بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، ثم أما بعد..

إخواني وأخواتي وأحبابي في الله، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

حديث آخر في نهاية شهر رمضان، من القلب إلى القلوب التي عاشت هذا الشهر الكريم، وعاشت مع القرآن العظيم؛ قول ربنا سبحانه وتعالى؛ الكلام الذي نزل على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم روحًا من عند الله عز وجل.. ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ (الشورى: من الآية 52)، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)﴾ (الشعراء) جبريل عليه السلام على قلب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ونعيش معه بأرواحنا ليكون علاجًا لأرواحنا وأبداننا وعلاجًا لمشكلات أمتنا كلها.. ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ (الأنعام: من الآية 89)، هذا هو حال القرآن الذي يجب أن يكون عليه، وهذا ما يجب أن يكون عليه حالنا مع القرآن الكريم.

نحن ما قد دخلنا شهر رمضان إلا وها نحن نستعد لوداعه.. هكذا الأيام الحلوة الطيبة تتفلت من بين أيدينا، ولهذا نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُبقي فينا خير رمضان بعد رمضان، وهذا لنا معه حديثٌ آخر معه إن شاء الله رب العالمين.

أما العشر الأواخر فهي فرصة المنافسة التي نحن فيها الآن للمسارعة.. الأعمال كلها في دنيانا تكون بهمةٍ وعزيمةٍ في بدايتها، وعند اقتراب نهايتها تجد العزيمة قد فترت، والهمة قد ضعفت، والناس بدءوا يلملمون أعمالهم لتكون الختام والنهاية استراحة من هذه التكليف.

أما فرائض ربنا- عزَّ وجلَّ- وأما تكليف ربنا- عزَّ وجلَّ- ما دام من المحبوب فهو محبوب، فنحن نحب تكاليف ربنا لأننا نحب ربنا عز وجل.

لذلك قال ربنا- عزَّ وجلَّ- في كتابه عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: ﴿فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ (آل عمران: من الآية 97)، وقال المفسرون: إن مقام إبراهيم أي الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام ليزيد في بناء الكعبة، ولو صفًّا واحدًا من الحجارة هو آية بينة وآيات بينات تدل على حبِّ إبراهيم عليه السلام لربه سبحانه وتعالى وحبه لتكاليف ربه سبحانه وتعالى، فنحن لم نصُم رمضان لأنه فُرض علينا مجبرين عليه، بل إننا سنُشهد الناس جميعًا أننا بعد رمضان سنتطوَّع من جنس ما فُرِضَ علينا في رمضان بصيام ستٍ من شوال؛ دليلاً على حُبنا لربنا، وحبنا لتكاليف ربنا، وفرائض ربنا علينا.

المسارعة في هذه العشر الأواخر تؤكد للمسلم أنك إذا أردت أن تُقدِّم عملاً لربك فأحسن خواتيمه؛ لأن الأعمال بخواتيمها؛ ولذلك يقول ربنا عز وجل من فضله على الأمة ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)﴾ (الزمر).

نحن نعيش هذه الأيام المقبلة بإذن الله سبحانه وتعالى سباقًا في جمع الحسنات، تسابقًا لجمع الخيرات والمسارعة إليها بين جميع المسلمين والمسلمات، ليس فقط في الشكل، ولكن في الروح والمعنى والمضمون، فيسبق درهم مائة ألف درهم، وتسبق سجدة عشرات الركعات؛ لأنها جاءت بإخلاص وخرجت بصدق نية لهذا ليبلونا ربنا أينا أحسن عملاً، وتكون المسارعة في الإتقان والإحسان وليست في الكثرة والعدد؛ فإن الله عزَّ وجل يسعد ويرضى عن العبد أن يدخل على أمته، أمة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، سرورًا في هذه الأيام المباركة بأعمال صالحة تنالها من الحسنات، وينال الناس منها الخيرات.

المسارعة في الخيرات في هذه الفترة في إخراج زكاة الفطر، ومن عجب أن زكاة الفطر واجبة على الفقير أيضًا؛ حتى نشعر أن المسكين أيضًا يذوق حلاوة أن تكون يده هي العليا يومًا ما، فيذوق حلاوة العزة والكرامة، ولا يجعل يده دائمًا سفلى يتلقَّى من الناس الصدقات، بل هو في هذه العشر الأواخر لا بد أن يُخرج هذه الزكاة مما آتاه من خير الله عليه ومن فضل الله- عزَّ وجلَّ- عليه من الصدقات.. هذا ارتفاع وسموٌّ بنفسية المسلم، حتى المسلم الفقير يشعر بأنه عزيزٌ كريمٌ، يخرج أيضًا من مال الله الذي آتاه صدقات لإخوانه الفقراء الذين هو مثلهم أو قد يكون هو أشد فقرًا منهم.

