حينما نتحدث عن الأئمة الأعلام الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه- ونحسب أن إمامنا رحمه الله من بينهم- لا يدور في ذهن القارئ أننا نقدِّس أحدًا أو نضعه في مرتبة فوق غيره من الناس، فنحن والحمد لله من أبعد الناس عن تقديس الأشخاص؛ لأن هذا الأمر ممنوع في الإسلام، وقد نهى عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بصراحة تامة، فقال: "لا تعظِّموني كما تفعل الأعاجم، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة"، لكننا نحب ونقدِّر كل داعية أو مصلح خدم دينه أو دافع عن وطنه وبذل في سبيل إعلاء الحق كل غالٍ ورخيص، نحن جميعًا كمسلمين نحب ونقدِّر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدين، ونحب ونقدِّر أهل بدر وأهل بيعة الرضوان.
ونحب ونقدِّر جميع الصحابة؛ الذين عاهدوا فوفُّوا، وقالوا فصدقوا، ونحب كل من جاء من بعدهم ممن رفع اللواء وأحيا الجهاد في سبيل الله وانتصر لهذه الرسالة، وعلى سبيل المثال نحب ونقدِّر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، ونحب صلاح الدين الأيوبي.
ونحب ونقدِّر الصالحين من بعدهم ممن ساروا على الدرب وحملوا الراية، ونحب ونقدِّر الشهيد عمر المختار في ليبيا، والقسام في فلسطين مثلاً للجهاد والصبر، رغم ما به من علل، ونقدِّر جميع شهداء الإخوان، من عرفْنا منهم ومن لم نعرف، وما قيمة معرفتنا؟ حسبهم أن الله يعرفهم، وأن ملائكته تعرفهم، وإمامنا الشهيد هو في قمتهم جميعًا، هو الرائد نحسبه هو وإخوانه وكل من ذكرنا من الذين قال الله فيهم ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)﴾ (السجدة).
إن الإسلام علمنا هذا الخلق في النظرة إلى الأسلاف.
يقول الإمام البنا رحمه الله:
ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عُرف من طيب أعمالهم قربةٌ إلى الله تبارك وتعالى، والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى ﴿آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣)﴾ (يونس)، والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لا نفسهم نفعًا ولا ضرًّا في حياتهم أو بعد مماتهم، فضلاً عن أن يهبوا شيئًا من ذلك لغيرهم (رسالة التعاليم).
ولقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يكون للحق دعاة، وأن يكون للمعرفة رواد من بني الإنسان، تصنعهم عناية الله ورحمته؛ ليكونوا الدليل والحادي في حياة المسلمين، وليكونوا النماذج العملية والقدوات الطيبة التي يحذون حذوها، ويقتدون بها قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا (39)﴾ (الأحزاب).
وهؤلاء الدعاة الأبرار إنما ينجحون في دعوتهم بمقدار اقتدائهم بمن سبقهم، وقربهم منهم، واقتدائهم برسل الله وأنبيائه، عليهم أفضل الصلاة والسلام، قال تعالى ﴿.. فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام: من الآية 90).
وأنت أيها المسلم.. لن تنجح في حياتك أبدًا إلا إذا اقتربت بحق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل السلف الصالح رضوان عليهم، وتعبَّدت بهذا القرب، ورضيت بحق وصدق بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً.
إن سنة الله عز وجل تمتدُّ من بعدهم، مع كل من أخذ طريقهم واهتدى بهديهم، والتزم بمنهجهم التزامًا حقيقيًّا يقيمه في الدنيا، ويشرفه في الآخرة، واتبعهم بإحسان.
يا أخي.. أين أنت من هذا كله؟ في صباحك ومسائك، في غدوِّك ورواحك، وأنت في مكتبك، وأنت بين أهلك وأسرتك، وأنت تتعامل مع الآخرين؟!
