه نقاد الأدب، ومنهم "لانسون" الذي قال: "ثلاثة أرباع المبدع مكون من غير ذاته".

 

ومع علمه بأن النظرية البنيوية التكوينية الحديثة والمعمول بها في مجال الأدب كذروة الإنتاج العقلي البشري في مجال النقد الأدبي، تقول: "إن الفئات الاجتماعية هي المبدعة الحقيقية للإبداع الثقافي؛ بحيث يعني العمل الأدبي تعبيرًا عن (رؤية العالم)، عن نمط من الرؤية والإحساس بعالم ملموس من الكائنات والأشياء، هذه الرؤية ليست واقعة فردية بل واقعة اجتماعية تنتمي إلى مجموعة أولى، فلا بدّ بالضرورة من إدراك أن الوعي بالوقائع المتضمنة في العمل الأدبي إنما هو وعي مجموعة أو طبقة، أي هو وعي طبقي، إن الأدب ينتج عن الوعي الجماعي الذي تعبر عنه رؤية العالم، ما دام هو الذي يشكل هذه الرؤية".

 

ومعنى هذا الكلام السابق ببساطة أن الكاتب يعبِّر عن ضمير مجتمعه (عالمه) ومشاعره وآرائه، ولا يعبر عن رأي شخصي فردي له، فهو يعبِّر عن وعي جمعي ورؤية جمعية، فعن أي جموع أو عن أي طبقة أو مجتمع عبَّر وحيد حامد؟ بل إن وحيد حامد راهن (في تصريح أدبي غير مسبوق) بأن رأي الكثيرين سيتغير في جماعة الإخوان بعد رؤية المسلسل!! أي أنه قفز على الرأي العام والوعي الجمعي، واستعلى عليه، وتجاسر في كبريائه عندما رأى في نفسه القدرة على تغييره.. يا عم وحيد!! منذ متى يغير مسلسل أو فيلم أو رواية واحدة الرأي العام ما لم تأتِ في تيار من الأحداث والمشاعر والأفكار.

 

إن القصص الواقعية للمحاكمات العسكرية بما فيها من أدوار للإعلام والصحافة، وبما فيها من واقعية القضاء والادعاء والأحكام والصور والقصص؛ لم تغير الرأي العام نحو جماعة الإخوان المسلمين، فكيف تَخَيَّل وحيد أنه سيغيره بمسلسل إيهامي دعائي مثل هذا، لم يكن وحيد كاتبًا محترفًا أو دراميًّا واعيًا عندما ظن ذلك.

 

يقول الناقد جولدمان في تفسير رؤية الأديب للعالم من حوله كما يراها مجتمعه: "وهذه الرؤية لا تخلقها الجماعة، ولكن تخلقها العناصر المشكلة لهذه الجماعة "المجتمع" التي ترعرعت في ظلها، والجماعة وحدها هي القادرة على تطوير هذه العناصر جنبًا إلى جنب مع الطاقة الضرورية اللازمة لجمع عناصر هذه الجماعة في إطار كلي واحد"، هنا يقصد جولدمان أن العمل الأدبي هو الإطار الذي يضم وعي المجتمع ككل ثم يضيف بعد ذلك: "إن الدلالة الموضوعية للعمل الأدبي لا تتطابق دائمًا مع قصد المؤلف والمعنى الذاتي.. وليس للفنان أو الكاتب فيها إلا أنه سما بها، وذهب في تمثيلها أكثر مما يستطيعه الآخرون"، مرة أخرى، عن ضمير أي مجتمع، وعن أي رؤى له حول شخصية حسن البنا أو الجماعة التي أسسها كتب وحيد حامد؟!.

 

إن المؤلف والذين دفعوه أو دعموه أو شجعوه قد ظنوا في أنفسهم قدرة على أن يغيِّروا الرأي العام والضمير الجمعي لمجتمع بأسره؛ فيبدلون مجتمعًا بمجتمع أو شعبًا بشعب من خلال قصة مشوهة، ودراما غير محبوكة، وذلك بإرغام أنف علم الاجتماع وعلمائه، وبليِّ ذراع الأدب ونظرياته ونقاده، حقيقة أنا مشفق على مصر أن يكون فكر إدارتها هو من يقف وراء هذا المسلسل.