في هذه العشر الأواخر خُبِّئتْ ليلة القدر، ونلتمسها ونسارع إلها ونبحث عنها، ولا بد لنا فيها من وقفات:

الوقفة الأولى: أنها ليلة؛ أي أنه ستبدأ درجتها العالية هذه من بعد صلاة المغرب وحتى صلاة الفجر، كل هذا الأجر الذي هو أكثر من ألف شهر، ليس على صيام وليس على امتناع عن شهواتٍ حلال، بل معها أكل وشرب، معها ممارسة كل الحلال في الطاعات وفي الشهوات الحلال، ورغم هذا تأخذ هذا الأجر كله، لماذا تأخذ هذا الأجر له؟ على ليلةٍ ليس فيها صيام، بل فيها القيام، بل فيها قراءة القرآن، بل فيها الطاعات الأخرى غير الصيام؛ لأننا نستعد بعد رمضان لكي نعود إلى الإنسانية العادية التي ستتعامل مع الناس بالجسد والروح، فمَن سينجح في هذا الاختبار، ويستطيع أن يظلَّ على شفافيته وروحانيته العالية مع القرآن ومع رمضان، وهو في ليلٍ يأكل ويشرب فيه عاد إلى بشريته؛ حيث إن نهاره كان متشبِّهًا فيه بالملائكة، لا يأكل ولا يشرب، ولا يأتي شهواته الحلال؛ لأنه متشبه بالملائكة، فالآن يعود إلى بشريته مرةً أخرى فستكون الجائزة الكبرى لمَن استطاع أن يحقق هذا التوازن بين بشريته وروحانيته وملائكيته التي كان عليها في نهار رمضان.

زاوية أخرى.. أن القرآن نزل بالليل ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)﴾ (القدر)، وبالتالي سيكون نزوله بالليل إيذانًا بأن هذا المناخ الزمني هو المناخ الذي نزل فيه القرآن كي تتعامل معه بمثل هذا المناخ الذي نزل فيه، كما أن الصلاة فُرضت عند سدرة المنتهى فكانت معراج المؤمن من حيث نشأتها، وكذلك القرآن حينما نزل بالليل فلن تستطيع أن تتعامل بكل ما فيه من خيرات وروحانيات ويخرج لك كل ما فيه من كنوز إلا أن تتعامل معه بالليل الذي نزل فيه، فهذه مادته وروحه وزمانه الذي نزل فيه، فكن أنت جسدًا وروحًا تشف فيه روحك وأيضًا تتعامل مع القرآن بالليل ليكون لك وردٌ به في الليل تقوم به، فقد كان قيام الليل مفروضًا قبل أن تُفرض صلاة الفجر، وقبل أن تُفرض صلاة الظهر، وقبل أن تُفرض صلاة العصر، وقبل أن تُفرض صلاة المغرب، وقبل أن تُفرض صلاة العشاء، فعد إلى أصلك وعد إلى أصل قيام الليل الذي كان مفروضًا قبل فرائض الصلاة، وكان مكلفًا به كل الصحابة- رضوان الله عليهم- فرضًا في أول سورة المزمل، ثم جاء التخفيف في نهايتها بعد أحد عشر شهرًا.

الوقفة الثانية: أن رسول الله صلى الله عيه وسلم خرج ليخبرنا بليلة القدر وموعدها، فوجد رجلين يتلاحيان من المسلمين.. اثنين فقط يتلاحيان، فيقول صلى الله عليه وسلم "أنسيتها" فظلَّ هذا الدرس معنا، وسيظل إلى قيام الساعة.

يا مَن تبحثون عن ليلة القدر، كان السبب في حرماننا من موعدها بالتحديد اثنين من المسلمين تلاحيا، فبالله عليكم كلما رأيتم اثنين من المسلمين يتلاحيان فقولوا لهما نحن الآن نُذكِّركما بليلة القدر، حُرمنا من موعدها بسبب اثنين مثلكما، فلا ندري ماذا سيحرمنا ربنا من الخير بسبب خلافكما هذا، ولهذا مَن قال لكم لا دخلَ لكم فقولوا له: نحن حُرمنا موعد ليلة القدر بسبب اثنين مثلكما، فنحن نضرُّ بمثل هذه الخلافات.

وبالله عليكم لو كانت الأمة بهذا الشكل من الخلافات بين دول المسلمين وبعضها، وبين قيادات المسلمين وبعضهم، وبين حكام المسلمين وبعضهم، بل وبين المسلمين وبعضهم، كم من الخير نُحرم الآن بسبب هذه الخلافات؟!!

ولذلك وجب علينا جميعًا أن نتوجَّه إلى الله عزَّ وجل أن يصلح ذات بين المسلمين، وأن يؤلِّف بين قلوبنا جميعًا؛ حتى يجمعنا جميعًا حول كتابه وحول حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى قبلته الواحدة، وإلى الكعبة الشريفة، وإلى الدعاء بنصرة الإسلام والمسلمين في كل مكان، وإلى رجم إبليس عدوًّا واحدًا، عدوًّا للمسلمين في كل مكان.

أسال الله عز وجل أن يعزَّ دينه وينصر دعوته، وأن يجعلنا وإياكم من عتقائه من النار في هذا الشهر الكريم.

وآية الدعاء بين آيات الصيام دليل على أهمية الدعاء، فأكثروا من الدعاء في هذه الأيام المباركة لإخوانكم المسلمين والمأسورين والأسيرات والمسجد الأقصى وفلسطيننا الحبيبة.. أكثروا من الدعاء لهم حتى ينصرنا الله عزَّ وجلَّ وينصرهم، ويعزَّنا ويعزهم، ويأذن لدينه أن يحكم، ولدعوته ولشريعته أن تسود.

أسأل الله أن يتقبَّل منا ومنكم، وأن يعتق رقابنا ورقابكم من النار في هذا الشهر الكريم، وأن يجعل رمضان والقرآن شفيعين لنا يوم القيامة، وأن ينوِّر بهما قلوبنا وقبورنا، وأن يجعلهما نورًا لنا على الصراط، ونورًا لنا في الجنة يا ربَّ العالمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.