أين أنت؟ إياك أن تُشغل بغير خلق الإحسان حتى إذا أساء أحد إليك أو تعدَّى حدوده تنتصر بأخلاقك، تنتصر بصدقك، تنتصر بأمانتك.
بهذا الخلق يجب أن تُعرف بين الناس، ومن باب أولى مع أهلك وجيرانك وأقاربك وأينما حللت.
ونحن نؤكد هذا الكلام؛ لأننا في عصر تتصارع فيه القيم، وتختل فيه المفاهيم، وتُستباح الكلمة عند البعض بالتلاعب بها، وتسخيرها للحديث عن الشيء وضده حتى صَعُب على البعض أن يميز بين الشعارات المتعارضة والأشكال المتزاحمة في الساحات المختلفة.
واستغل البعض أجهزة الإعلام المختلفة لمحاولات مفضوحة ساذجة للإساءة إلى تاريخ الرجال الأبرار الذين حملوا رسالة الحق، ووقفوا أمام الموجات المادية الطاغية، ورفعوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله التي يصرُّ المجرمون والأشرار على محاولة تنكيسها.
يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله، وهو واحد ممن رباهم الإمام البنا رضوان الله عليهم جميعًا:
((لحكمة لا يعلمها إلا الله وحده، لأنه صاحب الأمر كله، وهو منزل الكتاب، ما قرأنا كلمة الإنسان في القرآن إلا والشر محيط به، والإثم فعله، والجهل صفته، والكفر خلته.. ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)﴾ (إبراهيم)، ممعن في الذنب حتى قال الله فيه: ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧)﴾ (عبس) دائم البوار حتى قال الله فيه: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)﴾ (العصر)، ولو ترك الأمر هكذا لكان مصير الإنسان.. كل الإنسان.. إلى سقر، ولكن الله بعباده رءوف رحيم، وبخلقه برٌّ كريم، فوضع العلاج الواقي الشافي للإنسان، فإن تناوله نجا، وإن أعرض عنه ضل وغوى، ولئن كان الدواء المادي وضع للداء المادي.. كذلك فإن الدواء المعنوي.. الروحاني.. الرباني.. قد أعد بكل دقة لأمراض النفوس وعلل القلوب، فمن راضَ نفسه عليه، وأخلد بكل جوارحه إليه بلغ المنتهى ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾ (العصر) ثم يقول رحمه الله بهذا الوضع ترى الإنسان في هذا العالم أصنافًا مصنفةً، وكلٌ ميسر لما خُلق له، فريق في الجنة وفريق في السعير فإن كنت صحيحًا بدنًا وروحًا فاحمد الله أن جعلك من الناجين، وإن كنت غير ذلك فلا تيأس وحاول؛ فالمحاولة عبادة، وجهاد النفس عبادة، وحسن الظن بالله مع العمل أو محاولة العمل عبادة.
وهكذا ترى أينما فعلت أو قلت أو تصرفت تبتغي النجاة فأنت في عبادة متواصلة.
والآن إلى الإنسان أنواعًا: إنسان تحلو في عينه المعصية، ويركن إلى النفس الأمَّارة بالسوء متبعًا هواها ومتمنيًا على الله الأمانى، دون عمل أو رغبة في عمل أو حتى تفكير في عمل، أوْثقه الشيطان بحباله، فهو لا يستطيع منه فكاكًا، واستهوته الدنيا بملذاتها وبهرجها، فركن إليها، وظن أن مالها من فناء، وغرَّته قوته، فأخلد إلى كل ذلك، غافلاً عن يوم توفَّى فيه كل نفس ما اجترحت، ويستجير بكل ما توهمه له مجيرًا، فإذا بالكل يهرب منه صائحًا به: إني عنك اليوم مشغول ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)﴾ (الأعراف).
