من الناس من يعيش لنفسه، لا يُفكِّر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، فإذا مات لم يأبه به أحد، ولم يحس بحرارة فقده إنسان، ومن الناس من يعيش لأمته واهبًا لها حياته حاضرًا فيها آماله، مضحيًا في سبيلها بكل عزيزٍ غالٍ، وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون، وامتلأت بذكرهم القلوب.

 

ومن هؤلاء الإمام حسن الهضيبي، عليه رحمة الله, ففي مثل هذا الشهر رحل عن عالمنا الإمام الممتحن المستشار حسن الهضيبي، عليه رحمة الله تعالى، المرشد العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين بعد الإمام الشهيد حسن البنا، عليه رحمة الله تعالى.
صاحب الكلمة المشهورة: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم.

 

من هو الإمام الهضيبي؟!

هو حسن إسماعيل الهضيبي, وُلد في عرب الصوالحة بشبين القناطر عام 1303 هجرية= الموافق ديسمبر1891 ميلادية.

 

وكان أوسط إخوته الذكور, وتعلم في كتاب القرية وحفظ القرآن الكريم, والتحق بالأزهر، فحصل على المدرسة الابتدائية عام 1907م, ثم المدرسة الخديوية الثانوية، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1911م.

 

والتحق بمدرسة الحقوق وتخرَّج عام 1915م، ثم قضى فترة التمرين بالمحاماة في القاهرة؛ حيث تدرَّج محاميًا لمدة تسع سنوات.

 

عمل في حقل المحاماة في مركز شبين القناطر فترةً قصيرةً، ورحل منها إلى سوهاج لأول مرة في حياته دون سابق علم بها ودون أن يعرفه فيها أحد، وبقِيَ فيها حتى 1924م؛ حيث التحق بسلك القضاء.

 

 الصورة غير متاحة

 علاء محمد عبد النبي

كان أول عمله بالقضاء في "قنا"، وانتقل إلى "نجع حمادي" عام 1925م، ثم إلى "المنصورة" عام 1930م، وبقي في "المنيا" سنةً واحدةً، ثم انتقل إلى أسيوط، فالزقازيق، فالجيزة عام 1933م؛ حيث استقر سكنه بعدها بالقاهرة.

 

تدرج في مناصب القضاء، فكان مدير إدارة النيابات، فرئيس التفتيش القضائي، فمستشارًا بمحكمة النقض، حتى استقال من القضاء عام 1950م بعد اختياره مرشدًا للإخوان المسلمين.

 

وتعرَّف على دعوة الإخوان في الأربعينيات، وكان وثيق الصلة بالإمام الشهيد حسن البنا ومواظبًا على حديث الثلاثاء, فكان جنديًّا مجهولاً للكثيرين؛ نظرًا لوظيفته, لكنه كان دائم الزيارة للمركز العام للاخوان المسلمين، ومنفردًا بالإمام البنا، وكان بجانب البنا في أيامه الأخيرة, واتخذه البنا صفيَّه ومستشارَه وموضعَ سرِّه, فقد كانا يجلسان معًا في جمعية الشبان المسلمين وكأنه أفضى إليه بكل ما عنده وشرح له جميع المواقف, وحلَّل له كل الشخصيات.

 

يقول الهضيبي عن آخر لقاء له مع البنا:

كانت الساعة الحادية عشرة مساءً، ودق الجرس، وفتحت الباب، فدخل حسن البنا يحمل إليَّ آخر أنباء مفاوضاته مع الحكومة، ولا أعلم لماذا كنتُ منقبضًا.. لماذا كنتُ ضيقَ الصدر.. لماذا تجمعت فوق طرف لساني كلمة "القتل"!!.

 

كنت أحسُّ أن هذا الرجل سيُقتل.. ستغتاله يد أثيمة.. فإن الحكومة- أي حكومة- لا يمكن أن تعجز عن قتل رجل أعزل إلا من الإيمان.

 

وأراد أن ينصرف.. وصافحته.. وإذا بي أعانقه وأقبِّله.. ولا أكاد أمسك دموعي أو أخفيها.. وابتسم رحمه الله، وقال: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

 

وفي اليوم التالي 12/2/1949م اغتالت الحكومة مواطنًا اسمه حسن البنا.

 

لقد تمَّ اختيار المستشار حسن الهضيبي مرشدًا عامًّا للإخوان المسلمين يوم 19/10/1951م في ظروف حالكة مرت بها الجماعة من فتن ومحن.

 

اعتقل للمرة الأولى مع إخوانه في 13 يناير 1953م، وأُفرج عنه في شهر مارس من نفس العام؛ حيث زاره كبار ضباط الثورة معتذرين.

 

واعتُقل للمرة الثانية أواخر عام 1954م؛ حيث حوكم وصدر عليه الحكم بالإعدام، ثم خفِّف إلى المؤبد، ونُقل بعد عام من السجن إلى الإقامة الجبرية لإصابته بالذبحة ولكبر سنه، ثم رُفعت عنه الإقامة الجبرية عام 1961م.

 

أُعيد اعتقاله يوم 23/8/1965م في الإسكندرية، وحوكم بإحياء التنظيم، وصدر عليه الحكم بالسجن ثلاث سنوات، على الرغم من أنه قد جاوز السبعين، أُخرج لمدة خمسة عشر يومًا إلى المستشفى ثم إلى داره، ثم أعيد لإتمام مدة سجنه.

 

مدِّدت مدة السجن بعد انتهاء المدة حتى 15 أكتوبر 1971م؛ حيث تمَّ الإفراج عنه صحيًّا.

 

موقفه من تولِّي الوزارة

كان صاحب نظر رشيد في أمور السياسة, فحين عرض ضباط الانقلاب على الجماعة ترشيح البعض منهم لبعض الوزارات, كان رفضه للفكرة مفاجأةً, قال للجماعة: إن للدعوة هدفًا أساسيًّا هو رد الاعتبار للإسلام وشريعته, فإذا اشتركوا في الحكم دون تحقيق الهدف, ثبتت التهمة الملصقة بهم بأنهم جماعة استغلوا الإسلام وجعلوا منه ستارًا يُخفي هدفهم الأساسي, وهو الوصول إلى كراسي الحكم.

 

وقاد الجماعة في محنتها، وفيًّا أبيًّا لدعوته، حتى لقي ربه صباح يوم الخميس 14 شوال 1393 الموافق 11 نوفمبر 1973م, وأقيمت على روحه صلاة الغائب في المسجد الحرام  والنبوي، وصدق فيه قول الإمام البنا: "إنه رجل نذر نفسه لله، وإنه جنديٌّ لهذه الدعوة".

------------

* [email protected]