وما أتعس وما أشقى الإنسان أن يكون مثله كمثل الكلب ﴿كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (الأعراف: من الآية 179) وإنسان يمُنُّ عليه بكل ما يتمناه، فينساق في طريق الغواية، ويستصحب دعاة الضلالة، ويتمرَّغ في حمأة الإثم، ويطول به الأمد في الذنوب، ثم تدركه رحمة الله فيفيق على لحظة، تدركه فيها العناية، فإذا به تائب، مستغفر، راج، منيب، فيلقى أبواب الرحمة مفتوحة المصاريع، وجنبات المغفرة واسعة الرحاب، فيغسل أدرانه بماء التوبة الطهور، فإذا به من الناجين.. ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥)﴾ (الزمر).
هذا الإنسان بأوبته هذه يقطع على الشيطان طريقه، ويفسد عليه حبائله، ويرد كيده إلى نحره، ويطرده من حضرته، ويتجنَّب وساوسه، ولا يخرجه ذنب من إيمانه، ولا ييئسه إثم من رحمة ربه، فربه كريم غفور رحيم، ودود كريم، يرضيه أن يعود عبده إليه ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليقوب مسيء النهار)).
هذه بعض القطوف الدانية من الروح والريحان، كتبها أحد الرجال الذين رباهم الإمام البنا رحمه الله على هذا الحق المبين، وعلى التجرد والإخلاص لله رب العالمين، أطلنا في نقلها بنصها لحاجتنا إليها، فيجب أن نتجب الطريق الذي لا يهدي إلى الله ولا نسلكه أبدًا، وأن نثبت أقدامنا بقوة على الصراط المستقيم، فذلك هو طريقنا، وهو حياتنا، وهو سرُّ وجودنا حتى نلقى الله سبحانه وتعالى.
نعم.. لقد ربى الإمام البنا- عليه الرضوان- جيلاً كريمًا، ووضع أساسًا ثابتًا، وشيَّد بناءً شامخًا وأوجد تيارًا إسلاميًّا، وأرسى دعائم مدرسة خرَّجت البطولات الفذة من الأوفياء الأمناء على أوطانهم وأمتهم، هذه البطولات ظهرت عمليًّا وبوضوح وبقوة في الميادين كلها.. في ميادين الحروب.. في الوقفة الصادقة أمام أعداء البشرية وحثالات العالم وشذَّاذ الآفاق من الصهاينة، وأمام الإنجليز في القناة؛ حيث أثارت الرعب في صفوفهم، وجعلت الحياة لهم في وادي النيل مستحيلة، فخرجوا مطرودين إلى غير رجعة، كما ظهرت البطولات في سجون عبد الناصر، وتحت مطارق العذاب وكرابيج الشياطين التي ظلت تلهب الظهور المؤمنة، الأيام والليالي والسنين، بلا هوادة، فما تغيَّر قلب، ولا نكص أحد عن عهد، بل قالوا جميعًا: آمنا بالله وحده، كما ثبت الرجال الأبرار تحت أعواد المشانق، يقول أحدهم لابنه: يا إبراهيم، إن أباك أقل من أن يموت في سبيل الله، وهو من هو في جهاده ومواقفه ضد الإنجليز ومواقفه في ميدان القتال في فلسطين، ويقول الآخر من الشهداء، وهو يصعد على المقصلة في ثبات المؤمنين بصوت مسموع: اللهم سامحني وسامح من ظلموني!.
أرأيت إلى هذه الدرجة من الإيمان العميق واليقين؛ بات ما عند الله هو خيرًا وأبقى!.
وهكذا تثمر تربية الإمام البنا.. تثمر الروح والريحان، وتجعل المؤمن يهفو إلى لقاء ربه، غير عابئ بما يلقاه في الطريق، وهو يتلو قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)﴾ (الواقعة).
يقول الشاعر المسلم في هذا الرعيل المبارك:
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يومًا وأخطأ دمع العين مجراه
اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، ورضِّنا وارض عنا، اللهم ثبت قلوبنا على الحق، وقوِّ عزائمنا، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل، وارزقنا حسن التوكل عليك، إنك نعم المولى ونعم النصير.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
---------
* من علماء الأزهر الشريف.